لغة القص والخيال الخلاق

اطلالة على تجربة عبد الستار البيضاني

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: لم يحفل القاص عبد الستار البيضاني بالدعوات التي كانت تذهب الى إلغاء دور المتلقي في انجاز النص الأبداعي وتجاهلت – تلك الدعوات - ماذهب إليه الشكلاني الروسي باختين عندما ألقى بنصف مسؤولية التأليف الأدبي على عاتق المتلقي وقد تسيَّدت  تلك الدعوات النقاشات الأدبية والنقدية أبان الثمانينيات ومطالع التسعينيات في المقاهي الأدبية والحوارات الخاصة ولم ينجرف البيضاني من جانب آخر في موجة السرد التعبوي التي غطَّت ثمانينيات القرن الماضي ولم يكن واحدا من اولئك الذين صنعتهم الجوائز الرسمية في زمن الحرب العراقية الأيرانية بل انه نأى بنفسه عن المسارين معا (فلم يلغِ القارئ من حساباته وفي الوقت نفسه لم يسقط في فخ أدب الحرب).

 وقد اختط له طريقاً خاصاً ربما يلتقي به مع القاص حميد المختار في استلهام التجربة القصصية من صميم الواقع العراقي ولكن بفن سردي له القـدرة على تدمير (السطوة الواقعية) للأحداث وهذا هو سر التقارب بين تجربتي البيضاني والمختار إذا صح هذا القول، وللتأريخ فقط نقول ان ثمة تجارب سردية أخرى لا تتماثل مع البيضاني او المختار ولكنها لم تنحدر ايضا في فخ القصة التعبوية التي كانت كما يراها آخرون وليدة مرحلة لا يمكن التهرب منها او تجنبها، ولا نأتي بجديد اذا قلنا ان البيضاني بدأ النشر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي بقصة عنوانها (الغصن) وقد وظَّف عنصر الخيال في اغلب سردياته المبكرة والتي تلتها ولكن مع تقادم التجربة القصصية بدا واضحا ان القاص قد إستوعب سر عملية السرد فلم يحدد قلمه بالأمكنة ذات الجذر المكاني الثابت او المعلوم ولم يحصر أحداثه القصصية بأزمنة محددة سلفا فصنع لنفسه بذلك فضاءات (زمنية مكانية) منفتحة فضفاضة (لها القدرة على تحرير السرد من تموضعه) على حد قول الناقد العراقي محمد صابر عبيد.  

وسينهل القاص عبد الستار البيضاني قصصه من نبع حكائي لا ينضب، بل هو نبع ميثولوجي متدفق لأناس الجنوب العراقي وعالمهم المتفرد في كل شيء، ولذلك فإن قصة (سمكة وهيبة)، تنطوي على واحدة من اندر الحكايات التي يحار القارئ بين تكذيبها وتصديقها.. فهي تبدو أشبه بعرض ميثولوجي لأولئك الناس الذين تميزوا بغرابة حياتهم وامتلائها بكل ما هو مدهش وقاسٍ حيث يقدم القاص سرداً قريبا من المنحى التسجيلي الأمر الذي نتوقع معه ضعف الفن وتضاؤل ملكات الخيال ولكن الذي حدث أمر معاكس، إذ ان الأجواء الحكائية الساحرة أثارت لدى القارئ تصورات بعيدة تغور في أعماق الجنوب وأساطيره وترسم وقائع ساحرة من الصعب ان يتقبلها العقل.

ومع ذلك فإن كل هذه الأحداث تدور في حلبتي الزمان والمكان من دون ان تنغلق او تتحدد فضاءات الخيال التي تأخذ مادتها وعناصر تكويناتها من ذاكرة الأبداع (فالذاكرة والخيال شيء واحد)، على حد قول توماس هوبز الذي يؤكد ايضاً على (ان الخيال في الأساس شكل من أشكال الذاكرة)، ولذلك فإن كل ما يُسرد لنا من وقائع في هذه القصة يستند الى ذاكرة تنجب خيالاً متدفقاً يتمكن من إعادة الحياة لحوادث بعيدة فيجعلها حية متحركة تنبض بحيويتها لاسيما مشهد الطقوس السحرية التي يؤديها كاشف الأسرار.

إن بطلة هذه القصة (وهيبة الدركي) إمرأة غريبة الأطوار وتقترب في تصرفاتها العدوانية من حالة الجنون السلبي(4) على الرغم من انها تحمل جمالاً أخّاذاً وساحراً، فلقد حاولت خنق خطيبها الأول، وقضمت انف خطيبها الآخر، ولم تتخلص من جنونها إلاّ على يد كاشف الأسرار الذي أبطلَ (العمل السحري) المعمول ضدها والذي كان مستقراً في بطن سمكة (جرّي) تعيش في الهور، وسنلاحظ هنا ان الخيال لم يعتمد لغة ثرية فحسب بل تميزت ايضا بانسيابها وصفائها فشغَّلتْ مخيلة القارئ وأوقدت خياله ليعيش بنفسه الأحداث التي كانت بطلتها وهيبة الدركي، هذه الشخصية التي تثير الخيال بحكاياتها المنبثقة من ارض الواقع الأسطوري للجنوب .

وفي قصة اخرى للبيضاني هي (قدّاس النبع والزيتون)، يأخذ الخيال دوره الحيوي في تأشير حدود حياة متكاملة مستعادة فيضفي على الاشياء الجامدة من حيث الانتماء الحركي حيوية التفجر والإيحاء الحاذق.

فالحياة هنا هي شجرة الزيتون وبطل القصة هو الغصن الشائخ من هذه الشجرة، وقد تجسدت قوة الخيال المتألق باستعادة الاحداث المتضاربة العامرة بالعشق والكره والتناقضات الشعورية الهائلة التي تعصف بصدر رجل يبدو عليه انه يعد نفسه للموت غير اننا سنلاحظ - بضربة خيال مؤثرة- تحوّل هذا الغصن اليابس الذي سيُفصَل عن شجرة الحياة (الزيتون) الى حيوية الشباب وصخب الماضي وعنفوانه الهائل عندما يدفع القاص ببطله الى التمويه ثم التحدي الكبير في مقارعة الموت وذلك عبر حركة فنية متقنة ممثلة – بتحوّل هذا الغصن الشائخ - الى غصن اخضر متلامع يضج بحيوية الحياة من خلال الطلاء الأخضر الذي عمد الى إضفائه على – جسد - الغصن اليابس لتنهض الحياة بكامل رونقها بعيداً عن سطوة الزمن في رسم النهايات التي يحددها سلفا للاخرين .

ان القاص البيضاني كما تبين لنا يكتب قصته بلغة قص واضحة لكنها تُصنَع وتتداخل مع خيال متدفق يجعلها تطوف في الفضاءات الفاصلة بين الواقع وما عداه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 31/آب/2010 - 20/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م