في التوازن الحضاري ورهان المستقبل التنويري

ماجد الشّيخ

في بعض محطات الصراع العربي – الصهيوني، مرّ زمان كانت انعقدت فيه بعض السياسات العربية الانتظارية، على تحقيق ما أسمي يومها مسألة "التوازن الاستراتيجي" مع العدو. وانتظرنا.. وبقينا ننتظر تحقيق أو تحقق مثل هذا التوازن، دون جدوى؛ إلى أن طلعت يومها "أزعومة" النظام الساداتي في التوازن الحضاري ورهان المستقبل التنويري

 

 في بعض محطات الصراع العربي – الصهيوني، مرّ زمان كانت انعقدت فيه بعض السياسات العربية الانتظارية، على تحقيق ما أسمي يومها مسألة "التوازن الاستراتيجي" مع العدو. وانتظرنا.. وبقينا ننتظر تحقيق أو تحقق مثل هذا التوازن، دون جدوى؛ إلى أن طلعت يومها "أزعومة" النظام الساداتي بشأن الخبراء السوفييت ودور الاتحاد السوفييتي في حجب سلاح "التوازن الهجومي" عن العرب. واليوم ها نحن في مواجهة "أزعومة" أخرى، عنوانها تحقيق "توازن الرعب العسكري" مع العدو.

 فهل نحن حقا في صدد إنجاز مهمة تحقيق عملية وفعلية لمثل هذا التوازن؟ وماذا في شأن التوازنات الأخرى السياسية، الاقتصادية، المجتمعية، الثقافية، العلمية، التصنيعية والحضارية بشكل عام، مما يمكن احتسابه إلى صف الضرورة أو ضرورات "التوازن الإستراتيجي" الحقيقية والفعلية؟ وهل يمكن إقامة توازن يضاهي بين الاستبداد وتوتاليتارية الأنظمة عندنا، والأنظمة الديمقراطية عند غيرنا على سبيل المثال، أو الارتداد والنكوص دائما إلى الماضي السحيق لمواجهة قضايا عالمنا المعاصر، وبضمنها مسألة قيام الدولة أو الأمة، وبناء مجتمعات مدنية، ومسائل الحداثة وضرورات الحوار وقبول الاختلاف والتسامح، والعمل من أجل احترام بنى التنوع التعددي سياسيا وثقافيا ودينيا؟.

 لكن وفي سبيل الوصول إلى مآلات نهائية مجدية لمسألتي التوازن والردع، ينبغي لميزان القوى السياسي أن ينتقل بنا شعوبا وأنظمة ومجتمعات، قفزات نوعية إيغالا في دروب التجدّد والتطوير، أو على الأقل إصلاح كامل منظومة العمل السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، واعتماد آليات مستقلة ومتكاملة، تنحو نحو الطلاق التام مع الارتباطات التبعية، لسياسات النظم الحاكمة مع القوى الدولية الكبرى، وتكتلاتها العاملة على تأمين مصالح أنانية خاصة بها، وهي للمفارقة، تمتلك العديد من مصادر الثروة الإستراتيجية، والمواد الخام الأولية، والأسواق والعديد من أنماط الاستهلاك الترفي والريعي، التي قلما تتواجد في بلدان التصنيع المادي المتطور، أي في المجتمعات الرأسمالية، رغم وجود أنماط أكثر إضرارا بتطور المجتمعات وحتى الحياة البشرية.

 وإذا كنا قد حققنا فعليا "توازن رعب" مع العدو، فلماذا لا يبلغ طموحنا وحرصنا الآني والمستقبلي؛ مستوى إقامة علاقات بينية سويّة، تمكننا من تحقيق توازن صدق وعدل وإنصاف ونزاهة في مجتمعاتنا؟ ولماذا لا يضيف مثل هذا التوازن الأخير في حال تحققه، تلك الإضافة الحضارية التي نريدها للتخلص من الاستبداد المقيم بين ظهرانينا، سواء في السلطة السياسية أو في ما يمكن تسميته بـ "السلطة المجتمعية" التي تماهي التباسها بالسلطة الدينية، مقيمة توازنا مركبا بين النظام الأبوي، وبضمنه ذلك النمط الوصائي الذي تعاني منه مجتمعاتنا أيما معاناة، إلى الحد الذي أصبحنا نعيش فعليا وسط مجتمعات رعب، هي بمثابة العصا الغليظة، والعائق المسترسل في فرض عقبات تحويل تلك المجتمعات إلى مجتمعات مدنية حديثة، وتحويل سلطات الأنظمة الحاكمة إلى سلطات مدنية، يمكن لتوازنها العادل أن يقود إلى بناء حداثة تنويرية تنهض بها من كبواتها، وتفتح آفاقا رحبة نحو دولة/أمة سيادية مستقلة في مجتمع الدول/الأمم الحديثة.

 إن امتلاك الإرادة السياسية، كما امتلاك كل العناصر الخاصة بتقدم التنوير، وتبنّي قيم الحداثة الكونية المشتركة، هي على الأغلب المهمة الأبرز لما يجب أن تكونه المقاومة، وثقافة مقاومة لا تعادي التنوير أو الحرية، كشرط لتحقيق عدالة أكثر من نسبية، وإنصافا ونزاهة وتسامحا بلا قيود؛ في مجتمعات أنظمة وسلطات لا تعرف أساسا غير القيود، تفرضها على الحرية، وعلى قيم الحداثة والتنوير، فأين يمكن والحالة هذه تحقيق أي "ردع" أو إقامة "توازن" حتى من النوع التكتيكي، إزاء قوى تفوقنا وتتفوق علينا في كل مجالات احتياجاتنا للتقدم الاقتصادي المنتج والاجتماعي المتطور والحديث، جنبا إلى جنب تطوير مناهج تعليمية مدنية وعلمية، وازدياد منسوب الثقافة، وكذا الحرية، وتحقيق مستويات أعلى من العدل، والانحياز للعقل النقدي غير الخاضع للمطلقات اليقينية، والتقليدية الإتباعية، والتبجيلية لتراث وسير وسرديات أسطورية اعتبرت وتُعتبر مؤسسة، فيما هي كانت أدّت في الماضي، وتؤدي اليوم أدوارا تقييدية، تعطيلية وتعويقية، هيمنت وتهيمن في فضاءاتنا العامة والخاصة، فرديا وجماعيا واجتماعيا على حد سواء.

 مرة جديدة.. أين نحن من "الردع" و "التوازن" الحضاري، في وقت تعاني فيه مجتمعاتنا من الحضور الطاغي للاستبداد، ومن غياب الحرية، ومن معاداة غالبيتها للتنوير، جنبا إلى جنب معاناتها من تخلف كل البنى التي تقوم مقام العمل على إنقاذ الشعوب، ومجتمعاتها وأنظمتها السلطوية من استبدادية قروسطية، ما تني تفرض هيمنتها إلى حد تهميش كل الضرورات، وفرض الفقر المدقع على حياة يمكنها أن تغتني من عناصر انفتاحنا على مكامن إبداعات عوامل التعدد والتنوع الشامل؛ تلك التي نفتقدها في كامل احتياجاتنا البنيوية وعلى كل الأصعدة. هذا هو رهاننا في المسألة الردعية، وهذا هو ما يمكننا من تحقيق توازننا واتزاننا، وإلاّ فسنبقى سكارى ندور في الحلقة المفرغة، دون أن يكون بمقدورنا التأسيس لعملية امتلائها، أو الخروج منها لحاقا بحاضر يؤسس للمستقبل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 3/تشرين الأول/2010 - 23/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م