فقه الحياة الطيبة ونظم التنمية

السيد محمود الموسوي

استجاب الإنسان منذ القرون البعيدة إلى حسه الفطري الذي لا يفارقه منذ بداية خلقه، في رسم تصورات لعالم يسبح فوق المثاليات ويرفل في الرفاه، ويحلّق في سماء السلام، ويشار إلى هذا الفعل باليوتوبيا في الأدبيات العلمية منذ توماس مور (Thomas mor) (1478مـ 1535م). إلا أن هذا القصد الذي بقي كتصورات وخيالات في عقول العلماء كان ضارباً في القدم، حيث أنهم قالوا أن أول من وضع هذا التصور هو افلاطون في مدينته الفاضلة (الجمهورية). واستمرت التصورات لتحيك عالماً يرفل في الرفاه (نظماً وفلسفة)، إلى أن وصلت إلى عصر النهضة الأوربية، من خلال أبرز دستور للفرنسي جان بودان (1530م ـ 1596م) في كتابه (الجمهورية)، ثم توالت عدة مدن على نفس النسق كـ (مدينة الشمس) و(مدينة المسيحيين)، وقد اقتفى الفارابي نهج إفلاطون وسقراط في تصوراته، في كتاب (السياسة المدنية).

ولم يفهم العلماء منشأ نزعة اليوتوبيا هذه إلا من خلال رد الفعل تجاه الواقع الفاسد وممارسات القهر والظلم والتعدي، وحالات الفقر والعجز، إلا أننا وبتأمل في أساس الخلق وبالنظر لمقاصد الرسالات الإلهية، نستنتج أن رد الفعل هذا ما هو إلا كاشف عن النزعة الفطرية المودعة في أعماق الإنسان منذ خلقه الله تعالى، في التطلع إلى الحياة الفاضلة، ويشترك في هذا الإحساس كافة البشر، إلا أن وسائلهم في التعبير عنها تختلف باختلاف الشرعة والمنهاج الذي ينتهجون سبيله.

لقد أراد الله تعالى للإنسان أن يعيش حياة الرفاه والسلام وليس البؤس والتعدي، حيث بان ذلك المقصد في حوار الملائكة مع الخالق عند استخلاف آدم في الأرض، وقد دعا كافة الأنبياء (ع) أقوامهم إلى الصلاح والإستقامة لتحقيق ذلك الرفاه المأمول، وهكذا فإن الموضوع أجلى في الرسالة الخاتمة، حيث وعد الله تعالى بالحياة الطيبة لمن يتبع سبيل المؤمنين عبر النظم والتشريعات التي أنزلها الله تعالى من السماء إلى أهل الأرض، حيث قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). [النحل : 97]

مصطلح الحياة الطيبة هو التعبير القرآني الذي يصيغ العالم المنشود لواقع الإنسان في الفكر الإسلامي، وبه عنون المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) كتابه في فقه الحياة الطيبة، وهو عبارة عن صياغة فقهية (تشريعية قانونية) للحياة، لتحقيق مقاصد الشريعة في السلام والأمن والعدالة، مستنبطاً القيم الأساسية التي تصيغ المجتمع وترسم مساره في حياته الاجتماعية كنظام سياسي واقتصادي ومجتمعي، وفي الحياة الشخصية والأسرية، حيث من خلالها يتم التفريع للأحكام التفصيلة، بعد أن أسست القيم بالأساس المتين (القرآن الكريم، والسنة المطهرة للنبي وأهل بيته).

 وبهذا الجهد المميز، خرج كتاب فقه الحياة الطيبة عن دائرة التصورات البشرية المشبعة بالأماني القاصرة عن إدراك كافة أبعاد الخلق (الإنسان وما حوله)، كما أن صياغتها بعلم الفقه أعطاها بعداً عملياً، ليكون أقرب للواقع والتعاطي، بل ولأن علم الفقه هو الصور التشريعية للقيم الأساسية للدين، وهو التمظهر الأبرز لتأسيس واقع الأمم، بخلاف المنهج الفلسفي (للتشريع والتقنين) الذي سار عليه إفلاطون والفارابي ومن بينهما ومن بعدهما.

 ومن هنا ينفتح أمامنا باب التساؤل عن العلاقة بين الفقه والتنمية، إذ أن مصطلح التنمية الذي تم تداوله بعد الحرب العالمية الثانية في جانبه الإقتصادي ثم تطور إلى السياسي ثم المعرفي وشمل كافة الجوانب، هو تعبير متقدم على تصورات اليوتوبيا، لما يتضمّن من إرادة التقدّم والنهوض.

فإن العلاقة التي يمكن تصورها بين الفقه كعلم تطبيقي، والتنمية كمقصد منشود، هي علاقة تأسيس الأرضية الصالحة لإنطلاق التقدّم والنهوض في مساره الصحيح، الذي يصب مصبه في صالح الإنسان، وهذا ما كان جلياً في كتاب (فقه الحياة الطيبة)، ومنشأ هذه العلاقة هي الشرط الحاضن وتحقيق البيئة الحاضنة، التي تتولد فيها التنمية، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).[الأعراف : 58]

فالبلد الطيب (الذي كانت حياته حياة طيبة) هو الذي يخرج وينتج ويعطي كل الأشياء من سنخه وطبيعته، لذلك فإن الإسلام قد أكد ذلك في آيات الكتاب العزيز، فدعاء الأنبياء (ع): (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، لتمارس العلاقات الطيبة فيما بينها، وأحل لهم الغذاء المتناسب مع تطلعاتهم، (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)، وأرشدهم إلى الأفكار التي تبني ذلك الواقع، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ)، وعلاقاتهم فيما بينهم (تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً).

فالكلمة الطيبة أصلها راسخ وثابت، وهي القيم الأساسية التي صاغت فقه الحياة الطيبة، عند السيد المدرسي، ومن خلال هذه المنهجية يمكن أن يتخذ الفقه الإسلامي طريقاً جديداً في المساهمة في تنمية حياة المجتمعات في كافة مستوياتها وتنوعاتها.

* نشر في نشرة مؤتمر القرآن الكريم - حوزة الإمام القائم العلمية بسوريا 2010

www.mosawy.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 12/تموز/2010 - 30/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م