أفغانستان... التاريخ يعيد نفسه

مرتضى بدر

التاريخ يشهد أن أفغانستان كانت دوماً مقبرة للغزاة، فقد احتلتها ثلاث إمبراطوريات، أولها الإمبراطورية البريطانية في عام 1839، وانسحبت منها عام 1842 بعد أن نفذ الأفغان مجزرة في جنودها في حادثة مشهورة. ثم غزتها الإمبراطورية السوفياتية في عام 1979، وانسحبت منها عام 1988 بعد أن تكبدت 15 ألف قتيل و50 ألف جريح. وآخر الإمبراطوريات التي غرقت في المستنقع الأفغاني هي الإمبراطورية الأمريكية التي دخلت قواتها بمعية قوات التحالف عام 2001، فقد تجاوز عدد القتلى الأمريكان حتى هذا التاريخ أكثر من ألف قتيل.

لو نتصفح التاريخ، نجد أن أول من نال شرف الهزيمة على أيدي قبائل الأفغان هو الاستعمار البريطاني، وقد قرّر في حينه أن لا يرجع مرة أخرى إلى هذه الأرض “الملعونة” حسب زعم قادته العسكريين. لكن يبدو أنّ الإنجليز لم يأخذوا العبرة من التاريخ، فقد عادوا من جديد تحت مظلّة التحالف الغربي ضمن (مشروع الحرب على الإرهاب) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. البريطانيون لن ينسوا ما قام به القائد الأفغاني (أكبر خان)، حينما قطع رأس ممثلهم (ماكنتن) ونفذ مجزرة كبيرة في الجيش البريطاني، حيث قُطِعت! رؤوس أربعة آلاف من جنودهم بالسيف. وعلى إثر تلك المجزرة الرهيبة قررت بريطانيا الانسحاب عام 1842.

رئيس الوزراء الأسبق (توني بلير) لم يصغِ لنصائح مستشاريه السياسيين والعسكريين، الذين طالبوه بعدم الانجرار خلف مشاريع وخطط الولايات المتحدة، والدخول معها في المستنقع الأفغاني، لكن بلير الاشتراكي مال كلّ الميل تجاه جورج بوش اليميني المحافظ، وقد كانت تلك أكبر خطاياه. القوات البريطانية اختارت ولاية (هلمند) مركزًا لقواتها، وكان لهذا الاختيار أسبابه العسكرية، منها تفادي خسائر كبيرة في صفوفها، إلا أنها تفاجأت بالعمليات المباغتة من قبل طالبان التي تزايدت في الفترة الأخيرة، وفي مناطق مختلفة من البلاد مستخدمةً أسلحة وصواريخ متطوّرة.

في ديسمبر من العام 2008 قال قائد القوات البريطانية الجنرال مارك سميث: “لا يمكن تحقيق النصر في الحرب ضد حركة طالبان”. والوثائق التي أصدرتها وزارة الدفاع البريطاني كشفت عن تزايد هجمات المسلحين الأفغان في العام الماضي، فقد زادت بنسبة 73 % كما زاد عدد القتلى في صفوف قوات التحالف بنسبة 78 % بالمقارنة مع البيانات السابقة. فقد قتل 339 من جنود التحالف منذ مطلع السنة، في الوقت الذي بلغ فيه عدد قتلاهم 521 قتيلاً في العام الماضي، أما عد د الجنود البريطانيين القتلى في أفغانستان فقد تجاوز الـ 310 قتلى منذ عام 2001. هذا الرقم الكبير في الخسائر تسبّب في تعالي أصوات البريطانيين المطالبة بضرورة الانسحاب، خاصة بعد أن أدركوا أن الحرب المفتوحة مع قبائل الأفغان، وتحديداً مع جماعة طالبان مآلها الفشل.

وبالفعل، أعلن وزير الدفاع البريطاني ليام فوكس الشهر الماضي أن نحو ألف جندي من قوات بلاده في أفغانستان سينسحبون من ولاية هلمند. باعتقادي، إن التحالف الغربي في أفغانستان لن يستمر طويلاً، والانتقادات التي تزايدت داخل صفوف القيادات العسكرية خير شاهد على ذلك، وسوف تشكل تلك الانتقادات ضغوطًا على القادة السياسيين من أجل إعادة النظر في الخيار العسكري لحل الأزمة الأفغانية، والبحث عن خيار سياسي من دون التمسك بورقة حميد كرازاي وحكومته المُتَّهمة بالفساد.

الولايات المتحدة إذا قاومت الخيار السياسي، فسوف نشهد سلسلة انسحابات من التحالف، وربما تجد جنودها وحدهم في ميدان المعركة!! البيت الأبيض بات يدرك أن صبر دول التحالف أخذ ينفد، وأن الضغوطات الداخلية قد تجبر الحكومات على سحب قواتها بصورة تدريجية. اندرس فوغ راسموسين الأمين العام لحل! ف الشمال الأطلسي (ناتو) حاول جرجرة الدول الإسلامية إلى المستنقع الأفغاني، فقال في مؤتمر صحافي: “إن الدول المسلمة قادرة على لعب دور فعال بالنسبة للأوضاع في أفغانستان، خاصة وأن بعض الدول المسلمة قد اكتوت بنار الإرهاب خلال السنوات الأخيرة”.

 إن استغاثة راسموسين تكشف عن المأزق الذي وقع فيه الحلف الأطلسي، وهذا ما اعترف به الأخير قبل أسبوعين حين قال “بعد مرور تسعة أعوام على المشاركة الدولية في أفغانستان ثبت لنا وبطريقة مؤلمة أن الثمن الذي يجب أن ندفعه أكبر بكثير مما كنا نتوقع وخاصة فيما يتعلق بعدد الجنود الذين يلقون حتفهم سواء من القوات الدولية أو الأفغانية” فرط عقد التحالف.

أجزم أن إمبراطورية الناتو بقيادة الولايات المتحدة ستنسحب مهزومة كما انسحبت الإمبراطوريات السابقة من دون تحقيق نصر أو إنجاز حقيقي سوى إسقاط حكومة طالبان، وأكبر هزيمة لدول التحالف في أفغانستان تكمن في عدم قدرتها على كسب قلوب الأفغان. فهذا الشعب قد اكتوى بنار جماعة طالبان ونيران الغزاة، وقد ازداد كرههم لقوات الناتو بصورة خاصة بعد أن دمرت طائراته عشرات القرى والبلدات، وقتلت الآلاف من المواطنين الأبرياء. والمؤتمر الذي عقد مؤخراً في كابول تحت عنوان (إنقاذ أفغانستان)، ما هو في الحقيقة إلا مؤتمر لإنقاذ التحالف.

اليوم، بات لزاماً على دول التحالف أن تعيد قراءة تاريخ الشعب الأفغاني وبلاد الأفيون؛ لتدرك أنه ما من قوة أجنبية استطاعت النصر على هذه الأرض، وأنها حقاً كانت دوماً مقبرة للغزاة.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 31/تموز/2010 - 19/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م