دور التسلط والاستبداد في تكريس ظاهرة التأخّر

رؤى من فكر الإمام الشيرازي

 

شبكة النبأ: يعاني المسلمون في عموم المعمورة من حالات النكوص والتراجع في شتى مجالات الحياة، الأمر الذي جعلهم يعيشون حياتهم في حالة تأخّر واضحة عن الأمم الأخرى، وقد درس المختصون والعلماء وذوو الشأن هذه الحالة من جوانبها المتعددة أملا بالوصول إلى حلول واقعية تخطط للنهوض بالمسلمين واللحاق بالركب العالمي.

وقد قدّم لنا الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) جهدا واضحا في هذا المجال ناقش فيه أسباب التأخر الذي يقبع فيه المسلمون، ومع قراءته التفصيلية للأسباب التي أدت الى هذا الحال، وضع الإمام الشيرازي كثيرا من الحلول الناجعة بين أيدي من يهمهم الامر من اجل تجاوز هذه المحنة الكبيرة.

وهذا ما نلاحظه في كتابه القيّم الموسوم بـ (كل فرد حركة وفلسفة التأخر) ابتداء من عنوان الكتاب، حيث يشكل كل فرد في المجتمع الإسلامي طاقة وحركة مهمة ستسهم بتغيير حياة المسلمين نحو الأفضل فيما لو تم توجيهها وتوظيفها بالطرق الصحيحة، فقد عالج هذا الكتاب فلسفة التأخر من جوانب عديدة ولم يترك مجالا يتعلق بهذا الموضوع من دون الخوض به وسبر أغواره، ثم قدم الإمام الشيرازي بعد تأشير الأسباب جملة من الحلول الواقعية اللازمة لعبور حالات التخلف والنكوص.

ومن بين الأسباب التي وردت في هذا الكتاب، ظاهرة الاستبداد والتسلط التي تسيّدت المشهد السياسي الإسلامي عبر التأريخ، الأمر الذي أدّى إلى إبقاء الأمة في حالة مزرية ومؤسفة من التأخر، نتيجة لسلوكيات التفرد بالسلطة، فقد ذكر الإمام الشيرازي في كتابه هذا حول ظاهرة الاستبداد قائلا:

(إنّ المستبد يجلب الكره لنفسه ويفوّت على عمله مصالح كان يمكن أن يستفيد منها إن استشار الناس, فأي تأخر أكبر من هذا التأخر؟, ولا فرق في استبداد الحكام أو استبداد الأفراد, وإن كان كلما كان الفرد أكبر يكون تأخره عن الواقع بسبب استبداده أكثر والضرر أعظم).

وثمة عوامل مؤازرة للاستبداد تضاعف من مخاطره وأضراره، ومنها تضاءل همة الإنسان وتسيّد حالة الكسل على الأنشطة المجتمعية كافة، وقد يكون الكسل فرديا لكنه يمكن أن يتحول إلى فعل جماعي حيث يتغاضى الناس عن مظاهر الاستبداد بسبب كسلهم وعدم استعدادهم للمواجهة، وهو أمر غالبا ما يضاعف من تسلط المستبدين وابتعادهم عن الاستشارة وتفردهم في اتخاذ القرارات حتى الحاسمة منها متناسين القول الحكيم لسيد الحكماء والبلغاء الإمام علي ابن ابي طالب عليه السلام الذي يقول (من شاور الرجال شاركهم  في عقولهم ).

إذن فالكسل يساند التسلط بصورة او أخرى اذا يقول الإمام الشيرازي في هذا الصدد:

إنّ الإنسان إذا كسل لم يؤدّ حقاً, فكيف يمكن أن يكون متفوقاً)؟ ويضيف الإمام الشيرازي قائلا يجب (أن يترك الإنسان الكسل, وإذا كان كسولاً أمكن تداركه بالتنوع في أمر واحد) وهذا نوع من الحلول المقترَحة، إذ يمكن لمن يعاني من حالة الكسل أن يلجأ الى التعامل المتنوع في انجاز العمل الذي يقوم به مهما كان نوعه وبهذا يمكنه أن يحقق نوع من التآلف والتواصل مع العمل الذي يتعاطاه.

وإذا كان التأخّر يقف وراء حالة التراجع التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، فلابد (كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي) من ملاحظة الأسباب التي تفعّل نتائج حالات التأخر وتجعلها مهيمنة على الواقع الإسلامي ومنها كما يرى الإمام الشيرازي ظاهرة هدر الفرص المتاحة للمسلمين، وهو ما يؤدي بالتالي إلى مساندة التسلط والاستبداد الذي يشكل بدوره داء المسلمين وعدوهم الأول، يقول الإمام الشيرازي بصدد هدر الفرص:

(ومن فلسفة التأخر, عدم الاستفادة من كل فرصة ولو كانت قليلة, وعدم الاستفادة من كل قطرة ولو كانت مثقال ذرة، على تعبير القرآن الحكيم). بمعنى لا يصح هدر الفرصة مهما كان حجمها او نتائجها لأنها وفقا لقانون التراكم ستتعاضد مع غيرها من الفرص الجيدة لتحقق مكسبا ملموسا على الأرض، وهو ما يشيع حالة من الطموح نحو تحقيق المجتمع المنشود، فإذا كان الانسان ميّالا نحو التطور والارتقاء فإنه غالبا ما ينظر الى التجارب الجيدة التي سبقته في مجال التطور وهو أمر بساعده على تحقيق قفزة جيدة نحو التقدم اذا يقول الإمام الشيرازي بهذا الصدد:

(إن قسماً من الناس ينظرون إلى من دونهم فيرون أنفسهم متفوقين, بينما يلزم على الإنسان أن ينظر إلى من فوقه, حتى يصعد ويتقدم).

ولكي نتقدم ونحقق قوة فاعلة في مواجهة الاستبداد لابد أن نتحرك للقضاء على حالات التخلف، ووفقا لفلسفة التأخر التي يعالجها الإمام الشيرازي في كتابه هذا بشيء من التفصيل، فإننا نحتاج الى زرع حالة متوهجة من الطموح الدائم لدى المسلمين، كي نتمكن من مغادرة الصفات والسمات العملية والفكرية التي تحاول الى تسحبنا الى جانب التخلّف والتراجع المستمر في مجالات الحياة المتنوعة، علما أن هذه الصفات والسمات (كالكسل والاتكال على الغير واللامبالاة وغياب الطموح وغيرها) كلها صفات مساندة للاستبداد، لأنها تشكل بمجموعها منظومة سلوك مهيمنة على عموم المسلمين، الامر الذي يتطلب مناهضتها والتخلص منها.

وهو أمر طرحه الإمام الشيرازي في كتابه هذا، ولم يتوقف عند عرض المشكلات بل تجاوزها الى الحلول، ولم يبقَ سوى الانتباه لها والتعامل معها بخطوات اجرائية تحيل الفكر المطروح في كتاب امام الشيرازي الى عمل مجسَد يساعدنا على التخلص من الاستبداد بكل صوره واشكاله والانتقال الى المعاصرة المتوازنة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4/تشرين الأول/2010 - 24/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م