الشيعية السياسية

حزب الله أنموذجاً

د. ريتا فرج

لم يتخذ مسار الشيعية السياسية اتجاهاًً إنقلابياً مباغتاً، بل إنه مرّ بحقبات تاريخية متراكمة، أضفت عليه هذا الحيز من الوجود الفاعل، أقله منذ اتخاذ التشيع ديناً رسمياً لايران، والذي استكمل حركيته بعد تأسيس آية الله الخميني لجمهوريته الإسلامية، مما أعطى دفعاً إضافياً للشيعة في العالم العربي والإسلامي، بعد أن كانوا طوال عهود الخلافات التي تعاقبت على ديار الإسلام المترامية خارج السلطة، لكن ذلك لم يمنعهم من إعداد عدة عقائدية أو نظرية للتدشين للعودة الإمام المهدي وفقاً للرؤية الاثني عشرية والتي بدأت أولى ارهاصاتها من أئمة جبل عامل، الى أن وصلت الى ذروتها مع الخميني الذي رفض عقيدة الانتظار بمعناها السياسي، محيلاً النيابة عن الإمام المعصوم الى حركة ثورية، قوامها إقامة الدولة الإسلامية، العادلة، عبر ثورة المستضعفين ضد الطاغوت.

 ولا ريب أن البانوراما التي رافقت دخول إيران في عهد جديد عام 1979، تحمل دلالات شديدة الأهمية، من الناحية السوسيولوجية والدينية والسياسية، فالإمام المنتظر وما بُني من خلاله من إرث فقهي سياسي، تحول من الاطار العقائدي الى السياق الفعلي. وإذا كان الإمام عند الشيعة الاثني عشرية، يشكل الجواب عن السلطة المفقودة طوال عقود من الزمن، فهو مع الوقت اكتسب زخماً شعبياً عند الذين يسميهم هشام جعيط في أطروحته التأسيسية "الفتنة"، بـ "مجال علي"؛ هذا التراكم أنتج عقلاً سياسياً مستقلاً، معارضاً، للقمع، والقهر، وليس عقلاً مستقيلاً من التاريخ، كما يرى العلاّمة الراحل محمد عابد الجابري، ولعل كتاب خليل أحمد خليل الموسوم تحت عنوان "العقل في الإسلام" يطرح العديد من الاشكاليات حول تمظهرات "العقل الشيعي المستقل" إذا جاز التعبير.

بعيداً عن العدة العقائدية لتمثلات الشيعية السياسية، الآخذة في التمدد من المحيط الى الخليج، والتي اكتسبت قوتها عبر التداعي التاريخي الايجابي، وإن بدا أحياناً شديد البطئ، غير أنه في الأزمنة الراهنة، يشهد حالة من الفوران السياسي، نلحظ تجلياته على أصعدة مختلفة، في الاجتماع، والثقافة، والاقتصاد، وغيرها الكثير؛ هذه الطفرة سلكت طريقها عبر مدارج الفقه السياسي بدءاً من الشهيد الأول الإمام محمّد بن مكّي جمال الدين العاملي الجزِّينيّ، وصولاً الى آخر الطروحات حول ولاية الفقيه. والأهم من الإطار العقائدي، أن صحوة الشيعة التي أشار اليها وليّ نصر، ليست صحوة، بمعنى أن الشيعة كانوا خارج التاريخ، ودخلوا فيه لأسباب آنية، بل هم راكموا حِراكهم، عبر حقبات تاريخية مختلفة، الى أن وصولوا الى بيغ بانغ الحضور الوجودي اللافت، والمخيف لبعض الذين يرون فيه خطراً من الناحية الأصولية، خصوصاً إذا ما تمت مقارنة الانبعاث الشيعي المتجدد بعقائد السلفيين على الجبهة الوهابية.

إذا انتقلنا من العام الى الخاص، واتخذنا من حزب الله في لبنان أنموذجاً للشيعية السياسية، نلحظ عدداً من المؤشرات السوسيولوجية، فالحزب الذي شكل حالة فاردة بحد ذاته، سواء على جبهة مقاومة العدو الاسرائيلي، بعد تدشينه لأولى مآثره بالمعنى الحسيني المقاوم في تحرير جنوب لبنان، وانتصار 2006، دخل في أوج الشيعية السياسية، وهو يمثل ذروتها، عبر امتلاكه لفائض من القوة، يرى فيها الكثيرون خطراً على التعدد في لبنان، بمدلوله السياسي والديني؛ إلاّ أن حزب الله، الذي حمل لواء "إنما حزب الله هم الغالبون" بالمعنى القرآني، أي غلبة الحق على الظلم، أجرى مراجعات ذاتية، وإن بدت غير علنية، فهو بعد أن كان ينادي ببناء الدولة الإسلامية، كما ورد في وثيقته الأولى الصادرة عام 1985، وجد أن تركيبة المتعدد في لبنان، تمنع عنه تحقيق الغاية المنشودة، مع العلم بأن غالبية الحركات الأصولية، وبصرف النظر عن راديكاليتها، تضع بناء الدولة على سلم أولوياتها، وحزب الله في وثيقته التأسيسية الثانية الصادرة عام 2009، وازن بين النظام الإسلامي، والدولة العادلة، ولكنه بالمقابل أدرج الانتظار السياسي في قاعدته الشعبية، وفعاليته داخل السلطة، وقدرته على استنهاض شيعة لبنان، عبر مؤسسات تربوية وإجتماعية واقتصادية، وجهادية أيضاً، لا نجدها عند بقية الطوائف في الوقت الراهن، مع الاشارة الى أن الموارنة، كان لهم حصتهم في احتكار القرار، أقله منذ التأسيس لدولة لبنان الكبير عام 1920، والسنّة شركاء الشيعة في الإسلام التوحيدي، كان لهم وجودهم السياسي والمؤسساتي المؤثر؛ فهل يشي ذلك بأن الشيعة في لبنان خصوصاً أولئك الموالين لحزب الله، يمتلكون فائضاً من القوة يقلق الطوائف الأخرى؟ وما معنى أن يتصدى هؤلاء للمشروع الأميركي في الشرق الأوسط؟ هل يعني ذلك أنهم أصحاب قضية هادفة لتوحيد جماعتهم تحت شعار رفض المظلومية التاريخية التي لحقت بهم وبالتالي التأكيد على أنهم عقل مستقل وليس عقلاً معارضاً لمفهوم الدولة؟

أسئلة كثيرة يمكن طرحها والرد عليها، ضمن التفسير والتفسير المضاد، وهي تحتاج الى دراسات تاريخية وسياسية تتخطى هذه المقالة، وفائض القوة الذي أشرنا اليه، لا يعني بالضرورة أن حزب الله لديه النية المبطنة للانقضاض على الدولة، وقراءتنا لخطاب السيد حسن نصر الله الأخير على خلفيات القرار الظني المتوقع صدوره في الأشهر المقبلة، ينمّ عن مدلولات سياسية كثيفة الأهمية، فصحيح أن الحزب رفض النتائج المرتقبة لتقرير المدعي العام دانييل بلمار بعد أن تداولت بعض الأوساط الغربية والعربية إمكانية إتهام "عناصر غير منضبطة" في الحزب بإغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن ردّ السيد نصر الله تعدى مسألة الاتهام أو عدمه، ورسم في خطابه، ملامح جديدة، بدت لفريق من القوى السياسية، بمثابة الانقلاب على الصيغة اللبنانية، وهو حين يقول ما حرفيته " نحن نعرف النفق الذي يريدون أن يأخذونا اليه، ونعتبر أن هناك مشروعاً كبيراً يستهدف المقاومة ولبنان والمنطقة بعد فشل كل المشاريع السابقة"، أراد أن يوضح للرأي العام العربي عموماً واللبناني خصوصاً، بأننا أصحاب مشروع، يهدف الى الوقوف بوجه السياسات الاميركية في المنطقة، والتي لا تعمل إلاّ على إثارة الفتن والحروب؛ ولعل ما أكد عليه الرئيس السوري بشار الأسد حين قال: "إن توجيه الإتهام الى حزب الله بالمعنى الاستراتيجي هو اتهام موجَّه الى سورية" يحمل في طياته مضامين مهمة، فالشراكة الاستراتيجية بين الحزب وسورية وإيران، عميقة الجذور بمعانيها المختلفة، مما يؤشر أن كل طرف من أطراف المعادلة السياسية، يمدّ الآخر بمحفزات القوة، فدمشق غير قادرة، ولا تنوي حتى اللحظة فكّ ارتباطها التاريخي مع طهران، رغم تعدد السيناريوهات التي ترجح هذه الفرضية، وحزب الله المرتبط عقائدياً ووظيفياً بالثورة الإسلامية الباحثة عن دور اقليمي، يدرك جيداً أهمية شراكته الاستراتيجية مع كل من ايران وسورية، دون أن يؤدي ذلك الى شطحات خيالية تنسج خارطة جغرافية لهلال شيعي، لطالما حذر منه الملك عبد الله الثاني عشية الانتخابات البرلمانية العراقية الأولى بعد إسقاط الرئيس صدام حسين.

قصارى القول إن الشيعية السياسية المتمثلة بأطراف اقليمية متعددة، تشهد اليوم قمة حِراكها على كل المستويات، وحزب الله الذي يعتبر احدى أهم نماذجها داخل مجاله الجغرافي وخارجه، يمثل الصورة الأشد حضوراً في مسارات المعاقلة الشيعية السياسية، والأهم من كل هذا أن شيعة لبنان بعد أن كانوا طائفةً من تاريخ يغزوها التهميش، أصبحوا اليوم من صنّاع التاريخ.

* كاتبة وباحثة لبنانية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 21/آب/2010 - 10/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م