مَنْ سيُظهر دين الله ومتى وكيف ومسؤوليتنا؟

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [1]

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[2]

سنتحدث في هذه العجالة باذن الله تعالى عن مفردة واحدة فقط وردت في هذه الآيات الشريفة وهي كلمة (لِيُظْهِرَهُ) في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)..

فان الحديث حول هذه الآيات، وحول كل مفردة ربما يقتضي أشهراً من البحث، فلتقتصر هذه الليلة في الحديث عن هذه الكلمة (لِيُظْهِرَهُ)، ولنتطرق إلى بعض ما يمكن أن يُستنبط من هذه الكلمة القرآنية الكريمة...

اسباب النزول

ولكن قبل ذلك لنقرأ رواية في شأن نزول هذه الآية الشريفة، يقول الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام): (والله ما نزل تأويلها- أي (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)- بعدُ ولا ينزل تأويلها حتى يخرج المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)..

[وقد إستخدم الإمام اللقب الخاص للإمام المنتظر وهو (القائم)  (عجل الله فرجه الشريف)]، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج المنتظر  (عليه السلام) فإذا خرج المنتظر لم يبقَ كافر بالله العظيم، ولا مشرك بالله إلا كره خروجه حتى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة، قالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله)[3].

والأحاديث بهذا المضمون عديدة، ومستفيضة بل متواترة بالتواتر الإجمالي، بل لعله بالتواتر المضموني أيضاً، أي: أن أصل وجوهر هذا المعنى: وأن هذه الآية المباركة لم ينزل تأويلها بعد، وإنما سيأتي تأويلها فيما بعد، هو مما لاريب فيه...وأيضاً هناك روايات عديدة، وكثيرة عند أهل السُّنة تقارب ذلك،وبعضها موجود في الصِّحاح أيضاً..

حقائق ناصعة..

وعندما نتوقف عند كلمة (لِيُظْهِرَهُ) قليلاً نكتشف هنالك حقائق عديدة في هذا الكلمة الشريفة:

(الإظهار) حقيقة تشكيكية

الحقيقة الأولى: أن (يظهره) حقيقة تشكيكية ذات مراتب، كما أن النور حقيقة ذات مراتب، فهناك نور الشمس، ونور القمر، ونور المصباح، ونور الشمعة.. وكما أن الإيمان له مراتب: فإيمان رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم) أين؟ وإيماني وإيمان أمثالي أين؟ إيمان سلمان المحمدي والمقداد وعمار، ومَنْ أشبههم أين.؟ وإيماني وإيمان أمثالي أين؟ وكذلك الأمر عند قياس إيمان أجلاء وأصحاب الأئمة الأطهار أمثال زُرارة، وحمران، والحمادين.. ومَنْ أشبههم من أعاظم حواريي المعصومين (عليهم الصلاة وأزكى السلام)...مع إيمان الكثير منا...

فكما أن الإيمان حقيقة تشكيكية ذات مراتب، وكما أن (الحب لله)، و(في الله) حقيقة تشكيكية ذات مراتب، كذلك (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ)، فإن (الإظهار) هو حقيقة تشكيكية ذات مراتب، فقد يعلو الدِّين بدرجة، وقد يعلو بدرجات...والإظهار قد يكون له امتداد كمِّي،وقد يكون له امتداد كيفي، وقد يكون له امتداد في الجهة أيضاً.. كما سنشير لذلك لاحقاً...

الإمتداد الكمي للإظهار

والمراتب الكمية لـ (يظهره)تعني أنه يظهر، ويعلو، ويغلب، فيصدق (والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه).

ويُمكن أن يعلو، ويظهر، ويغلب على مساحة، وبقعة جغرافية محددة من الأرض، كالدُّول التسعة التي سيطر عليها رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)،ويمكن أن يمتدَّ، وتمتد مساحة علوِّ الدِّين وظهوره، وغلبته إلى ما هو أكثر من ذلك ك‍:خمسين دولة تقريباً، بخريطة اليوم.. كما حدث في زمان ودولة أمير المؤمنين ومولى الموحدين الإمام علي بن أبي طالب(عليه صلوات المصلين)..

ويمكن أن يمتد ظهور الدِّين ليشمل الكرة الأرضية كلها، وذلك ما سيحدث في زمان الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، بل لعله سيشمل العالم كله، كما يشمل الجن، والإنس، وغيرهم أيضاً من الناحية الكمية.

الإمتداد الكيفي للإظهار

ومن الناحية الكيفية قد تكون للإسلام الكلمة العليا من الناحية الكيفية، مئة بالمئة، وقد تكون الكلمة العليا لدين، أو مذهب، في الجملة؛ بأن تكون أغلب قوانينه ماشية، ونافذة، وحاكمة، وقد تمكَّن في النفوس بدرجة ما لكنه قد يتمكن من النفوس بدرجة لا يضارعها شيء، ولا ينافسها شيء وقد يكون دون ذلك.

وهذه النقطة الأولى تستحق حديثاً مطولاً لكن ولأنها ليست محطّ حديثنا الان، مررنا عليها مرور الكرام، وهي: أن (لِيُظْهِرَهُ) حقيقة تشكيكية ذات مراتب... كماً وكيفاً وجهةً.

العنوان والمحصِّل

الحقيقة الثانية: في كلمة (لِيُظْهِرَهُ)- لاحظوا جيداً- هذه الآية تشير إلى هدف من أهداف البعثة النبوية الشريفة، بل تشير إلى غاية من غايات رب الأرباب سبحانه وتعالى، وقبل أن أوضِّح ذلك أشير إلى قضية،لأن هذه القضية سوف تعطي بعض العمق لفهم ما نريد إيضاحه، ونصبو إلى التأكيد عليه. هناك قاعدة أصولية معروفة تسمى (العنوان والمحصّل) وتعني: أنه تارة (الأمر) يتعلق بالشيء نفسه، وتارة أخرى، يتعلق (بالمركب الارتباطي)، لنفس الأجزاء، تارة الأمر يتعلق بالسَّبب، وأخرى يتعلق بالمسَبَّب أو يتعلق بعنوان من العناوين، فإذا تعلَّق (الأمر) بعنوان من العناوين، فإن المجرى عندئذ سيكون مجرى الاحتياط لدى الشك في الأجزاء، أو الشرائط أو ما أشبه ذلك..

ومع قطع النظر عن البحث الأصولي التخصصي فإن توضيحه بمثال تقريبي خارجي،هو: إن المولى تارة يقول لك: احفر البئر، إلى مقدار خمسين ذراعاً.. فهذا أمر بحقيقة خارجية، فأنت مسؤول عن ماذا عندئذٍ؟

إنك مسؤول عن أن تحفر إلى خمسين ذراعاً، خرج الماء، أم لم يخرج الماء،لأنه لم يأمرك بأن تفجر من الأرض ينبوعاً.. لكنه تارة يأمرك بأن تفجِّر من الأرض ينبوعاً، يقول: أريد الماء.. فأنت إذا حفرت سبعين متراً وما وصلت للماء فأنت مسؤول عن أن تحفر إلى ثمانين متراً، وتسعين متراً إلى أن تجد الماء الذي طُلب منك الوصول إليه..

وعلى أي تقدير فانه إذا أمرك بـ (الغاية) فأنت عليك إذا شككت في شيء وأنه محقق لها،عليك أن تسد أبواب العدم من جهته لكي تصل إلى الغاية، أي عليك أن تحتاط في الأجزاء، والشرائط.

لكنه إذا أمرك بالسبب نفسه، فأنت مأمور عندئذ بالسبب فقط فقيامك وامتثالك بالسبب يُسقط الأمر وبه يتحقق الإمتثال.

هذا مثال، وإليكم مثالاً آخر في المقام أيضاً لتقريب الفكرة للذهن، حتى نعرف ارتباط هذا البحث الأصولي المعروف (العنوان والمحصِّل) بالآية الشريفة..

تارة يأمرني المولى، ويقول: اذهب و(ناقش) فلان المُنحرف الضال، فأنا وظيفتي هنا أن أناقشه لا غير،لأنه لم يأمرني بمتعلَّق معين...ولكنه تارة، يقول: لي(عليك بهدايته)...فان الأمر يختلف كثيراً بين ما لو قال لي (إهده)...فإذا لم يهتدِ في جولات من الحوار والنقاش، لم يسقط تكليفي بل علي الإستمرار، لإنه لم يقل لي (ناقشه) فقط،بل قال يجب أن تأتي به للجادة الصحيحة،إذ إنه لايُريده أن ينحرف، بل يُريد أن تُرجعه إلى سواء السبيل، وهذا هو المطلوب أي إن (الغاية) هي المطلوبة..

وذلك من الممكن أن يتحقق عن طريق (النقاش) و(الحوار)، لكنه إذا لم يتم ذلك بذلك، فأنت مُلزم بأن تسلك طرقاً أخرى معه لتقنعه...وربما يكون من المصلحة أن تترك (النقاش) معه،كأن توجد له (قدوة مثالية) أو تتعامل معه بالسيرة الحسنة...و يمكن أن يكون الطريق:أن تعطيه مالاً.. أو بالعكس تماماً: أن تحرمه من المال فترة من الزمن، ترويضاً له...يمكن أن يكون الحل بأن تضغط عليه.. ويمكن أن يكون الطريق هو أن تُبدي له محبة أكبر...وقد يكون (تغيير الأسلوب) هو الطريقة للوصول للمطلوب...وقد يكون (الإبتكار) و(الإبداع) هو الطريق.

والحاصل أنه إذا أمرك بأن تهدي زيداً من الناس، فقد أمرك بالمحصَّل؛ أي بالمسبَّب.. فأنت يجب أن تُحاول بمختلف طرق الوصول إلى ذلك الهدف...ولكن إذا أمرك بالسبب، فأنت مأمور بالسبب ولا غير، أي أمرك مثلاً بأن تناقشه فقط، فأنت وظيفتك إذن أن تناقشه ولا غير...

والآن لنلق نظرة عامة على الأوامر في الشريعة، فإن أوامر المولى سبحانه وتعالى في الشريعة على كلا النوعين؛ يعني أحيانا يأمرنا سبحانه بالمسبب، وأحيانا يأمر بالسبب، فإذا أمر بالسبب فليس عليك إلا أن تحقق إلا السبب، ولست مسؤولاً عن النتيجة،ولكنه جلَّ وعلا إذا أمر بالمسبب فأنت مسؤول عن تحقق النتيجة..

ونضيف هنا قاعدة أخرى وهي: أن ملاك التكليف ليس هو (الأمر) فقط، بل (الغرض) أيضاً.. فإذا المولى لم يأمرني بإنقاذ ابنه الذي سقط في البئر جهلاً منه بأنه سقط في البئر، أو لأية جهة أخرى، فإن ذلك لا يُسقط التكليف عني بوجوب إنقاذ ابنه، لماذا؟

لأن العلم (بالغرض) سبب حكم العقل بإلزامك بأن تحقق ذلك الغرض، والوصول إليه، على حسب قدرتنا، ووسعنا، وطاقتنا.

تطبيق القاعدة على الآية الشريفة

وفي هذه الآية الشريفة - آية البحث - الله سبحانه وتعالى يذكر (المحصَّل)، أو (العنوان)، أو بالتعبير الآخر الأكثر تداولاً عندنا، (الغرض)، فقد قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) ولكن لماذا؟ ما هو الغرض من إرسال الرسول بالهدى ودين الحق؟ ما هو هدف الله تعالى؟ وما هو المسبب النهائي لبعثة رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.. إنه (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

إذن هذا هو الهدف النهائي وهو: شمولية الهدى للعالم كله وسيطرة الحق ودين الحق على الأديان كلها، ولولاه للزم العبث، وللزم اللغو ولو في الجملة في عمل الله في خلقته للبشر، وفي إرساله للرسول، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيراً، وذلك من المستحيل.

ومرة أخرى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) لماذا أرسل رسوله بالهدى ودين الحق.؟ هل لمجرد التذكير.؟ كلا.. فقد قال (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)[4] يا رسول الله.. هذه هي مسؤولية رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن ماذا يريد الرب في المحصلة النهائية؟ هل يريد التذكير فقط؟ نعم؛ يريد من رسوله التذكير، ولكن السؤال هو ما هو هدف الله تعالى.؟ هل الهدف مجرد التذكير والتذكر؟!

كلا؛ بل يريد شيئاً أكثر من ذلك، فإنه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ( (وقد قام الرسول الأعظم بالهداية وأراهم الدِّين، والطريقة، ولكن الله سبحانه ماذا يريد.؟

إنه يريد (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).. وهذا عمل الله تعالى، وليس من عمل النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) والنبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) من (العلل المعدة) لذلك دون شك لكنه ليس (العلة التامة).

متى سيظهر الله الدين على الأديان كلها

إذن: الغرض من بعثة رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، والغرض من إرساله  (صلى الله عليه وآله وسلم) هو: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)،و نسأل هل أظهر الله رسوله على الدِّين كُله في زمنه  (صلى الله عليه وآله وسلم).؟

والجواب بوضوح: كلا.. وذلك بالبرهان، والوجدان، ومتواتر الروايات، شيعةً، وسنةً؛ أن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يظهر على الدِّين كله.. فالنبي في زمانه سيطر حسب جغرافية اليوم على تسعِ دولٍ فقط، وحتى في داخل حكومته لم يكن الكل قد (دانوا) بالإسلام، بل كان كثير من الذين أظهروا الإسلام كاذبين، وكانت تُحاك - وبإستمرار- مؤامرات ضده من قبل المنافقين، والمنافقون مَنْ هم.؟

وسورة المنافقون نزلت في مَنْ؟ هل نزلت بأناس من الصين.؟! كلا..

كلا... إنها نزلت في بعض صحابة رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا شك..

إذاً النبي في زمانه لم يظهر دينه الله تعالى على الدِّين كله، وإنما سيظهره في مستقبل الأمر، وذلك ليس إلا في زمان الإمام المهدي المنتظر  (عجل الله فرجه الشريف)

ولو لم يفعل الله ذلك للزم (نقض الغرض)، ولزمت (اللغوية)..لأن الله تعالى بعث النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقلب الكون كله، والمعادلات الكونية كلها قد غيرها الله سبحانه وتعالى،بمولده الشريف، ومبعثه بالرسالة الخاتمة. ثم يحصر النتائج والثمار والأهداف في نطاق محدود؟

إن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)عندما بُعث، أبواب السماء أغلقت في وجه الشياطين،كما بيَّن تعالى بقوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا)[5].

وغاضت بحيرة (ساوة) الشهيرة، وانطفأت نيران المجوس في فارس.. وإلى آخره، الكون كله تحوَّل بولادة رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله يقول بأن هدفي من البعثة هو (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)  فهل يتحقق ذلك (بالتذكير) فقط؟.

إن ذاك عمل النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس تمام ما يريده الله سبحانه وتعالى وما سيحققه...إنَّ ما يريده الله وسيحققه أيضا هو (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وحيث لم يُظهره على الدِّين كله في زمن النبي، إذاً ينبغي أن يكون المراد في زمن لاحق، هذا الزمن اللاحق في أي زمن هو.؟ الآن مثلا هل هذا الدِّين ظاهر على الدِّين كله؟ أم المسيحية هي الظاهرة على الأديان ولو في الجملة؟

اليهودية ظاهرة بشكل من الأشكال، والبوذية بشكل من الأشكال أو في بقعة من البقاع.. وهكذا وهلمَّ جراً..

والحق الصُّراح، ومحض الحق، وهو حق أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) مُهمَّش في زاوية معينة محدودة فقط، كما هو واضح الآن...

ربما يقول قائل: في زمن من يسمون بالخلفاء الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين، كيف؟

والإجابة واضحة: أما كمياً فإن (الهدى) و(الدين) لم يضهر ويسيطر على الكرة الأرضية كلها وعلى الأديان كلها بل كانت بلاد شاسعة خاضعة لأديان أخرى هذا أولاً...

ثم إن البلاد الإسلامية بدورها كانت مليئة بالكفار والمشركين والملاحدة وغيرهم ثانياً

 وأما كيفياً: فإن الهدى ودين الحق، لم يكن ظاهراً في بلاد الإسلام إلا بنسبة محدودة، وكان الوضع كما قال الإمام الحسين  (عليه السلام): (ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه)[6]. وكما قال: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)[7] وكان الوضع قبل ذلك كما قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)[8] فكانت السلطات جائرةً أولاً وكان الكثير من قوانين الإسلام معطلة ثانياً فكانت وكان الكثير من النفوذ والقوة لأعداء الرسول ولأعداء أهل البيت ولأعداء الحق والعدل كمعاوية والحجاج ومن أشبههما من سابق ولاحق ثالثاً، وهل مع ذلك كله يصدق (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)؟

إن الله سبحانه وتعالى سيظهر الدين الإسلامي الحق والصراط المستقيم بصدق، على الأديان كلها في زمن خاتم الأوصياء المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)... وتدل على ذلك الروايات المتواترة عند الشيعة والسنة، وسنفرد لذلك بحثا متكاملا بإذن الله تعالى عند التطرق لآية (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)[9].

حقائق دقيقة في تفسير الآية الشريفة

ولنتوقف عند بعض (الدقائق) في الآية الشريفة، فمنها: إن الله جل وعلا إستخدم ضمير الغائب (هو) في قوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى)، ولم يقل (الله الذي أرسل رسوله)، أو (الرحمن الذي أرسل رسوله)، أو (الرحيم)،أو (العالم).. وما أشبه ذلك..فلماذا استخدم ضمير الغائب، وهو الذي لا يغيب.؟

ربما يكون من الأسباب الوجيهة لذلك -والله العالم- الإشارة إلى: الجانب الغيبي المكنون في ذلك، لأن (هو) ضمير، وهو (موغل) في الغيب، أو فقل (غارقة) هذه اللفظة في (الغيب)، فإنَّ الضمير ضمير الغائب، في مقابل أن يقول (الله) مثلاً، و(الله) اسم علم - كما هو واضح- وبكلمة: فإنَّ استخدام الضمير قد يُستشمُّ منه، قد يُستشعر منه، أنه كما أنَّ الله سبحانه وتعالى بلحاظ كلمة (هو) غيب الغيوب، فإن (ليظهره) سيكون أمراً غيبياً صرفاً، وأمراً غيبياً محضاً، وستكون أسبابه وطرقه ووقته وما يحف به غيباً في غيب، ولذلك نجد (كذب الوقاتون)[10] ونجد أن ما يرتبط بالإمام الحجة القائم (عجل الله فرجه الشريف) هو بشكل عام غيب في غيب.

ثم لنلاحظ قوله تعالى (هو الذي) فان كلمة (الذي) فيها تأكيد، وكان الله تعالى يستطيع أن يقول؛ (هو أرسل رسوله)،لكنه قال: (هُوَ الَّذِي)؛ إذ تستطيع أن تقول (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ)، وتستطيع أن تقول (هو أرسل رسوله بالهدى)، ولكن لأن التأكيد مطلوب هنا،فقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ)..

ثم إن الله تعالى يُرجع الضمير له مرة أخرى فيقوله(...أرسل رسوله)، وكان من الممكن أن يقول؛ (هو الذي أرسل الرسول)، كلا.. بل يريد أن يربط القضية به مباشرة..لأن قضية الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) مُرتبطة بالله سبحانه وتعالى مباشرة، ولأنها من أسرار الغيب لذا يستخدم الضمير (هو) ثم يؤكده بارجاع الضمير له مرة أخرى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) ولكن لماذا.؟ (لِيُظْهِرَهُ)...ومَنْ هو فاعل يظهره.؟ الله تعالى (لِيُظْهِرَهُ) أي (ليظهر رسوله) على احتمال، أو (ليظهر دينه) على احتمال آخر في مرجع الضمير في (يظهره)، وكلاهما صحيح فان إظهار رسوله على الدين كله قد يكون باظهاره بنفسه، وقد يكون باظهار من هم نفسه بنص قوله تعالى (وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ).

والحاصل أن هذا الإظهار إظهار غيبي، ارتبط بذات غيب الغيوب سبحانه وتعالى، وهذه أيضاً حقيقة من الحقائق التي تشير إليها هذه الآية الشريفة: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

التدخل الغيبي المباشر لنصرة خاتم الأوصياء (عجل الله فرجه الشريف)

ونستشهد على ذلك برواية إنتخبناها- ونظائرها بالمئات- من كتاب (مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم (عجل الله فرجه الشريف)) ورزقنا الله وإياكم الشهادة بين يديه، إنشاء الله...فانها صريحة بأن القضية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى مباشرة، ففي حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

(التاسع منهم قائم أهل بيتي ومهدي أمتي، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله، وسيظهر بعد غيبة طويلة وحيرة مضلة، فيعلي أمر الله ويظهر دين الله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ويؤيد بنصر الله، ويُنصر بملائكة الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً)[11]) وتأملوا في هذا التأييد الغيبي، والتسديد الغيبي، وإلا فان البشر الذين نحن نعرفهم ليسوا بمؤهلين لذلك، وليسوا بمستوى، ولا يستطيعون أن يصلوا في ذلك المقام الذي تكون لهم فيه قابلية أن يظهر بين ظهرانيهم نور الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)[12].

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر  (عليه السلام):

(ثم يرجع إلى الكوفة فيبعث - يعني الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)- فيبعث الثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً إلى الآفاق كلها فيمسح - [أي الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)]- بين أكتافهم، وعلى صدورهم [وكل ذلك تدخل غيبي مباشر]، فلا يتعايون [من العي، أي العجز] في قضاء، ولا تبقى أرض إلا نودي فيها: بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله..)[13]

فالأمر إذن أمر غيبي، إنه أمر الله، فان له جل إسمه هدفاً من هذه الخلقة سامياً ونهائياً، الا أن البشر ليس بمقدورهم الوصول إليه ليست عندهم القابلية لكي يصلوا، لكن لطف الله وهو الرؤوف بعباده الرحيم بهم حيث ابتدأ لهم النعمة والرحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[14] ورسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: (رب إهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)[15]، فانه سيكمل الرحمة والنعمة.

فالبشر بما هم بشر لا يمكن - بدون لطف إلهي، وتدخل إلهي مباشر- أن يصل إلى المقام الذي يتشرف حتى بنظرة واحدة لولي الله الأعظم فكيف بأن يظهر فيهم ويعيش بين ظهرانيهم؟! ولكن الله يتدخل تدخلاً غيبياً (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) هو سبحانه وتعالى وجل اسمه الذي (يظهره على الدين كله ولو كره المشركون)،و هذه أيضاً حقيقة من الحقائق الكبرى في الآية الشريفة...

الترابط الجوهري بين الآيات

الحقيقة الأخرى تجلت حين كنتُ أتأمل في الترابط بين هذه الآية الشريفة بالآية الكريمة اللاحقة لها،من زاوية العلاقة مع كلمة (يظهره) -وليس البحث في تفسير الآيات كلها،بل كلامنا فقط حول كلمة (يظهره)-، فكنت أتأمل، ما هو ربط هذه الآية بالآية اللاحقة؟ أي ما هو الرابط بين قوله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ثم قوله بعد ذلك مباشرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )؟

قد يتصور: أن الله تعالى فجأة انتقل لبحث جديد، ولكننا نعلم علم اليقين بأن الآيات القرآنية الكريمة بعضها متشابك مع البعض الآخر، ومترابط ترابطا عضوياً فبعضها يُكمِّل بعضاً، والآيات ليست مجرد لبنات متناثرة، متباعد بعضها عن بعض.. كلا..

بل هي لبنات بناء بُني على هندسة تكوينية رائعة ودقيقة، وليست هندسة تشريعية فقط، هذه الأوامر التشريعية وأشباهها.. بُنيت على هندسة تكوينية دقيقة، بحيث أن كل لبنة تترابط مع كل اللبنات الأخرى لهذا البناء المبارك بأسمى وأجلى وأعمق ترابط، بحيث إذا نزعت لبنة واحدة، أو حرف واحد من القرآن الكريم زحزح من مكانه، فإن كل البناء سيتأثر.

وقد كتب بعض العلماء كتاباً علمياً إستدلالياً على إعجاز القرآن الكريم في هندسته وبنائه الهيكلي، وأثبت بالمعادلات الهندسية والعلمية أن حرفاً واحداً لو يُزاد أو يُنقص من القرآن،فإن كل المعادلة ستختل.

والان لنعد إلى التسائل الأول: ما هو ربط الآية الأولى، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) بالآية اللاحقة لها مباشرة وهي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿10﴾ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[16]؟

المرتبة الأسمى، عمل الله، والمراتب الأولى، مسئوليتنا

ربما يكون الوجه في الترابط بين الآية الأولى، والآية الثانية؛ هو ما صدَّرنا به مطلع الحديث حول مُشككية (ليظهره)، أن الله يُريد أن يُفهمنا بأن ذاك المظهر الأسمى، أو المصداق الأجلى (لظهور الدِّين) على الكون كله، بملائكته، وشياطينه، كما حدث في ملك سليمان وأكثر، بملائكته، وشياطينه، وحيتانه، والإنس، والجن.. بمختلف ألوانهم، وأشكالهم، هذا المظهر الأسمى، المرتبة الأسمى من الإظهار، هذا عمل الله، ولا غير، فإن الله سبحانه وتعالى، حيث يتدخل تدخلاً غيبياً مباشراً (هو الذي يظهره على الدين كله).. ولكنه يوضح لنا بعد ذلك مسؤوليتنا نحن... إذ يمكن أن نتسائل: نحن ما هو عملنا إذن.؟ نحن ما هو واجبنا، وتكليفنا؟

الآية اللاحقة هي التي تجيب. فأنت لا تقدر، ولا تستطيع أن تنال تلك المرتبة الأسمى، ولكن هذا الواجب له درجات، إنه واجبٌ ذو درجات، وذو مراتب، المرتبة العليا هي عمل الله سبحانه وتعالى، وغايته في الخلقة، ولكن المراتب الأدنى وبمقدار ما يسعنا، تقع على عاتقنا نحن ولذا (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) هذا عمل الله، أما نحن البشر فما هو عملنا؟ الذين آمنوا ما هو عملهم؟ ذلك ما تشير له الآية التالية مباشرة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿10﴾ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) هذه المرتبة من إظهار الدِّين هي: الإيمان بالله والرسول وهي قضية جوانحية، وأن نجاهد في سبيله بأموالنا، وأنفسنا.. وهي قضية جوارحية هذه المرتبة واجبة علينا، وأما المرتبة التي فوقها فهي خارجة عن طاقتنا..ولكن المرتبة الأدنى هي التي تجب علينا فــ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) بعد ذلك مباشرة (أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿10﴾ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) مع أن المؤمن، الفَرَض أنه مؤمن، فكيف يطلب منه الإيمان مرة أخرى؟ الجواب هو لأن المطلوب مرتبة أخرى أسمى وأعلى من الإيمان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)

ذلك أن للإيمان أيضاً درجات، كما أن لإظهار دين الله درجات، كما أن للجهاد في سبيل الله، بالأموال، والأنفس أيضاً درجات..

مسؤوليتنا في زمن الغيبة

هذا الاستظهار حول ترابط الآيتين الكريمتين، يؤيده ويدلُّ عليه جملة من الروايات الشريفة التي تبيِّن وظيفتنا في زمان الغيبة، فما هي وظيفة الإنسان المؤمن في زمان الغيبة.؟ والتي تقع في طريق (لِيُظْهِرَهُ) لكن في الدرجات الأدنى،هناك روايات عديدة، بل مستفيضة، بل قد تكون متواترة، تُصرِّح بأن مسؤوليتنا نحن في زمان الغيبة هي: (الصبر) و(المصابرة) (المرابطة).

الصبر على المصائب والمصابرة على الفرائض

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[17]

يقول الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام): (اصبروا على المصائب)[18] فالمؤمن في زمن الغيبة مبتلى بمصائب كثيرة، لأنه أقل شيء عليه: أن لا يصافح الاستعمار، ولا يصافح الظالم.

ومن الواضح إنه إذا لم يصافح الاستعمار، ولم يصافح الظالم، فإنه سيبتلى بمصائب في نفسه، في ماله، في أسرته وفي مكانته وموقعه الإجتماعي وغير ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ) على ماذا.؟ (على المصائب) (وَصَابِرُواْ) (على الفرائض) إذ إن الفرائض تحتاج إلى مُصابرة، أي آمرك بأن تصبر عليها وتأمرني، أرشدك وترشدني بأن أصبر، لأن الفرائض التي منها إقامة الصلاة،وهو أمر صعب جداً[19] ومنها الأمر بالمعروف..

والأمر بالمعروف بدوره صعب جداً حقيقة، وأنتم تصوروا شخصاًَ ليلاً ونهاراً، يأمر بالمعروف: يأمر الحاكم بالمعروف، يأمر رئيس الشركة، يأمر البرلماني، بالمعروف، يأمر أباه، وأخاه، وابنه، وصديقه، وعدوه بالمعروف.. هذا الإنسان المثابر على الأمر بالمعروف، من الطبيعي أن تنهالُ عليه المشاكل من كل حدب وصوب.. ولكنه بصبره عليها واستمراره في مسيرته يكون هو العامل بقوله تعالى: (وَصَابِرُواْ) على الفرائض، (وَرَابِطُواْ) على الأئمة[20].

هذه رواية الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام) أي ورابطوا على الاقتداء بالأئمة، وهذه الرواية سندها صحيح فقد ورد في تفسير القمي قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية: (اصبروا على المصائب، وصابروا على الفرائض، ورابطوا على الأئمة  (عليهم السلام))[21].

المرابطة على الإقتداء بالأئمة  (عليهم السلام):

وهناك رواية أخرى تفسِّر (ورابطوا على الأئمة)؟ يقول الإمام الكاظم  (عليه السلام): (اصبروا على المصائب، وصابروهم على التقية، ورابطوا على ما تقتدون به)[22].

فالاقتداء بأمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه صلوات المصلين) أمر صعب جداً، لأنه كان قمَّة في الزُّهد، قمَّة في الوَرَع، قمَّة في التقوى، قمَّة في الجهاد لا تأخذه في الله لومة لائم..ولكن أنتم (رابطوا على ما تقتدون به) ومالذي تقتدون به من الأعمال والسيرة والأفعال؟ إنها هي أعمال وسلوك وسيرة ومنهج الأئمة الأطهار  (عليهم السلام)، إذ رابطوا على الأئمة، أي على الاقتداء بالأئمة (ورابطوا على ما تقتدون به، واتقوا الله لعلكم تفلحون)..

وفي رواية أخرى يقول  (عليه السلام): (رابطوا إمامكم في ما أمركم وفرض عليكم)[23].

ما الذي أمرنا به الأئمة؟ إنه (أحيوا أمرنا)[24] وهذا أمر واضح وصريح موجه لنا، بالإضافة إلى العشرات، والمئات من الآيات، ومن الروايات التي تصرِّح، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

إذن نرابط على ماذا.؟ على (ما أَمرنا) به إمامنا عليه الصلاة والسلام: ففي زمان الغيبة هذه مسؤوليتك، وهذه مسؤوليتي.

وهذا الحديث بمناسبة أن اليوم التاسع من شهر ربيع الأول، المشهور بفرحة الصديقة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة وأزكى السلام) هو يوم عرفي لتتويج الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) بتاج الإمامة، إنْ صحَّ التعريف، والتاج يتشرف بأن يُنسب إلى الإمام..

وإننا في زمن الغيبة مسؤولون بهذا القدر وعلى حسب الوسع والطاقة... ولكن إظهار دين الله على الأديان كلها وفي تلك المرتبة العليا فإنه من شأن الله تعالى ومن عمله، وليس عملنا نحن، ولكن المراتب الأدنى التي تتحقق بـ: صبرنا على المصائب ومصابرتنا على الطاعات ومرابطتنا على الإقتداء بالأئمة  (عليهم السلام)، هي مسؤوليتنا، وواجبنا، وتكليفنا..

معنى المرابطة:

و(المرابطة) هي مأخوذة من (رَبَطَ)؛ أي شَدَّ شيئاً بشيءٍ آخر،أي شدَّه مع المحافظة عليه.. فكلمة (ربط) لا تعني فقط (شَد)، وإنما شده وحافظ عليه؛ قال الله تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[25].

إذاً (المرابطة) كما يقول اللغويون، وكما يُستفاد من الآيات القرآنية الكريمة: لا تعني فقط الإرتباط بالشيء، بل شدة الإرتباط به وإستمراريته، والمحافظة على ذلك. فقولنا (رابط الأئمة) أي إلتصق بهم، وبتعاليمهم ومنهجهم، وشُدَّ نفسك بهم، وصِلْ حبلك بحبلهم، وحاول أن تتمسك بحبل ولائهم وطاعتهم، وتحافظ عليه بكل قوة.

مدة المرابطة أبد الدهر

ولكن هذه المرابطة كم تدوم؟ كم ساعة؟ أو كم يوم؟..

الإمام (عليه الصلاة وأزكى السلام)، يقول: (رباطنا رباط الدهر).

لاحظوا هذه الرواية، وما أروعها من رواية، عن الإمام الباقر (عليه الصلاة وأزكى السلام)، الإمام يسأل أبا عبد الله الجُعفي، يقول: كم الرِّباط عندكم؟ والرباط عرفاً ما بين ثلاثة أيام إلى أربعين يوماً فإن تجاوز ذلك سُمي جهاداً قلتُ: أربعون - أي أربعون يوماً-، قال الإمام  (عليه السلام): (لكن رباطنا رباط الدهر)[26].

أي إنه مستمر وممتد إلى ظهور الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) فنحن الآن في حالة رباط نحن الآن مرابطون... وهذا هو الظاهر من الرواية، ولا وجه لدعوى إنصرافها إلى (مدى العمر) فقط وكما قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): (علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس)[27].

والرواية رواية مُطولة وهي رواية لطيفة لكن أنقل لكم كلاماً للعلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه)، يقول في شرح قوله  (عليه السلام): (رباطنا رباط الدهر)؛ أي (يجب على الشيعة أن يربطوا أنفسهم على طاعة إمام الحق، وانتظار فرجه ويتهيأوا لنصرته)[28].

الأجر العظيم للمرابطة

وهنا حديث مفصل جداً أختصره بهذا السؤال: إذا رابطنا على ذلك ما هو الأجر المُعدُّ لنا؟ وسأذكر لكم في هذا الوقت المختصر أربع روايات عن (أجر) المرابطة على إحياء (أمر) أهل البيت الأطهار  (عليهم السلام) وعن (مكانته) و(دوره الإستراتيجي الكبير)

الرواية الأولى: وهي رائعة حقيقة- تذكر جانباً من الأجر وهي حديث نبوي شريف حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله)[29].

فالإنسان إذا مات ينقطع عمله إلا من ثلاث - كما في الرواية - لكن الرسول يقول: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله) فلو رابط الإنسان بذاك المعنى الأخص الذي هو الرباط في الثغر العسكري، أو بالمعنى الأعم، وهو الرباط في الثغر الثقافي، وما أشبه ذلك فانه سينمو له عمله دوماً أبداً إلى يوم القيامة، كما في الرواية (إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبر (أو من الفترة))[30]... وعبرنا بـ (أو) لان الروايات أو نسخها متعددة.

ومن الجيد أن نشير إلى وجه الجمع بين الروايتين:فانه لان (المرابطة) المصداق الأجلى لما لا ينقطع -لانها من الصدقة الجارية -

والحصر في رواية (كل ميت) اضافي، او الدقة في الفرق بين كلمتين (ينقطع) و(يختم) ولعل الفرق أن تلك الثلاثة لها (إمتداد) أما (المرابطة) فمنتهية ظاهراً فلا امتداد لها لكن الله مع ذلك لايختم ديوان عمله.

الرواية الثانية: يقول الإمام الباقر  (عليه السلام): (علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب. ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر، ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم)[31].

الرواية الثالثة: قال الامام علي بن محمد (عليهما الصلاة وأزكى السلام): (لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه الصلاة وأزكى السلام) من العلماء الداعين اليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه، بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقى أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذي يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله (عزوجل))[32].

الرواية الرابعة: قال الإمام الحسن بن علي  (عليهما السلام): (يأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة، والأنوار تسطع من تيجانهم، على رأس كل واحد منهم تاج، قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة)[33].

إلى آخر الرواية وهي رواية مطولة. فبناء على هذا نحن مسؤوليتنا في زمن الغيبة أن نكون (مرابطين في الثغر الذي يلي إبليس)، وكنت أريد أن أذكر لكم بعض الحقائق الأخرى حول هذه الآية الشريفة، وحول كلمة (يظهره) ولكن الوقت يبدو أنه قد أدركنا وربما نكمل البحث فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وندعو الله سبحانه ونلح عليه أي إلحاح، متوسلين إليه بلطفه سبحانه وتعالى وكرمه أن يكون الفرج قريباً جداً إن شاء الله، لأن الأمر بيد الله، فربما يكون بعد مليون سنة،و ربما يكون بعد ساعات، لأن الله سبحانه وتعالى (يُصلح أمر المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في ليلة)[34] كما في الرواية، فقد يحدث لله سبحانه وتعالى (بداء) الذي هو بمعنى (الإبداء) في ساعة واحدة، فتتغير هذه المعادلات الظاهرية المكتوبة في لوح (المحوِ والإثبات)،و يتجلى ما هو مكتوب في (اللوح المحفوظ)، بإذن الله سبحانه وتعالى، لكننا إذا كنا من (المرابطين في ا لثغر الذي يلي إبليس) دائماً، عندئذ سنكون من المقربين الفائزين في الدنيا والآخرة إنشاء الله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿4﴾ بِنَصْرِ اللَّهِ)[35].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

** للإطلاع على باقي فصول الكتاب:

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

........................................................

[1] القيت المحاضرة بمناسبة اليوم التاسع من ربيع الأول،اليوم العرفي لتتويج الإمام الحجة(عجل الله فرجه الشريف) بتاج الإمامة، والمشهور بيوم فرحة الصديقة الزهراء  (عليها السلام)

 [2] الصف:8-9

 [3] بحار الأنوار-ج51-الباب الخامس-ح58

 [4]  الغاشية:21

 [5] الجن: ٨

 [6] بحار الأنوار-العلامة المجلسي-ج44-ص381-في تلاقي الحسين  (عليه السلام) مع الحر رضي الله عنه

 [7] بحار الأنوار -العلامة المجلسي -ج44- ص382- في نزول الإمام الحسين  (عليه السلام) بكربلاءالمقدسة.

 [8] البقرة:85

 [9] النور:55

 [10] الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 368: محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن ابن كثير قال كنت عند أبي عبد الله  (عليه السلام) إذ دخل عليه مهزم، فقال له: جعلت فداك أخبرني عن هذا الامر الذي ننتظر، متى هو؟ فقال: يا مهزم كذب الوقاتون وهلك المستعجلون ونجا المسلمون.

 [11] بحار الأنوار-ج36-باب فيما قاله النبي صلى الله عليه وأله في عدد أئمة أهل البيت  (عليه السلام)-ص252

 [12] الزمر: ٦٩

 [13] بحار الأنوار-ج52- ص 345

 [14] الأنبياء: ١٠٧

 [15] بحار الأنوار-ج20- الباب 12-ص21

[16] الصف:10

[17] آل عمران: ٢٠٠

 [18] الكافي-الشيخ الكليني-ج2-باب الصبر- ح19

 [19] وقد أوضح السيد الأستاذ دام ظله معنى بل معاني (إقامة الصلاة) في بحث آخر مستقل.

 [20] التفسير الأصفى-الفيض الكاشاني-ج1-ذيل تفسير سورة آل عمران-ص189

 [21] تفسير القمي-علي بن إبراهيم القمي-ج1-ص129

 [22] بحار الأنوار-العلامة المجلسي-ج24-باب ما نزل في الأئمة  (عليهم السلام) من الحق والصبر والرباط والعسر واليسر-ح5

 [23] مكيال المكارم-ميرزا محمد تقي الاصفهاني-ج2-ص400

 [24] بحار الأنوار: ج44 ب34 ح14 ص282.

 [25] القصص: ١٠

 [26] الكافي-الشيخ الكليني-ج8-ص381

[27]  الاحتجاج-الشيخ الطبرسي-ج1-ص8

 [28] مكيال المكارم-ميرزا محمد تقي الاصفهاني-ج1-ص398

 [29]  نفس المصدر

 [30] نفس المصدر

 [31]  الاحتجاج-الشيخ الطبرسي-ج1-ص8

 [32]  الاحتجاج-الشيخ الطبرسي-ج1-ص9

 [33]  الاحتجاج-الشيخ الطبرسي-ج1-ص10

 [34]  بحار الأنوار-العلامة المجلسي-ج13- ص42

 [35]  الروم:4-5

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 1/تموز/2010 - 18/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م