الأمن القومي... إحياء نظرية بريجنسكي

مرتضى بدر

الدكتور (زبيغنيو بريجنسكي) مؤلف الكتاب (الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم)  (The Choice: Global Domination or Global Leadership) الصادر في العام 2004، عمل مستشاراً للأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر)، ويعتبر اليوم من الشخصيات الأميركية القليلة التي تتمتع بعقلية إستراتيجية، وكان له دور بارز في رسم الشؤون السياسية والأمنية الإستراتيجية.

قرأت كتابه (الاختيار) مرات عديدة، ولا أبالغ حين اقول انني استطعت أن أغوص في فكره الواسع، لما يتمتع به الرجل من سعة اطلاع على ثقافات العالم وتاريخ الشعوب، ونظرته الثاقبة لمستقبل العالم، ومدى قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم الذي بات معولماً سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

 الخلاصة التي توصل إليها (بريجنسكي) تشير إلى أن الأمن القومي الأميركي لا ينفصل عن الأمن العالمي، وأن الأمن الذي تنشده الولايات المتحدة لا يمكن تحقيقه إلا إذا تمكنت من إيجاد “القيادة البناءة” من أجل إنشاء نظام عالمي بشكلٍ تعاونيٍ وعبر الشراكة مع حلفائها، وعليها أن تقوم باختيار تاريخي، والإجابة عن سؤال أساسي وهو: هل ستسعى أمريكا إلى السيطرة على العالم أو قيادته؟

إنني حينما أقارن بين ما طرحه (بريجنسكي) من أفكار وأطروحات، وما أعلنه مؤخراً الرئيس الأميركي (أوباما) من إستراتيجية جديدة للأمن القومي لبلاده، أجد الكثير من التطابق في الأفكار والرؤى بين الرجلين اللذين ينتميان إلى نفس المدرسة السياسية، وأقصد الحزب الديمقراطي.

ومن الواضح أن (أوباما) قد استلهم أفكاره من الفكر الاستراتيجي لبريجنسكي في وضعه لإستراتيجيته الجديدة، التي تعتمد بالدرجة الأولى على الاعتراف بوقائع القرن الحادي والعشرين وفتح قنوات التعاون، والانخراط مع قوى جديدة وصاعدة في العالم كالهند والبرازيل وتركيا، وأخرى نافذة مثل الصين وروسيا. وهو في الواقع نفس الطرح الذي دعا إليه (بريجنسكي) في كتابه قبل ستة أعوام. الأخير يشير إلى “أن بروز حركة جامعة أوروبية وأخرى آسيوية معاديتين لأمريكا قد يحول دون تشكيل إطار العمل اللازم للأمن العالمي، بخاصة إذا غذّته الأحادية الأمريكية. فينبغي أن تدفع الحساسية تجاه ذلك الخطر جهود الولايات المتحدة لتعميق الروابط الأميركية الإستراتيجية مع المناطق الغربية والشرقية الحيوية من (أوراسيا) وتوسيعها”.

(أوباما) في إستراتيجيته تجاوز الخوف من بروز قوى معادية لأمريكا في أوروبا وآسيا، بل يرى في تنظيم القاعدة أكبر تهديدٍ للأمن القومي الأمريكي بالدرجة الأولى، ومن ثم سباق التسلح النووي بالدرجة الثانية.

إدارة باراك أوباما أعادت تعريف الأولويات الإستراتيجية الأمريكية وضرورة إحياء القوى الاقتصادية والأخلاقية والإبداعية للولايات المتحدة في حال أرادت التمسك بموقعها القيادي. وأكدت الوثيقة أن “على الولايات المتحدة صوغ نظام دولي جديد يعكس واقع القرن الحادي والعشرين حيث عظمة أمريكا غير مضمونة”.

(بريجنسكي) كما (أوباما) يراودهما الشك في بقاء أمريكا على قوتها وعظمتها ونفوذها إذا ما استمرت في قيادة العالم بصورة أحادية؛ ولذا يرون ضرورة إشراك قوى فاعلة أخرى في الساحة الدولية وفق مبدأ التعاون والشراكة. الملحوظ أن (بريجنسكي) كما (أوباما) في الوقت الذي يدعوان فيه إلى الشراكة الجماعية، فإنهما يلتزمان بضرورة تمسك الولايات المتحدة بقيادة الجماعة الجديدة التي سوف تتشكل وفق نظام دولي جديد.

لا شك أن مفهوم الأمن القومي لدى إدارة (أوباما) قد اختلف عن سابقتها في الشعار والممارسة، إلا أن هذا الاختلاف ليس جذريًا كما يعتقد البعض؛ ذلك لأن نزعة الهيمنة مازالت تتحكم في عقلية أصحاب القرار في البيت الأبيض، ولكنها تحاول إبرازها بأسلوب براغماتي.

وحسبما جاء في الوثيقة الجديدة ضرورة (إحياء القوى الاقتصادية والأخلاقية والإبداعية للولايات المتحدة). نتمنى أن تلتزم الإدارة الأميركية بوثيقتها، وتعترف بمصالح وحقوق القوى الأخرى، وأن لا تجرّ القوى الصاعدة بغرض تحقيق مصالحها، وتأمين الأمن القومي للولايات المتحدة فقط دون غيرها.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 26/حزيران/2010 - 13/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م