التخطيط التنموي في العراق وغياب الرؤى الإستراتيجية

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: ينظر العالم الى العراق على أنه من أغنى بلدان العالم بسبب ثرواته الهائلة والمتنوعة سواء في كثرة المعادن المخبوءة في باطن أرضه (لاسيما النفط والغاز) أو توافر مقومات الزراعة الناجحة فيه، ناهيك عن القطاع السياحي في جوانبه الدينية (المراقد المقدسة) والتراثية (آثار بابل وأور والحضر) والترفيهية (مناطق شمال العراق/ والأهوار) بالإضافة الى عناصر الغنى الأخرى التي تؤكد فعلا بأن العراق من أغنى بلدان العالم.

ولكن مع هذا الغنى الكبير ثمة فقر مدقع تعيشه معظم شرائح الشعب منذ قرون متتابعة سواء عندما كان العراق يرزح سياسيا تحت نير الاحتلال او بعد أن تشكلت الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 او بعد الاستقلال الفعلي في عام 1958 حيث سادت العشوائية والتخبط في استخدام هذه الثروات بالإضافة الى دوافع الاستحواذ ومحاولات الثراء الفاحش للمتنفذين والأقوياء على حساب الضعفاء والفقراء.

ومع ذلك لابد أن يؤشر المراقب غيابا فادحا للتخطيط التنموي العلمي السليم وضمورا تاما لوضع الخطط التنموية الإستراتيجية التي تتواءم وحجم الإيرادات الهائلة التي تدخل خزينة العراق مقابل تصدير النفط وغيره من الثروات الأخرى، والسبب كما يلاحظ المتتبع للأمر تلاشي الرؤية المخلصة التي تضع النقاط فوق حروفها في الجانب الاقتصادي.

ولو أردنا الحديث عن الأرقام الهائلة التي تشكلت منها حزينة العراق خاصة بعد إزاحة النظام السابق (الذي بذّر ثروات العراق النفطية وغيرها) في حروبه الرعناء، لوجدنا أنها كبيرة حقا، قياسا لتعداد الشعب العراقي ومتطلباته، واذا كانت ظروف العراق السياسية في السنوات الأولى بعد التغيير قد وضعت معرقلات كبيرة لتحقيق القفزة الاقتصادية المتناسبة مع قفزة الإيرادات الواضحة، فإننا بعد الاستقرار الأمني النسبي لابد أن نطمح لبرمجة تنموية واضحة المعالم ومضمونة التطبيق.

فقد أعلنت وزارة المالية على لسان وزيرها بأنها خصصت وصرفت ما يفوق الـ 300 مليار دولار في غضون السنوات الأربع الماضية، وأوضح الوزير أن قطاع النفط وحده أخذ ما يقارب الـ 17 مليار دولار في وقت لا تزال فيه الطاقة الكهربائية متدنية جدا، وهذا ما ينبئ بوضوح كبير بغياب التخطيط التنموي السليم، ناهيك عن حالات الاختلاس والفساد التي عطلت من إعمار البلاد.

وقبل أيام أعلنت وسائل الإعلام بأن ميزانية العراق للسنة القادمة (نقلا عن وزارة المالية) تفوق الـ 80 مليون دولار، وهو رقم كبير قياسا لميزانيات البلدان المجاورة كالاردن وسوريا مثلا، ولكي لا تشبه هذه الميزانية سابقاتها، وتُهدر كما هُدرت تلك الأموال الطائلة بطرق غير مخطط لها سلفا، فإننا نرى أولوية وضوح الرؤية التنموية السليمة التي تكون قادرة على توظيف هذه الأموال الطائلة في الأماكن الصحيحة لها، وهذا يتطلب جهدا تخطيطيا علميا متخصصا في الجانب التنموي.

وهنا لابد من القول أن هناك أمما وشعوبا كانت أكثر فقرا منا وأكثر تخلفا وعشوائية في التعامل مع ثرواتها، لكنها تمكنت بعد أن اعتمدت الرؤى والبرامج التنموية السليمة والموضوعة من لدن كوادر متخصصة ان تنقل بلدانها من حالة الفقر المدقع الى حالة النمو والازدهار والإنتاج المتواصل، ولم تألُ الجهات ذات العلاقة جهدا في هذا المجال، بالإضافة الى خبراتها الاقتصادية في التخطيط التنموي استفادت كثيرا من تجارب الامم التي سبقتها في التخطيط والبرمجة التنموية السنوية والخمسية والعشرية وغيرها.

لقد توفرت لتلك البلدان إرادات سياسية مخلصة، بالإضافة الى توافر قوة القانون الذي تمكن من وضع المختلسين والمتجاوزين على المال العام تحت قبضة القضاء المستقل، لتنطلق في تخطيط وتنفيذ خطط تنموية نقلتها من خانة الفقر الى حانة الإنتاج والغنى كما حدث في الهند أو كما حدث في التجربة الصينية الفريدة في هذا المجال.

وهكذا بات من المؤكد بأن حاجتنا للتخطيط التنموي أصبحت كبيرة بل وملّحة الى ابعد الحدود لاسيما أننا نعاني من وفرة في الأموال وفوضى في استخدامها، ولعل العقبة الرئيسية التي أشرتها المنظمات المستقلة والجهات الرسمية بالإضافة الى واقع الحال هو المحاولات المستميتة التي تنفذها جهات وعناصر فاسدة تبغي الاستحواذ على المال العام بشتى الطرق والسبل والوسائل.

ولابد أن يعرف السياسيون قبل غيرهم خاصة من يضع في ذهنه ضرورة بناء مستقبله السياسي على أسس صحيحة وراسخة، أن وضع الخطط التنموية السليمة وتوفير شروط تنفيذها وحماية المال العام وتنظيم الأنشطة الاقتصادية في جانبيّ الإيرادات والاستهلاك، هي التي توفر الضمانة المطلوبة لحاضر سياسي ناجح ومستقبل مضمون، وفي حال اغفال السياسيين للجانب التنموي وتركيزهم على الفوائد الآنية (كتحصيل المال والنفوذ والجاه) فإنهم كمن يحاول أن يبني نفسه الآن ويهدمها بيده غدا.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 25/أيلول/2010 - 15/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م