البحث عن تخريجة لغوية

د. أحمد راسم النفيس

تُري هل يمكن حل مشاكلنا الفكرية باستخدام التخريجات اللغوية الفهلوانية التي تهدف لإرضاء المؤيدين وتطييب خواطرهم وإسكات المعارضين وإجبارهم علي لزوم الصمت، علي طريقة واعظنا الذي سنروي قصته بعد قليل وهو القائل: (أعين المعتزلة حَول، وصوتي في مسامعهم طبول، وكلامي في افئدتهم نصول، يا من بالاعتزال يصول ويحك كم تحوم وتجول حول من لا تدركه العقول! كم أقول! كم أقول! خلوا هذا الفضول!) لتمضي المسيرة بعد ذلك إلي نهايتها أو إلي اللا شيء، إذ إن اصرار هؤلاء علي اللامنطق هو الدليل الوحيد علي وجود اللاشيء!!.

فلا تطييب خواطر المؤيدين وبث الطمأنينة في قلوبهم بأن كل شيء علي ما يرام وأن جميع المسائل تمام التمام ولا إرهاب المخالفين في الرأي ووصفهم بأنهم من أتباع (اليهودي جولد تسيهر ولامانس) أو حتي من أتباع ابن سبأ يمكن أن يغير من حقيقة التدهور الفكري الذي تعاني منه ساحة الفكر الديني في مصرنا المحروسة، أو تفلح عبر التلاعب بالكلمات في تحويل فسيخنا إلي شربات!!.

قصة الواعظ والكزي

يروي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قصة طريفة ربما كان من المفيد سردها للدلالة علي أن لا شيء يتغير وأن اللاشيء ليس بوسعه أن يصبح أي شيء: كان ببغداد، واعظ مشهور بالحذق ومعرفة الحديث والرجال، وكان يجتمع تحت منبره خلق عظيم، وكان مشتهرا بذم المعتزلة وأهل النظر والشيعة، فاتفق قوم علي أن يضعوا عليه من يسأله تحت منبره ويفضحه بين الناس فانتدب لذلك شخص يعرف باحمد بن عبد العزيز الكزي، فأحضروه وطلبوا إليه أن يقوم ذلك فجلس الواعظ في منبره واجتمع الناس عنده حتي امتلأت الدنيا بهم، وتكلم على عادته فأطال، فلما مر في ذكر صفات الباري سبحانه، قام إليه الكزي فسأله أسئلة عقلية على منهاج المتكلمين من المعتزلة فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري وانما دفعه بالخطابة والجدل، وسجع الألفاظ وتردد الكلام بينهما طويلا، وقال الواعظ في آخر الكلام: أعين المعتزلة حَول، وصوتي في مسامعهم طبول، وكلامي في افئدتهم نصول، يا من بالاعتزال يصول، ويحك كم تحوم وتجول، حول من لا تدركه العقول! كم أقول، كم أقول! خلوا هذا الفضول! فارتج المجلس، وصرخ الناس، وعلت الأصوات وطاب الواعظ وطرب، وخرج من هذا الفصل الي غيره فشطح وقال سلوني قبل أن تفقدوني، وكررها قام إليه الكزي، فقال يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة الا علي بن أبي طالب عليه السلام، وتمام الخبر معلوم، واراد الكزي بتمام الخبر قوله عليه السلام (لا يقولها بعدي الا مدع) فقال الواعظ وهو في نشوة طربه، وأراد إظهار معرفته برجال الحديث والرواة، من علي بن ابي طالب؟ أهو علي بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري ام علي بن أبي طالب المروزي وعد سبعة من أصحاب الحديث كلهم علي بن أبي طالب فقام الكزي، وقام من اليمين آخر، ومن اليسار ثالث انتدبوا له، وبذلوا انفسهم للحمية ووطنوها على القتل.

 فقال الكزي اشا يا سيدي فلان الدين، اشا صاحب هذا القول هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وإن كنت ما عرفته بعد بعينه، فهو الشخص الذي لما آخى رسول الله صلي الله عليه وآله بين الاتباع والاذناب آخي بينه وبين نفسه، وأسجل علي أنه نظيره ومماثله، فهل نقل في جهازكم انتم من هذا شئ أو نبت تحت خبكم من هذا شئ. فاراد الواعظ أن يكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن وقال يا سيدي محمد بن عبد الله كثير في الأسماء، ولكن ليس فيهم من قال له رب العزة (ما ضل صاحبكم وما غوي. وما ينطق عن الهوي. إن هو الا وحي يوحي) وكذلك علي بن ابي طالب كثير في الاسماء ولكن ليس فيهم من قال له صاحب الشريعة (أنت مني بمنزلة هرون من موسي إلا انه لا نبي بعدي). وقد تلتقي الاسماء في الناس والكنى كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق فالتفت إليه الواعظ ليكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر، وقال يا سيدي، حقك تجهله، أنت معذور كونك لا تعرفه: وإذا خفيت على الغبي فعاذر ألا تراني مقلة عمياء. فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر، وافتتن الناس، وتواثبت العامة بعضها الي بعض وتكشفت الرؤوس ومزقت الثياب، ونزل الواعظ، واحتمل حتى ادخل دارا اغلق عليه بابها، وحضر اعوان السلطان فسكنوا الفتنة وصرفوا الناس الى منازلهم واشغالهم. انتهي

هذه هي الطريقة التي يريد أن يكمل البعض بها المسيرة حيث يحصل كل مختلف في الرأي علي حصته كاملة من التوبيخ والتحقير وهذا هو المجال الوحيد الذي يجري فيه توزيع (الجوائز بالعدل والمساواة)!!.

شيوخنا والمسكوت عليه

بالأمس أرسل إلي أحدهم كتاب أصدره أحد الدعاة الأكثر شهرة في ثمانينات القرن الماضي عندما كان المئات يصطفون خلفه أثناء صلاة الجمعة حيث يمكن إدراج الكتاب في خانة (الإنكار المطلق لأن تكون هذه الكتب مصدرا للسنة النبوية المطهرة)!!.

إذا فظاهرة (الإنكار المطلق) لهذه الكتب والدعوة للاعتماد علي القرآن وحده كمصدر للتشريع تتمادي بل وينضم إليها من كانوا رموزا للوعظ والإرشاد وربما سينضم إليهم آخرون.

هناك ظاهرة أخري مسكوت عليها ولا تجد ردا من هؤلاء الشيوخ وهي استخدام الروايات التي ابتكرها عروة بن الزبير وأدرجها البخاري وغيره في كتبهم في التبشير المسيحي وكلما ازداد شيوخنا تعنتا في الدفاع عن البخاري وعروة وابن شهاب الزهري كلما ازداد (دليل هؤلاء المبشرين قوة) بأن هذه الخرافات والأكاذيب هي من صميم الإسلام.

أين هي الجريمة إذا في القول بأن (مدونات هذه الكتب خليط من النصوص الصحيحة والنصوص المبتورة عن موضعها والظروف المحيطة بها رغم صحتها، وتلك النصوص المكذوبة على رسول الله صلي الله عليه وآله وتلك النصوص المنتقاة التي لاترقي إلي مرتبة النص الشرعي).

أيهما أفضل: أن نعترف بالحقيقة القائلة بأن هذه الكتب بها الصحيح الذي يتعين علينا الحفاظ عليه والباطل الذي يتعين علينا أن نتخلى عنه وننكره مثل روايات عروة وورقة بن نوفل مستشار الوحي النصراني، أو أن نواصل العناد والمكابرة واستخدام الحيل اللفظية (برقبتي ياريس) في نفس الوقت الذي يتسع فيه الخرق وتتمادي الكارثة ويواصل البعض إرسال رسائل التهديد المبطنة (يا ابن سبأ يا جولدتسيهر يا لامانس).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/حزيران/2010 - 10/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م