الإمام الشيرازي.. سيرة مجاهد من أجل الحرية

الشيخ زكريا داوود

تواصلت المسيرة العلمية في أسرة الإمام الشيرازي «رحمه الله» طيلة قرنين ونصف من الزمن، وقد أخرجت الأسرة المباركة العديد من الشخصيات العلمية التي ساعدت كثيراً في تطوير الفقه الشيعي، وإثراء المكتبة الفقهية والدينية بالكثير من الإنتاجات التي فرضت حضورها في البحوث الفقهية والأصولية للكثير من الفقهاء الشيعة.

لكن ما يميز هذه الأسرة الكريمة هو مساهمة فقهاء هذا البيت الرفيع في التصدي لتطوير الواقع الشيعي العام من خلال الوقفات الرائدة في الأوقات المصيرية التي مرت بها الأمة، وهي وقفات أخرجت المعدن الأصيل التي عجنت منه طينة هذا البيت الطاهر، فهذا آية الله العظمى الميرزا محمد حسن الشيرازي «رضوان الله عليه» «1230- 1312هـ» الذي عرفته الحوزة العلمية بالمجدد الشيرازي، وكأن لقب "المجدد" بمجرد إطلاقه ينصرف الذهن إلى الميرزا محمد حسن الشيرازي، وهو أمر له دلالته العلمية والسياسية والاجتماعية.

فقد برز الميرزا الشيرازي في العديد من المجالات، وكان أبرز موقف له هو كشف مؤامرة الإمبراطورية البريطانية التي كانت تهدف من خلال الكثير من خطواتها ومشاريعها التي ألبستها ثوب المعاهدات التجارية إلى السيطرة على الدولة الإسلامية وخصوصاً إيـران.

لكن العين اليقظة والفهم السياسي العميق الذي امتاز به المجدد فوت هذه الفرصة حينما أصدر الفتوى الخالدة التي حرم فيها استعمال التنباك ونص الفتوى هو «بسم الله الرحمن الرحيم، استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان ومن استعمله كمن حارب الإمام عجل الله فرجه».

وقد حررت هذه الفتوى الشعب الإيراني من الذل والمهانة الذي أرادت بريطانيا فرضها على الدولة القاجارية وشعبها عبر امتياز التنباك، وكانت الفتوى بمثابة حرب جهادية ضد المؤامرات البريطانية وما تزمع القيام به لإخضاع المسلمين لنفوذها وسيطرتها.

وكانت هذه الفتوى مفاجئة للدوائر الغربية التي لم تتعود على مثل هذه المواقف، وكان المجدد هو قائد المعركة والتحرير كما كان رائد العلم والحوزة العلمية وشيخ الطائفة وكبيرها، فقد دانت الطائفة لتقليده في كل بقعة من بقاع الدنيا وأصبح الرئيس المطاع الذي يمثل امتداداً رسالياً لفكر وتعاليــم أهــل البيـت (عليهم السلام).

أما الشخصية الثانية التي برزت من هذه الأسرة والتي قادت الأمة كذلك نحو التحرر من الكبت والاستبداد إلى مجالات الحرية والمطالبة بالحقوق فهو آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي «رضوان الله تعالى عليه»، وهو الذي فجر ثورة العشرين عام «1920م»، وقد جعل العراق أرضاً تغلي تحت أرجل القوات الغازية التي أرسلتها بريطانيا، فلم تستطع هذه القوات الصمود أمام إرادة الشعب العراقي الذي يقوده الميرزا محمد تقي القائد الذي يستلهم مبادئ الثورة من أجداده الكرام.

ولا غرو أن تكون هذه الأسرة المباركة رائدة الثورات والنهضات التحررية فهم يتصلون نسباً إلى جدهم الثائر زيــد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) الذي قاد ثورته المباركة ضد الدولة الأموية التي ترمي إذلال أهل البيت (عليهم السلام)، وقد خرج زيداً جيلاً من الثوار تعاقبت نهضاتهم وثوراتهم حتى سقطت الدولة الأموية.

وقد كتب العديد من الباحثين عن هذه الشخصية وتأثير مواقفها على تاريخ العراق ومستقبله وما أدت إليه تلك المواقف من نصر لحركة الاستقلال من نير الإمبراطورية البريطانية.

وهكذا واصلت هذه الأسرة المسيرة في تخريج العظماء إلى أن يأتي عام 1347هـ فيبزغ نجم في الأفق يضيء الدرب ويوصل أمجاد الأسرة إلى ذراها، فيأتي الشيرازي "محمد" من بوابة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فينهل العلم والحلم والزهد والعزيمة من جده وصي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتتطلع عيناه إلى ضريح جده (صلى الله عليه وآله وسلم)، يمر بطريقه على القبر ويطرق برأسه إلى الأرض وتنفجر عيناه بالدموع قبل أن ينطق لسانه، السلام عليك يا جداه يا أمير المؤمنين (عليه السلام).

وكأن النداء يملأ الخافقين: وعليك السلام بني محمد، وهكذا يستلهم درس الصمود والعزيمة ويعب علماً، فتحلق روحه بين حلقات الدرس والتحصيل وينتهل من أبيه وأسرته الكريمة ومدرسية أكرم وأنبل الصفات القيادية، ويتذكر في خطواته خطوات جده أمير المؤمنين (عليه السلام) في جنبات الكوفة والنجف، فلا يستكين حتى يواصل مسيرة العلم والحلم والنهضة التي فجرها الأمام علي (عليه السلام).

ويهاجر الأب كريم الأصل آية الله العظمى السيد مهدي الشيرازي «رضوان الله تعالى عليه»، ويصطحب معه الأسرة الكريمة، وكان عمر الإمام الشيرازي «رضوان الله تعالى عليه» آنذاك تسع سنين، لكنه يذهب إلى مدرسة أخرى في التربية والجهاد والنضال ضد الأفكار المنحرفة، والسياسات الجائرة، فيحط رحله مع الحسين (عليه السلام) ويلبس لامة الحرب ويأتي إلى جده الإمام الحسين (عليه السلام) رمز الثورة والنهضة، ويصطف في كربلاء مع أصحاب الحسين (عليه السلام) ، وينتظر الإشارة من جده (عليه السلام)، ويأتيه النداء جند علمك وأرفع قلمك وابن مجدك وأكتب مسيرتك النضالية، حارب يزيد عصرك في ضلاله وتحريفه وتزويره، أدرك دين جدك محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيأخذ النداء مجامع قلبه، فيطوي فراش الرقاد ويودع الراحة، وتبدأ المسيرة، ويبني قاعدة التحرك والعمل والجهاد، ويربي محمد محمداً، ويربي محمد صادقاً، وهادياً، وعباساً.

وهكذا يٌبعث أصحاب الحسين (عليه السلام) ليجاهدوا مع محمد، وتبدأ أهم مرحلة من مراحل العمل والجهاد في المنطقة، وتعم القرى والمدن صحوة جديدة يطلقها قائدها من كربلاء، وتتواصل المسيرة لتخرج جيلاً حمل مشعل الحسين (عليه السلام)، وعب من فكره نور الهداية، واستلهم من روحه الثورة، ومن عزمه الصمود، ومن شموخه الإبـــاء، ومن شهادته التضحيــة والفـداء..

هكذا يعلمنا الشيرازي الذي وإن مضى على رحيله تسعة أعوام إلا أن روحة قد سكنت في صدورنا، ولا زلنا نراه في كل لحظه، ونسمع كلماته النيرة في كل آن، لم يمت الشيرازي لأنه خلف تراثاً ضخماً، وأوضح لنا الطريق، وربى قيادةَ رسالية تواصل دربه، ونحن نترسم خطى الشيرازي في فكره وفي الامتداد الرسالي الذي حمل مشعل النهضة من بعده، وسار على دربه.

ولكي لا تكون الذكرى مجرد حالة عاطفية فحسب سوف أتناول فكرة لطالما كان الشيرازي يركز عليها ويسعى لتحقيقها، وهي فكرة الحرية التي حرم منها أينما حل وأينما رحل، فكيف ينظر الإمام الشيرازي «رضوان الله تعالى عليه» لهذه المسألة وما هي أهميتها؟.

الشيرازي مفطور كجده الحسين (عليه السلام) على الحرية، ويكره الكبت ويسعى بكل ما أوتى من قوة لمحاربة صوره من الديكتاتورية والاستبداد والقهر والاستعباد وهدر الحقوق وسلب الكرامة، وقد تضمنت أغلب كتبه توجيهاً وتركيزاً لهذه القضية «الاستعباد» وخطرها على الأمة، فالكبت والديكتاتورية والاستبداد وهدر الحقوق هي الأسباب الحقيقية والرئيسة للجهل والتخلف التي تعانيه الأمة..

يقول الإمام الشيرازي «رحمه الله» في كتابه الصياغة الجديدة وهو يتحدث عن الحريات التي منحها الإسلام للإنسان: الذي يظهر للمتتبع أن الحريات الممنوحة في الإسلام مائة في مائة، بينما الحريات الممنوحة في العالم المسمى بـ«العالم الحر» عشرة في المائة أو أقل منه " «1».

والشيرازي عندما يبحث في الحرية يرى أنها ترتبط بكل مناحي الحياة، فأساس الاعتقاد الصحيح قائم على ممارسة حرية الاختيار، ونمو الاقتصاد الوطني يأتي من بوابة ممارسة الحرية، وانعتاق الأمة من ربقة التبعية الكاملة للغرب يبدأ من زاوية الحرية، فلا يمكن لأمة تسعى للرقي والنهوض وبناء صرحها الحضاري وهي تعيش في جو مخنوق، أو تنعدم فيه القدرة على ممارسة الحرية والاستفادة من الحقوق.

فالمستبد عندما يمارس الحكم يأتي معه بثقافة وفكر يناسب ويؤدلج بها ممارساته التسلطية، وهنا يسعى المتسلط عبر ثقافته السلطوية لقلب الحقائق لأنها في الغالب تناقض مصالحه وأهدافه، فيتربى جيل من الأمة يحمل ثقافة مزيفة، ومع توالي الأيام تتحول هذه الأفكار إلى نصوص مقدسة تدافع هذه الفئات التي تربت على تلك الأفكار عنها وتستميت في الدفاع عن رموزها.

أما المجتمع الحر البعيد عن تحكم النظم الاستبدادية فهو مسرح لعرض الكثير من الثقافات والآراء، ويكون التسامح سمة المجتمع الذي تشرب بالحرية فكراً وممارسة وعقيدة، ومن بوابة الحرية كما يقول الإمام الشيرازي تبدأ النهضة الحقيقية.

وهنا نلحظ أن الحرية كمنهج وفكر وثقافة وسلوك في إعتقاد الإمام الشيرازي تمثل إستراتيجية عمل وليس تكتيكاً وعملا وقتياً، ولذلك تعد الحريـة مطلباً عاماً لابد أن تبنى عليه كل مناشط الإنسان، ومن يسلب الحرية ويمارس القهر والاستعباد إنما يتحدى سلطان الله الذي خلق الناس وفطرهم عليها " لأن من تأمل كلمة لا إله إلا الله يجد في هذه الكلمة رمز الحرية وجوهرها"«2».

ولما كانت كلمة التوحيد رمزاً للحرية، وهي كلمة تحمل في ذاتها الشمول والعموم في رفض كل طاغية وكل ما يعبد من دون الله، سواء عبادة طاعة، كما تفعله المجتمعات في المشرق عموماً حيث يطيعون الحكومات الظالمة المستبدة في كل قوانينها ونظمها التي تخالف الدين، أو طاعة عبادة.

وهنا يأتي الإسلام ليلغي جميع الأرباب من دون الله ويفرض رباً واحداً خالقاً متعالياً عن البشر، ومن هنا بالذات يرى الشيرازي أن لا تبعيض في الحرية كما لا يمكن التبعيض في عبادة الله سبحانه وتعالى، " فالحرية عامة لجميع الناس حتى الكفار في مختلف أنواع الحقوق، ومنها الحرية الفكرية، أي حرية البحث والمناقشة في البحوث العلمية والبحوث الدينية، ومنها الحرية الاقتصادية أي حرية الاكتساب بجميع أنحاءها، ومنها الحرية الدينية، أي التسامح نحو الأديان الأخرى، ومنها الحرية السياسية التي تتناول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وان الحاكم يجب أن يكون باختيار الأمة وممن يتوفر فيه رضى الله سبحانه وتعالى وسائر الشروط الإسلامية " «3».

والحرية السياسية دائماً تأتي بحكم استشاري لأن الحكومة الاستشارية تنبع من فلسفة تقدمية حيث يعطى في ظل الحكم الاستشاري كل إنسان حقه وبهذا يتقدم المجتمع، وهي الصيغة المستفادة من الدين الإسلامي الحنيف، ونحن عندما نقول حكومة إسلامية أو دينية لا نقصد معنى الحكم في القرون الوسطى في ظل الحكومات المسيحية ولا بمعنى الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية في الإسلام فإن تلك الحكومات أضافت على الاستبداد الدنيوي الاستبداد الديني بمعنى أن كل ما يفعلونه من هتك الأعراض وسلب الأموال وإراقة الدماء وتعذيب الناس وسجنهم إلى غير ذلك، كانوا يقولون أنه إرادة الله سبحانه "«4».

وهنا نلاحظ أن الإمام الشيرازي ومن خلال هذه النصوص وغيرها أنه مسكون بحب الحرية والسعي لتطبيقها، وما تلك التنظيرات الكثيرة إلا سعياً منه لجعل الحرية ثقافة تمارسها الأمة في حياتها وجميع شؤونها، لأن الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعين مستقبل الأمة «5»، وإن كانت هذه الثقافة تستلهم فاعليتها من النبع الأصيل للإسلام فإن حركة الأمة سوف تسير نحو التطور والرقي في الميادين المدنية والعمرانية بل الحضارية بشكل عام، وما هذا التخلف الذي تعانيه الأمة إلا لكون النظم المعرفية للعقلية العامة تعلي من شأن الاستبداد وتقدس الحاكم المستبد وتسبح ليل نهار بحمده، وترى أن كل ما يفعله هو من صميم الدين، وهنا يتحول الإسلام إلى مجموعة طقوس وظواهر فقط..

ولكي يدلل الشيرازي على استيعاب الإسلام للحرية بشكلها المطلق يستعرض نماذج من هذه الحرية التي إن طبقها المسلمون في واقع حياتهم بعثوا حضارتهم من جديد وساسوا العالم، ويبحث الإمام الشيرازي «رضوان الله عليه» الحرية في كتبه المتصلة مباشرة بواقع الحياة ككتاب الفقه الاجتماع، وفقه السياسة، وفقه الحقوق، وفقه الدولة وغيرها من الكتب، وهذه النزعة من حب الحرية هي تعبير عن تقديس الكرامة الإنسانية والتي تتمظهر في حرية الاختيار والتعبير والإرادة والاعتقاد.

وكما لا يمكن حدوث التطور الحضاري للأمة في جو من الاستبداد والكبت والديكتاتورية فكذلك لا يمكن للإنسان أن يشعر بكرامته وإنسانيته إلا من خلال ممارسة الحرية في جميع أبعادها، هذا ما نستقيه من فكر الإمام الشيرازي، والحرية بهذا المفهوم لا يمكن أن تكون صورية وشكلية، لأنها نظام حياتي يستتبع إيجاد آليات مستوحاة من مضمون الفكرة، وهنا بالذات تنعكس الحرية لتصبح ثقافة عامة تمارسها الأمة بدءاً من شؤونها الشخصية وانتهاءاً بالممارسة السياسية والعامة.

والبحث عن الحرية في فكر الإمام الشيرازي «رضوان الله تعالى عليه» يحتاج دراسات عديدة تقوم بها مؤسسة تهتم بفكر هذا الإمام العظيم لكي يمكن أن نقف على النظرية بكل تشعباتها كما يراها هذا الإمام العظيم، ونسأل الله أن يوفقنا لكي نقوم بذلك في أيامنا القادمة..

* رئيس تحرير مجلة البصائر

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 5/تشرين الأول/2010 - 25/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م