في متاهات فلسطين.. أسوار عصية على السقوط

شبكة النبأ: من حقول الألغام على حدود إسرائيل مع سوريا ولبنان إلى السياج الحصين حول الضفة الغربية وقطاع غزة.. الكثير من الأمور التي تصدرت عناوين الصحف هذا الشهر.. إلى الجدران القديمة والجديدة للقدس تشكل الحواجز حياة 12 مليون شخص تقطعت بهم السبل هنا في المكان الذي كان يسمى من قبل فلسطين.

ولكن تلك الحيوات والملايين الآخرين الذين مستهم الأحداث التي تتجاوز بكثير هذه الحدود تحدها حدود داخلية تكاد لا تُشاهد.. دينية وثقافية وعرقية وسياسية.

ويقول مراسل رويترز، مع آخر ختم مغادرة على جواز سفري.. أنهي مهمة التغطية الصحفية التي كلفت بها في المدينة المقدسة والتي ظللتها صور الحواجز والمشاعر بأن السور يرتفع وأضحى عدد الناس الذين يمكنهم المرور من خلاله أقل فأقل.

وما أصابني بالدهشة هو مشاهدة أناس محبوسين في الداخل وآخرين محبوسين في الخارج من خلال نشر متاهات من الحدود والعوالم المتوازية. كل ذلك في مساحة تعادل ثلث مساحة اسكتلندا التي جئت منها.

وبصفتي مراسلا لرويترز تعودت على شرح ما أرى للناس الذين يعيشون في عالم بعيد. في اسرائيل والمناطق الفلسطينية كثيرا ما يطلب مني وصف حياة من يعيشون على بعد أميال قليلة لجيران لم يعودوا يلتقونهم.

سألني جندي اسرائيلي ونحن نحتسي الكابوتشينو في مركز تجاري خارج قطاع غزة مباشرة بعد أن سيطرت حماس على القطاع "هل صحيح أن النساء لا يمكنهن الخروج على الملأ الآن.."

كانت الاجابة "لا". ولكن يمكن أن تكون الاسئلة على نفس الدرجة من السذاجة لو سألها فلسطينيون بشأن اسرائيل التي كانوا يعرفونها جيدا فيما مضى.

وبصفتي أجنبيا وصحفيا فلدي امتيازات خاصة لعبور هذه الحواجز سواء المتاهات الرهيبة والأقفاص في حاجز اريز الذي يفصل غزة عن اسرائيل أو الخط الاخضر الذي كان مسورا بين شرق القدس العربي وغربها اليهودي وهو الان غير مرئي ولكنه محسوس. ولا يمكن لمعظم الاهالي التنقل بهذه الصورة أو لن يرغبوا في ذلك.

وبين غزة واسرائيل ينضم الصحفيون الاجانب الى بضع عشرات من عمال الاغاثة كل يوم والى الفلسطينيين المتجهين الى المستشفيات الاسرائيلية في طريق من الارض العازلة يمتد 700 متر.

وفي هذه الايام عادة ما يكون المكان هادئا ومنسجما مع الحياة البرية وهو منطقة عازلة بين غزة المدينة العربية التي تسير الى الوراء ممتطية عربات تجرها الحمير وتعاني نقصا بسبب الحصار من جهة والمزارع الانيقة والمصانع ذات التكنولوجيا الرفيعة ومراكز التسوق في جنوب اسرائيل من جهة أخرى.

ولكن غزة ليست الجزيرة الوحيدة في هذه الحلقة الحبيسة. فاسرائيل معزولة هي الاخرى. وقفت على حدودها مع لبنان وسوريا حيث تشكل الالغام والدبابات والخنادق حدودا ما زالت في حالة تحسب. وعبرت نقاط العبور التي قلما تستخدم متوجها الى الاردن ومصر الموقعين على معاهدتي سلام باردتين.

ومن قواعد اسرائيلية في مرتفعات الجولان يمكنك رؤية أضواء دمشق. ومن القدس تتلالا أضواء العاصمة الاردنية عمان عبر الوادي. وتقبع اسرائيل على مقربة من هاتين.

شاهدت الغربة بين الفلسطينيين في معسكرات سياسية متنافسة يغادرون غزة والضفة الغربية اللتين بينهما حالة حرب حقيقية.

شاهدت اسرائيليين في حالة انقسام على أنفسهم أيضا.. بين أبناء المهاجرين الاوروبيين الاوائل ومن وصلوا لاحقا من الشرق الاوسط واثيوبيا والاتحاد السوفيتي.

وهناك أيضا مشهد الصبية اليهود المتشددين وهم ينقلون الحواجز حول أحيائهم الاخذة في التوسع في القدس من أجل حماية شعائر يوم السبت من تدخل اليهود العلمانيين. وهي صورة على درجة كبيرة من الحدة.

وفي داخل الحي القديم نرى أن الاحياء التي تعود للعهد العثماني.. حي العرب وحي اليهود وحي المسيحيين والارمن- تشكل ملامح الخلافات التي ما زالت حية في يومنا هذا. وتظهر ميادين معارك صغيرة تحدها الاسلاك الشائكة والاعلام والقمامة الملقاة أن اسرائيليين يسكنون مناطق عربية.

وفيما تدير الطوائف ظهرها لبعضها بعضا رأيت لافتات المدينة ذات اللغات الثلاث مشوهة.. فاللغة العربية مشطوب عليها باللون الاسود في القدس الغربية واللغة العبرية مطموسة في القدس الشرقية فيما هناك تجاهل للكتابة باللغة الانجليزية. كما شاهدت مجموعات صغيرة للمسيحيين العرب تخوض معارك نفوذ في الكنيسة حول ضريح السيد المسيح.

وأبرز سور هو السور الجديد الذي يتلوى حول القدس الكبرى لحمايتها بحسب ما تقول اسرائيل من المفجرين الانتحاريين مع عزلهم عن أسرهم بحسب ما يقول الفلسطينيون.

وجدت نفسي أصف لزملائي في رام الله التي تبعد مسافة 15 دقيقة بالسيارة مشهد تغير ملامح القدس التي ينتمون اليها. وعلى غرار وصف الاسرائيليين بتحبب رحلاتهم الى مطاعم الاسماك في غزة فان القدس عند كثير من الفلسطينيين لم تعد موجودة الا في غياهب الذاكرة.

ويشتكون هم أيضا من أن الحاجز الذي يبقيهم في الضفة الغربية هو حدود في اتجاه واحد فقط. ويعيش في الضفة نصف مليون اسرائيلي في أرخبيل من المستوطنات الواقعة على قمم التلال وتتميز بيوتهم عن بقية بيوت الضفة الغربية الخاصة بالقرى العربية بالقرميد الاحمر.

وهناك تقسيمات وحواجز أخرى تفصل الناس عن بعضهم. ففي الخليل الحرم الابراهيمي الذي يقدسه المسلمون واليهود. وهو مقسوم الى قسم يهودي واخر عربي. لكن ذلك لم يمنع اراقة الدماء.

ويقول الكثيرون ان بناء الاسوار هو الوسيلة الوحيدة لاحتواء العنف على الرغم من أن الجغرافيا والتركيبة السكانية لا تجعل ذلك بسيطا.

ولكن هناك مشاهد ستبقى معي لاولئك الذين يتجاوزون الاسوار. رأيت ذلك مع صحفيي رويترز الذين عملت معهم. فمهنيتهم تتجاوز فلسطينيتهم أو اسرائيليتهم حتى اذا شكك منتقدون من كل الاطراف في ذلك. ولكن مع اغلاق الحدود يجد الناس العاديون الذين تجاوزوها أنفسهم منبوذين من مجتمعهم.

وصار التعاون المهني هو الاخر أكثر ندرة. ولكنني مع ذلك رأيته في مستشفيات اسرائيلية زرتها بسبب اصابة زملائي أو بسبب تعرضهم للعنف. كان العاملون والمرضى من مختلف المشارب يتخالطون بسهولة. وهو مشهد مختلف على نحو غير عادي عن العالم الخارجي.

لذا فليس من قبيل الصدفة أن يثير طبيب من غزة يتقن العبرية دعوات تعاطف نادرة عبر الحدود في العام الماضي. حينما عرض التلفزيون الاسرائيلي مناشدته لتقديم المساعدة بعد أن قُتل أطفاله خلال الهجوم الإسرائيلي.

وقد تأثرت جراء تعاطف كثير من الإسرائيليين معه كما تأثرت من رفض الطبيب بإباء حمل الضغائن على الرغم من أن الجانبين لم يبدآ بالفعل تصفية المرارات التي خلفتها الحرب على الطرفين.

وأنا أغادر وأمر عبر حاجز تفتيش آخر للمرة الأخيرة لا أرى مؤشرا يذكر على أن الأسوار ستسقط.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/حزيران/2010 - 11/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م