مفاوضات الترتيبات الأمنية

وآفاقها المغلقة

ماجد الشّيخ

تبدأ المفاوضات المباشرة احتفاليا، في ظل سيطرة التفسير الإسرائيلي بإزاء الأسس التي ستلتزمها مسيرة التفاوض، وفي ظل شهود بلا فاعلية،  رغم التظاهر بدعم الطرف الفلسطيني المغلوب على أمره، بينما لا تبدي واشنطن أي استعداد لطرح رؤية لها، أو أيّ مقترحات باتت في عهدة الطرف الإسرائيلي المحكوم لمراوغات لا تنتهي، وذلك بذرائع عدم إغضاب قوى في الائتلاف الحكومي، أو المغامرة بواقع الحكومة ذاتها، إذا ما دفعت بعض قضايا المفاوضات لانسحاب هذا الحزب أو ذاك، ما يعرض الحكومة للسقوط.

 بمثل هذه الحجج والذرائع، يحاول نتانياهو كسب ود وتعاطف الولايات المتحدة، والأطراف العربية المدعوة لافتتاح المفاوضات، لمنحها بركات استمرارها، وفق وضوح رؤية نتانياهو التي لم تتغير، منذ خطابه في بار إيلان، مداورا ومناورا في البحث عن أسس لـ "سلام إقتصادي" يجنّب إسرائيل "الكأس المرة" للتنازل عن نسبة معينة من أراض فلسطينية محتلة، وبما يرضي المفاوض الفلسطيني لإقامة دولة عليها. من هنا ينطلق نتانياهو لرؤية سلامه مع الفلسطينيين من كونه "السلام الصعب" لكن.. الممكن والإمكانية التي يعنيها نتانياهو في هذا السياق، تستند إلى اتفاق يقوم على "ترتيبات أمنية" مرضية لإسرائيل، وعلى اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة للشعب اليهودي، وعلى وضع حد نهائي للنزاع"؛ وهو هنا كمن يصادرعلى المفاوضات قبل أن تبدأ، وذلك عبر فرض شروط مسبقة، حرّمها على الفلسطينيين وأباحها لنفسه، وكل ما يهمه ويهم أطراف ائتلافه الحكومي هو الوصول إلى "ترتيبات أمنية" واضحة، أما لجهة ما يمكن أن "يُمنح" للفلسطينيين فهو لا يتجاوز الترتيبات القائمة، وما يمكن أن يُستحدث وفقا للمصلحة الإسرائيلية المباشرة.

 ومن الواضح وفي ضوء قراءتنا للموقف الإسرائيلي، أن "الترتيبات الأمنية" ستكون أولى قضايا المفاوضات التي ستطلب إسرائيل بحثها، وحتى في قضية الحدود، ولانتمائها إلى بند الترتيبات الأمنية، ونظرا لتشابكها بين الإثنين، ستطالب حكومة نتانياهو ببقاء غور الأردن وقمم الجبال المطلة عليه تحت سيطرتها، لضمان مراقبة المجال الجوي الإسرائيلي، والتأكّد من عدم تهريب وسائل قتالية، أو القيام بعمليات تسلل من الأردن إلى أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية.

 وإذا ما مضت المفاوضات المباشرة كما يخطط لها نتانياهو، أي إدارتها شخصيا أمام الفلسطينيين، دون الحاجة إلى تشكيل طواقم في المرحلة الأولى، بهدف التوصل إلى ما يسمى "اتفاقا مبدئيا" للتسوية، فإن نوايا الاستفراد هنا لن تكون خافية ولا تحتاج إلى دليل، فعلى عادة المفاوضات السابقة التي افتقدت مرجعيات ملزمة؛ سياسية أو قانونية، يريد نتانياهو لهذه المفاوضات كذلك؛ أن تكون مجردة حتى من وجود شركاء يشهدون على نزاهتها، وهو في سياق رجحان الكفة الإسرائيلية فيها، سيحاول فرض شروط تسوية إسرائيلية لا تعترف بشريك في المقابل؛ إلاّ إذا خضع لها وقبل بشروطها المجحفة، فكل ما يطرحه نتانياهو حتى الآن لا يتخارج عن كونه الشروط التعجيزية، الإخضاعية؛ الهادفة إلى تحويل العملية التفاوضية كونها إحدى حلقات الاستفراد الأحادي الإسرائيلي بالطرف الفلسطيني المستوحد، والمتروك وحيدا لأقدار التسوية التصفوية الجاري محاولات تنفيذ تفاصيلها، بعد انفضاض سامر الاحتفاء الاحتفالي بوجود أطراف عربية ودولية غير فاعلة، ولن تكون مهتمة بما سيجري لاحقا.

 لكن أخطر ما يمكن ان تتّسم به المفاوضات المباشرة، هو أن تبدأ بشروط إسرائيلية وموافقة ضمنية أو غير ضمنية أميركية وعربية، حيث يجري حصار الطرف الفلسطيني المفاوض حصارا مطبقا، في محاولة لإجباره على الموافقة على تلك الشروط التي لا تحمل في طياتها سوى صياغات تصفوية، من قبيل الاندفاع الإسرائيلي نحو فرض "دولة ذات حدود مؤقتة" تخترقها المستوطنات والجدار العنصري والحواجز العسكرية، وتحيطها مخططات الأسرلة والتهويد، ويتواصل على جنباتها الاستيطان ويتزايد انتشار البؤر الاستيطانية كالفطر، من دون أن تستطيع السلطة الحالية، أو سلطة "الدولة القادمة" على صهوة مفاوضات الشروط الإسرائيلية، والأمر الواقع، النفاذ من شبكة إكراهات التفاوض؛ وفق الشروط الإسرائيلية الرافضة أصلا لأي موقف فلسطيني أو عربي يُشتم منه أنه يشبه أي شرط، أو ما يمكن اعتباره شرطا من الشروط.

 لكن أبرز ما بات يُخشى منه الآن، هي تلك الأهداف الكامنة خلف المفاوضات المباشرة وفي أعقاب بدئها مباشرة، من قبيل ممارسة المزيد من الضغوط الأميركية وربما بعض العربية كذلك، من أجل القبول بذاك العرض الإسرائيلي الذي يجري تداوله، وقد وصل مؤخرا إلى الجانب الفلسطيني عبر جهات عدة، فحواه إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة على مساحة تتراوح بين 80 و90 بالمئة من مساحة الضفة الغربية. ومكمن الخشية هنا، يتركز على أن الائتلاف الحكومي الإسرائيلي يخطط لجعل الحدود المؤقتة للدولة العتيدة حدودا نهائية، وهو ما يعني ضم القدس وإقامة دويلة فلسطينية مصغرة منزوعة السلاح خلف حدود الجدار العنصري، تحيطها "شبكة أمان" إستيطانية واسعة مدججة بالسلاح، وهذه هي الخطوط العريضة لما يمكن تسميته "مخطط الحدود والأمن" الذي حاول المبعوث الأميركي جورج ميتشيل تسويقه والفوز به أثناء فترة المفاوضات غير المباشرة، وأخفق؛ جراء رفض الجانب الفلسطيني.

لكن أحد الشروط الأكثر أهمية وحيوية لنتانياهو وائتلافه الحكومي، هو ذاك الذي تجلى مؤخرا في الإعلان عن رفضه البحث في حدود الدولة الفلسطينية العتيدة، بل أن يجري حسم قضية الترتيبات الأمنية التي يمكن تلخيصها في إرغام الفلسطينيين، على القبول بدويلة منزوعة السلاح، وبضمان وجود مراقبين دوليين على الحدود، ووفق معلومات هآرتس (22/8/ 2010) فإن الحدود "سترسم وفق الترتيبات الأمنية التي ستحصل عليها إسرائيل". رغم ذلك ، فإن التوقعات من المفاوضات المتجددة – وفق المحلل السياسي لصحيفة هآرتس ألوف بن، لا تتجاوز الصفر، حتى وهو يستند إلى مزاعم أن نتانياهو يدخل المفاوضات كرئيس وزراء شعبي، وأقوى ممن سبقوه إلى المفاوضات (باراك وأولمرت) ومن نقطة انطلاق أقوى، إذ أن غالبية الجمهور الإسرائيلي لا يهمها ما يمكن أن يُمنح للفلسطينيين، إنما "التهدئة الأمنية" وحدها وضمان توقف العمليات المسلحة، هي الهم الرئيس لهؤلاء.

 هكذا تبدو المفاوضات المباشرة العتيدة، حلقة أخرى من حلقات الآفاق المغلقة، وهي المفتوحة اليوم وغدا على المجهول/المعلوم من أهداف لا تضع نصب أعينها سوى محاولة إدارة أزمة صراع ليس نسيج وحده، بما يحيط به من أزمات إقليمية أو دولية، يمكن مقاربتها أو إيجاد بوادر لحلول دبلوماسية وسياسية لها؛ إذا ما توافقت إرادات المجتمع الدولي في شأنها؛ أما في حال الصراع حول القضية الوطنية الفلسطينية، فإن عدم توافق المجتمع الدولي، وحتى القوى الإقليمية، بل إن عدم توافق الوضع الفلسطيني نفسه، لن يتيح لأي تسوية أن تتم، فما يجري من مفاوضات، لا يتجاوز كونه مجرد "طبخة بحص"، لن تستوي أبدا في ظل معطيات الواقع الراهن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/أيلول/2010 - 27/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م