مَنْ يُظهر دين الله؟

وما هي فلسفة التبري؟

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم، إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[1]

هذه الآية الشريفة كسائر الآيات القرآنية الكريمة تختزن في داخلها ما لا يمكن أن يُتصور من عميق المعاني، وبحار الدقائق،و لكن بقدر البضاعة المزجاة ربما نستطيع نحن البشر أن نستكشف، - أقل من واحد بالمليار، بل أقل من ذلك - بعض (سطح) الآيات القرآنية الكريمة، لأن القرآن مجلى عظمة الله سبحانه وتعالى، وحيث أنه لا حدود لعظمته جل إسمه، ولا انتهاء له،فلا حدود ولا انتهاء لمظهر عظمته جلَّ اسمه..

المعنى الأصح لـ (يظهره على الدين كله)

وسنتحدث بعض الحديث حول كلمة (سنظهره) امتدادا للمحاضرة الماضية؛فقد قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

والسؤال هو: ماذا تعني كلمة (يظهر)؟ وما الذي تختزنه هذا الكلمة في داخلها من أسرار؟

والجواب هو أن (أظهره عليه) لها معنيان:

المعنى الأول: أي أطلعه عليه، أي أعلمه به..

المعنى الثاني: أي نصره، أي غلبه بالحجة وبالبرهان، وبالقدرة وما أشبه ذلك.. فيظهره عليه يعني: يجعله غالباً عليه..

ولنستشهد على ذلك بكتاب الله، فقد قال سبحانه وتعالى: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)[2]

فـ (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ): أي أن يطلعوا عليكم، أن يكتشفوا مكانكم، وأمركم يرجموكم، هذا على احتمال..

و الاحتمال الثاني: أنهم إن يظهروا عليكم: أي أن يظفروا بكم، يرجموكم..

وفي آية أخرى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)[3]

فـ(فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوه) هنا ظاهرة في المعنى الثاني، في تلك القضية المعروفة، قضية ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، والسَّد الذي جعله بين الجبلين (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوه)؛ أي أن يتغلبوا عليه، أي أن يعلوا عليه، (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوه)، أي فما استطاعوا، أن يصعدوا فوق السَّد ويتغلبوا على هذه العقبة، ولا استطاعوا أن يحفروا حفرة أو نقباً...كما أنهم لم يستطيعوا هدمه ونقضه وتدميره.

المعنى في هذه الآية الشريفة هو المعنى الثاني ظاهراً.

وأما قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فالظاهر أن معناه هو: أي ليجعله غالباً، مُهيمناً، مُسيطراً، عالياً، مُستعلياً على الدِّين كله، لا ليَطلعه.

رجوع ضمير (يظهره)للدين أو للرسول؟

وبذلك يَظهر ضعف ما ذهب إليه بعض المفسرين[4]: من استغراب ارجاع الضمير إلى رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث توهم إنحصار معنى (يظهره) في (يطلعه) فكيف يرجع الضمير للرسول عندئذٍ؟ إذ لامعنى للقول بأنه تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليطلعه على الدين!

لكن الحق صحة إرجاع الضمير للرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) بارادة معنى ليجعله غالباً مسيطراً عالياً من (يظهره) وتوضيح ذلك: أن في الآية الشريفة احتمالين:

الاحتمال الأول: أن الضمير يعود إلى (الدين)،فـ(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) أي ليظهر (دين الحق) على الدِّين كله، أي ليجعله غالباً، لا بمعنى ليطلعه،أي يطلع الدِّين على الأديان،فهذا مما لا معنى له،فالمعنى الصحيح لـ(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) هو: أن دين الإسلام سيكون بإذن الله وأمره هو الغالب، والمهيمن على الأديان كلها..

الاحتمال الثاني: أن يرجع الضمير إلى (الرسول)   (صلى الله عليه وآله وسلم) (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) لماذا، ما العلة الغائية له.؟ ليُظهر رسوله (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

لكن بعض كبار المفسرين استغرب إرجاع الضمير إلى رسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستبعده لأنه تصوَّر أن المراد من (ليظهره)؛ أي يُطلعه، وهذا ما لا معنى له، أي لا معنى لإرادة (ليطلع رسول الله على الدِّين كله) لكنه لم يلتفت إلى المعنى الآخر (ليظهره) والحاصل أنه من الواضح أنه إذا أرجع الضمير إلى (الدين)، كان معنى (يظهر) هو الغلبة، والعلو، والسيطرة، والهيمنة، أي الدين الإسلامي يغلب، ويهمن على سائر الأديان كذلك عندما نرجع ضمير (يظهره) إلى (الرسول)   (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) يكون المعنى؛أي ليجعل رسوله غالباً،و مُهيمناً،و مُسيطراً على الأديان كلها.. فهذا المعنى معنى سلس وواضح وعلى القاعدة.

ونستنبط منه نقطة لطيفة جداً، وهي أن:

خاتم الأوصياء هو نفس خاتم الرسل

الحقيقة الأولى: وحدة نفس رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) مع نفس الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، وذلك لأن من البديهي وجداناً، وعياناً، أن دين الإسلام، وأن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يظهر على الأديان كلها، ولم يغلب عليها، بل لا تزال المسيحية، واليهودية، والبوذية، والمجوسية، والهندوسية، وغيرها من الأديان موجودة، بل وسائدة ولها أتباع كُثُر في أنحاء العالم، ولها قوتها ولها سطوتها، وقد تزيد قدرتها في جوانب عديدة، على قدرة، وسيطرة، وهيمنة، الدين الإسلامي الظاهرية، من جهات عديدة، فلم يحدث ذلك (أي ليظهره على الدين كله) في زمان رسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا في هذه الأزمان، وإنما حسب متواتر رواياتنا، وأيضاً المستفاد من روايات أهل العامة، سيكون ذلك في زمان الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)..

إذن معنى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) - بناءً على عود الضمير للرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدل عليه ظاهر السياق إذ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ)، معناه: (ليظهر رسوله) لكن الرسول لم يظهر على سائر الأديان، بل سيظهر سبطه خاتم الأوصياء وفي آخر الزمن ومع ذلك عبَّر الله تعالى بـ (ليظهره)، ولا يكون ذلك إلا مع وحدة نفس الرسول الأعظم مع نفس الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).

لا يقال: المجاز هو المراد إذ ظهور الإمام المنتظر هو ظهور للرسول الأعظم لأنه حفيده وإمتداده.

إذ يقال: إنما يصار إلى المجاز لو تعذرت الحقيقة لكنها غير متعذرة في المقام إذ مع إمكان الإلتزام بـ (وحدة النفسين والنورين النيرين) لا ضرورة للإنتقال للمجاز.

أدلة ثلاثة على الوحدة

والأدلة على وحدة رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أوصيائه الأطهار عديدة ولها مبحث واسع لكن نشير هنا إشارة إلى بعض الأدلة على ذلك:

الدليل الأول: قوله تعالى،في يوم المباهلة: (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[5]

(وَأَنفُسَنَا) في الآية بالإجماع، هو الإمام علي بن أبي طالب  (عليه السلام)، فهو نفس رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا أمكن ذاك ودل على وقوعه الدليل، أمكن كون الإمام المهدي أيضاً،هو نفس رسول الله.. وتكون الآية الشريفة هذه من أدلة عالم الإثبات وشواهده... وهكذا نستكشف صدق وحقيقة كون إظهار المهدي المنتظر على الأديان كله، وسيطرته، وهيمنته، إظهاراً وهيمنة لرسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) حقيقةً وليس مجازاً.

الدليل الثاني: ما تواترت بذكره (الروايات) عند الشيعة، واستفاضت وربما أكثر من الاستفاضة عند العامة، الروايات التي تصرّح بأن الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين، والأئمة المعصومين، كانوا نوراً واحداً بين يدي الله سبحانه وتعالى مما يوضح ويؤكد قوله تعالى (وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) إذ كانوا نوراً واحداً، ثم انشطر وانشعب.

الدليل الثالث: وهنالك روايات عديدة أيضاً توجد في أمهات كتب السنة أيضاً من قبيل: (أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتى)..[6]

فكانوا في بدء الخلقة شجرة واحدة، وكانوا نوراً واحداً،ولعل (الوحدة النورية) سابقة على (الوحدة بالشجرة) فهم بأجمعهم (نفس واحدة) إذن فلا يستغرب من قولنا أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) هو عين رسول الله، ونفس رسول الله حقيقة.

وعلى أي حال فإذا قبلنا هذا المعنى الذي تدلُّ عليه الروايات، ويدل عليه العقل أيضاً، فتفسير (ليظهره)؛واضح جدا عندئذ أي ليظهر رسوله على الدين كله ولكن كيف.؟

إنه سيكون بإظهار نفس رسول الله، وهو الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) على سائر الأديان.

وإن لم يقبل شخص، فرضاً هذا المعنى رغم وضوحه وبداهته، فإننا نلزمه بالمعنى الكنائي الذي لا مناص له منه، ولا محيص، لأن هذا هو حفيده، وهو مُحيي أمره وسنته، فكأن إظهاره على الأديان إظهارٌ لرسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الغلبة إذا كانت (للإبن) فإنها هي للأب في التعبير المتداول والدارج لدى كل الأمم والشعوب، خاصة إذا كان الإبن رافعاً راية أبيه، داعياً إلى دينه وشريعته ومطالبا بثاراته أيضاً، فقوله تعالى {ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ} ليظهر رسوله، عبر حفيده أو سبطه،و هو الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) هذه هي الحقيقة الأولى..

ركنا إظهار الدين التولي والتبري

الحقيقة الثانية: وتحتاج إلى بعض الدِّقة، وهي حقيقة هامَّة جداً، وربما تكون بهذا الأسلوب، أو بهذا البيان جديدة، ومفيدة..

فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره ولكن السؤال هو وكيف يتم الإظهار.؟ وعلى أي شيء يعتمد الإظهار.؟

والجواب:أن أظهار الرسول أو الدين الإسلامي، على الأديان كلها،يعتمد على دعامتين أساسيتين، وركنين ركينين: ركن السلب، وركن الإيجاب.

وذلك تماما ككلمة التوحيد (لا إله إلا الله) حيث تتكون من ركنين: ركن النفي والسحب المطلق، وركن الإثبات والايجاب الحتم، وعليك تجاه كلمة التوحيد، وما يشتق منها أن تتمسك بركنين أيضاً هما: ركن التولي، وركن التبري..

وفي مرحلة الإثبات لا يمكن لدين أن يظهر حقاً كان أو باطلاً، إلا بالاعتماد على ركني السلب، والإيجاب، على ركن التولي الذي هو الجانب الإيجابي، والتبري الذي هو الجانب السلبي، ولذا نفى الأنبياء العظام الأصنام وحاربوها، كما (نفوا) الطواغيت وقارعوهم، كما نفوا القيم والأعراف الجاهلية الباطلة وهاجموها، وأحلوا محل ذلك كله (الحق) (والعدل) و(الصدق والوفاء) و(الخير) و(الحرية) و(الإخاء).

وإذا نظرنا للقضية من زاوية القضايا الفطرية نجد: أن مصب (التولي) هو أن تجلب إلى نفسك وإلى شعبك وأمتك بل وإلى البشرية (المنفعة)، وإن مصب (التبرّي) هو: أن تطرد عن ذاتك وأمتك وعن البشرية أيضاً (المضرة).

ركنان ركينان يُكمِّل أحدهما الآخر،جلب المنفعة من جهة، ودفع المضرة من جهة أخرى؛ التبرّي في واقعه، وفي مظهره هو ذلك.

فلسفة اللعن والتبري

و واحد من مظاهر التبري (اللعن)، ذلك أن للتبري مظاهر عديدة، لكن واحداً من أجلى مظاهر التبري هو اللعن، إذ إن التبري في جوهره أن تتبرأ عن شخص مجرم، أو عن دين باطل، أو عن مذهب منحرف،أو عن حاكم طاغية، أو حكومة جائرة، أو ما أشبه ذلك والسؤال الهام هو ما هي فلسفة التبرّي، وما هي فلسفة اللعن، وما أشبه ذلك.؟

لاحظوا ودققوا جيداً حتى نرى كيف تعتمد هذه الآية على كلتا الدعامتين.؟

إن التبري في جوهره، وكذلك اللعن في مظهره؛ يعتمد على أربع قضايا،هي:

أولاً: على قضية فطريةٍ..

ثانياً: ويعتمد على قضية عقليةٍ..

ثالثاً: ويعتمد على قضية عقلائيةٍ..

رابعاً: ويعتمد على قضيةٍ شرعيةٍ..

أين موقع اللعن؟

واللعن ما هو معناه؟

ماذا يعني قوله تعالى (يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)[7]

فماذا يعني لَعَنَ زيدٌ الإستعمار أو الإستبداد أو فرعون وهامان ونمرود ويزيد؟

إنه يعني (الإبعاد) أي يُبعدهم الله عن رحمته، فاللعن هو الإبعاد،فهنالك شخص سارق ولص وخائن ومخادع، هل اللص يُقرَّب.؟ وهل اللص يُوضع مُحاسباً في شركة، أو أمين صندوق.؟

اللص موقعه الطرد، والإبعاد، واللعن؛و هذا الشيء بديهي، وهذه من القضايا الفطرية، فطرة الإنسان تقضي بأن هذا الذي يهاجمني، وينتهك حريمي، ويحاول أن يؤذيني، يجب على أن أبعده، وأن أطرده؛ واللص مثال واضح لذلك، كيف نحن نعرف هذا المعنى في اللص، ونوافق عليه ونؤيد، بل نهاجم الشركة أوالحكومة أو الجماعة الكذائية لو قربت اللصوص والخونة وإعتمدت عليهم في وزارة المالية وغيرها؟ كيف نعرف ذلك وندركه ونؤمن به ونلتزم به في (لصوص الأموال)، ولا نعرفه ولا نلتزم به في (لصوص الأفكار)؟! وكيف لا نلتزم به في سارق ولص الدين، ولص المذهب، وسارق القيم الأخلاقية، والمُثُل العليا.؟

هل الإرهابي يكرم أم يطرد ويلعن؟

وإليكم مثالاً آخر أوضح لدى كثير من الأذهان وهو: (الإرهابي)، الإرهابي كيف نتعامل معه.؟ من الواضح أن موقع هذا الإرهابي الذي يروم التفجير،والتدمير، ويهلك الحرث والنسل، موقعه الطرد والإبعاد أو النفي والسجن لا أن يكون حاكماً، أو وزيراً أو نائباً في البرلمان أو مسؤولا في الشركة أو الحزب أو النقابة أو المسجد والحسينية.

إن الإرهابي مثل الحجاج، ومثل صدام وهيتلر إذا سمحنا له بأن يحتل موقعاً، فإن ذلك يعني أننا شركاء له في كافة جرائمه وفي كل ما يقدم به من تخطيط لإهلاك الحرث والنسل، فالموقع الطبيعي للإرهابي هو السجن، هو الإبعاد، لا تأخذك به رحمة أو شفقة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله -بالنسبة إلى الزاني والزانية- إن الإرهابي والمجرم موقعه الطبيعي هو أن يكون في زاوية من زوايا الخمول والنسيان، بل من زوايا السجن، وليس أن يكون رئيساً، أو وزيراً، أو نائباً، أو ما أشبه ذلك.. الفطرة تقتضي ذلك، هذه قضية فطرية.

مقياس القضية الفطرية

وأنتم لاحظوا مقياس القضية الفطرية ما هو؟

مقياس القضية الفطرية هو: ما إشترك في إدراكه أو الحكم، به الإنسان مع الحيوان، وأنتم لاحظوا الحيوانات ولاحظوا الإنسان أيضاً، (الحيوان) عندما يُهاجمه، أو يهاجم وليده، سبعٌ ضار ماذا يصنع.؟ هل يستقبله بالأحضان وبأكاليل الزهور والورود وهل يُقدِّم وليده لقمة سائغة، أو يقدم نفسه بكل ود وحب وإحترام؟

كلا... وألف كلا... إن فطرته تقضي عليه بأن يدافع عن نفسه وأهله ويقاوم إن إستطاع وتقضي عليه بأن (يفر) (ويبتعد) ويبعد وليده إن لم يستطع، أي تقضي عليه بأن (يلعن) ذاك المفترس، أي أن يبعده، ولو بالقوة، والقسوة، أو أن يبتعد عنه بكل قوة كاملة فيه.

والإنسان كذلك بفطرته يُبعد المجرم أو يبتعد عنه، إنه يُبعد مَنْ يُريد انتهاك الحريم أو يبتعد عنه، فإذن هي قضية فطرية، (اللعن) أي (الإبعاد) -والذي يعد الإبتعاد وجهه الأضعف- قضية فطرية بدليل إشتراك كافة بني البشر من أسود وأبيض وكبير وصغير ومتدين وعلماني مع كافة الأفراد الحيوان، فيها.

(اللعن) قضية عقلية

و(اللعن) أيضاً قضية عقلية: لاحظوا عقل الإنسان يحكم بماذا.؟

إنه يحكم بإبعاد المجرم القاتل السفاح أو المصاص للدماء، إنه يحكم بإبعاد اللص، بإبعاد من يريد إنتهاك الأعراض، بإبعاد من يريد أن يظهر في الأرض الفساد، وأضعف الإيمان الإبتعاد عنه لو لم تستطيع إبعاده وطرده.

والدليل على كون هذه القضيه عقلية - وبشكل عام فإن الدليل على أن الشيء كالحكم الكذائي أو الإدراك الكذائي عقلي أو غير عقلي- هو اشتراك ذلك بين الكبير والصغير، وبين الجاهل والمثقف، وبين الحضري والبدوي، فإن الطفل أيضاً بعقله - رغم صغره بل قد يكون رضيعاً - لو عرف بأن هذا يهاجمه أو يعتدي عليه ويريد الإضرار به، فإنه يحاول أن يبعده منه، أو أن يبتعد عنه، إنه يرى أن اللازم أن يبعده إذا استطاع يُبعده، وإلا فإنه يبتعد عنه حسب ما أوتي من قدرة، فإذا كان قادرا حكيما غير سفيه فإنه يطرده ويبعده، وإذا كان غير قادر فإنه يبتعد ثم يبتعد ثم يبتعد. على أقل التقدير يبتعد فهي قضية إذن عقلية.

والحاصل: أنه عندما يُفكر أحدنا بصفاء ذهن وسلامة نفس في فلسفة اللعن أو التبري، يجدها قضية فطرية، قد غرسها الله في داخل فطرته وفي عمق ذاته، كما يجدها قضية عقلية، قد غرسها الله في عقل كل إنسان عاقل..

والخلاصة أن (اللعن) أمرٌ فطري، وهو أمر عقلي، بل إنه من المستقلات العقلية فكما أن العقل يحكم بحُسن ردِّ الوديعة، ويحكم بحُسن حفظ الأمانة، وكما أن العقل يحكم بقبح الظلم وحُسن العدل، وحُسن الإحسان، وما أشبه ذلك، فإنه يحكم بحسن بل بوجوب اللعن؛ أي إبعاد المجرم، إبعاد اللص، إبعاد الإرهابي، ومن شاكلهم، عن موقع المسؤولية، عن موقع الرحمة، عن الموقع المتميز الاجتماعي، وما أشبه ذلك، فإذن هذه هي قضية فطرية وعليها جرت سيرة الشارع الأطهر (ما لهم لعنهم الله)، الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) يلعن، والقرآن من قبل قد شحنه الله باللعن، ونحن علينا أن نتأسى به فنلعن ونتبرأ.

اللعن قضية عقلائية

واللعن قضية عقلائية أيضاً: أنتم لاحظوا عقلاء كل المِلل،فإن كل الأمم ومن شتى الأديان والثقافات والميول والإتجاهات، يبعدون (الضار والخطير) أو يبتعدون عنه، فهناك إيمان بـ (الجامع) والجامع هو ضرورة (الحجر) على (الضار) و(الخطير)، وضرورة (إبعاده) أو (الإبتعاد) عنه، إنما الإختلاف في (المصاديق) وما هو الضار والخطير؟ هل هو (الإرهابي)؟ هل هو (عدو الله والقيم والمثل العليا)؟ هل هو (عدو الحكومة الديمقراطية)؟ وهكذا.

وبعبارة أخرى:الجوهر والجامع هو: أن كل الأمم تعتقد أن هناك مجموعة جرائم ومجموعة مجرمين، لابد من إتخاذ موقع صارم منهم، ومنعهم وإبعادهم، ولا تصح الرحمة بهم أو الشفقة عليهم، وذلك كمجرم خطير يأتي إلى الشارع ويشهر السلاح الفتاك، ويحاول أن يقتل الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويثير في الأرض الفساد، ويهتك الأعراض وما أشبه ذلك؛ وفي هذا المثال فإن كل الأمم تطرده، وتبعده، وتحجِّمه وتحجر عليه في أقل الفروض... نعم في بعض الأمثلة قد يحدث إختلاف في المصاديق، ويكون (الإتجاه) مختلفاً، ويكون الحق مع بعض دون بعض، لكن أصل القضية مما اتفق عليه العُقلاء، بل إن بعض صورها وفروعها كمثال السفاك القاتل، لا يوجد فرق فيها بين الأديان والأمم فسواء الدين الإسلامي، أم المسيحي، أم الهندوسي، أم غيرها فإنهم بأجمعهم مجمعون على ضرورة الإبعاد، والطرد، واللعن، (الثبوتي والإثباتي) لمن يحاول أن ينتهك الحرمات، ويسرق أموال الناس، ويصادرها ويقتل النفس المحترمة، ويثير في الأرض الفساد؛ إذن ذلك أمرٌ عقلائي أيضاً: اللعن، والطرد، والإبعاد..

اللعن قضية شرعية

وإضافة إلى ذلك فإن (اللعن) هو أمر شرعي:فإن آيات القرآن الكريم تجدونها مليئة باللعن (يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وربما يستشعر من قوله تعالى (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) إنه ليس كل أحد له أهلية أن (يلعن) كل من لعنه الله تعالى، بل هم أشخاص خالصون مخلصون، ولله مطيعون، أولئك الذين يتأسون بالله سبحانه وتعالى وبرسوله، فيلعنون كما لعن الله ورسوله والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام) (يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)..

وهناك رواية لطيفة تقول: أن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) مرَّ بقومٍ وقد نصبوا دجاجة (دجاجة حيَّةً أمسكوها ونصبوها، وثبتوها في الجدار بمسامير مثلاً أو بأي شيء آخر) وهم يرشقونها بالنبال (تصوروا هذا المنظر ما الذي تحكم فيه الفطرة السليمة بالنسبة إلى هؤلاء الأشخاص.؟ ألا يجب أن (يُبعدوا) عن مثل هذا العمل؟ وإذا لم يرتدعوا ولم ينفع معهم (النصح) بوجهٍ ألا يجب أن (يبعدوا) عن (الإحتضان)؟ وعن (المواقع الإجتماعية عامة أو خاصة التي تتضمن مسؤولية وتستلزم مواقف وقرارات قد تكون عنيفة وقاسية جدا؟ أو على الأقل ألا يجب أن (يبتعد) الناس عنهم؟ فإن إحتضانهم يجرؤهم أكثر، وستسرع أخلاقهم للآخرين عندئذٍ، وسيكون من فعل ذلك شريكاً لهم في الوزر. هذا ما تقوله الفطرة، ويحكم به العقل بالنسبة إلى مثل هذا الشخص، ويحكم به الوجدان، ويلتزم به العقلاء، ويقول به الشرع أيضاً. ولنعد إلى الرواية فإنها هكذا تقول: أنه مر رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوم وقد نصبوا دجاجة حيَّة، وهم يرمونها بالنبال فقال الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم): ما لهم لعنهم الله..[8]

الرسول يلعن ابن العاص سبعين ألف لعنة بن عاص: قد هجوت رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبعين بيتاً من الشعر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم إنني لا ينبغي لي أن أقول الشعر فالعن عمرو بن العاص بكل بيتٍ ألف لعنة..[9]

وقد ظهر بذلك أن اللعن أمر شرعي أيضاً، إضافة إلى أنه أمر فطري، وأمر عقلي ومن المستقلات العقلية، وأمر عقلائي أطبقت عليه الأمم والملل، وإن اختلف اتجاه اللعن، لكن أصله مما لا كلام فيه لا شك يعتريه، وهناك روايات كثيرة في هذا الحقل، لكن اكتفينا بهذا المقدار روماً للإختصار.

عودة إلى الركنين

وكما سبق فإن (ظهور الدين) على الأديان كلها، يكون بكلا الركنين: ركن الإيجاب، وركن السلب، ركن التولي، وركن التبري، ولذلك نجد في الآية الشريفة تتمة لها الدلالة على المعنى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). (فإن المشركين) يكرهون علو الإسلام وسيطرته، ويجندون عندئذ كل قواهم لضربه وتحطيمه أو دحره على الأقل، كما صنع مشركوا مكة مع رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)... وهل يقف القائد الإسلامي والمجتمع الإسلامي عندئذ مكتوفي الأيدي ليقتل أولئك المشركون من يقتلوا ويسفكوا من الدماء ما يسفكوا؟ أم لا بد من جهة وعمل سلبي في مقابل عملهم السلبي الصارخ؟ وكما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد) وقال: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) إذن هنالك جانب سلبي، فيه قوة، فيه شدة في إبعادهم عن إضلال الناس وعن إستضعافهم، وإبعادهم عن مواقع القيادة، قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)؟ لأن الدين الإسلامي إذا أراد أن يحل محلها فإن من اللازم أن يقصيها عن القيادة، وأن يطرد مناهج وقوانين تلك الأديان عن أن تكون هي المسيطرة والمهيمنة على شؤون الناس، وأن يطرد تلك القيادات.

والضمير في (لِيُظْهِرَهُ) إذا عاد للرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولمن هو نفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما أوضحناه أو على الأقل لمن يحل محل الرسول وهو الإمام، فإن ليظهره على الدين تعني (ليظهر الرسول الأعظم عبر شخص سبطه خاتم الأوصياء الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)على الدين كله..

إظهار الدين يكون بالقيادات الصالحة

والسؤال الان هو ولكن كيف (يُظهره على الدين كله)؟

الجواب: أن ذلك يتم بأسباب غيبية، وبأسباب طبيعية، ومنها: صنع القيادات البديلة، عن تلك القيادات الجائرة الظالمة، وذلك ككل حاكم ظالم، وكل مستعمر جائر.. فاللازم أن تتم عملية طردهم عن مواقع المسؤولية، فلا يكون أي منهم وزير اقتصاد، ولا وزير دفاع، ولا مستشاراً ولا معاوناً ولا ولا ولا... فكيف بأن يكون رئيس دولة؟

إن إبعاد هؤلاء الأشرار والضلال من جهة، وإحلال الأخيار الأبدال، مكانهم من جهة ثانية هما المزيج الذي لابد منه لكي (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ولكي يتم الخروج من الظلمات إلى النور.

إذن هنالك عملية (طرد)، وعملية (إحلال)، أو (تخلية وتحلية) إن شئت فعبّر، من جهةٍ للأفراد، ومن جهةٍ للمنهج؛ فاللازم أن يتنحى ذاك المنهج الاقتصادي ويوضع محله منهج اقتصادي إسلامي سليم، واللازم أن يبعد ويقصى ذاك الأسلوب والمنهج السياسي، الاجتماعي، الحقوقي، وأن يُطرد، من الحياة لكي يحلَّ محله الأسلوب الإنساني الإسلامي الفطري الشرعي السليم.

تلخيص يتضمن إضافات هامة

فعودة على ما أشرنا إليه من: أن (اللعن) مما تحكم به الفطرة والشريعة، ومما يحكم به العقل والعقلاء، فقد لاحظوا جيداً ما هو ملاك الحُكم الفطري والعقلي والشرعي والعقلائي؟ إذ الأحكام قد تكون فطرية، وقد تكون عقلية، وقد تكون عقلائية، وقد تكون شرعية.. فما هو الملاك في هذه الأربعة.؟

الملاك في الحكم الفطري-على حسب المشهور وإن كان لنا تفصيل في هذا الكلام-، هو: ما كان ملاكه، دفع الضرر المحتمل، وأما الحكم العقلي فهو: ما كان ملاكه شكر النعمة، والحكم العقلائي هو: ما كان ملاكه جلب المنفعة، والحكم الشرعي ما كان ملاكه المصلحة المُلزمة في المتعلق.. هذه الملاكات الأربعة كلها موجودة في (التبري) وفي (اللعن) - وربما في وقت آخر نتطرق لها بالتفصيل إن شاء الله- وفيما يرتبط بالمقام لأن الوقت اتى علينا فنترك هذا للتوضيح الجديد، أو المدخل الجديد، لبحوث قادمة إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وعودة على ما أشرنا إليه من إعتماد (إظهار الدين) على الركنين، نقول في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ)، كيف يتم هذا الاظهار؟ وعلى ماذا يعتمد.؟ إنه يعتمد على الجانب السلبي بإبعاد قوى الكفر، والشرك، والضلال، والانحراف.. وعلى الجانب الإيجابي بإحلال المؤمنين الأخيار، الأبدال محلهم، وبإبعاد مناهج أولئك، وإحلال هذه التعاليم الدينية القيمة..

وعودة ثالثة: فإننا عندما نتدبر في هذه الآية الشريفة نستكشف بُعداً من أبعاد اللعن، ونستكشف جانبا من فلسفة اللعن، وفلسفة التبري في الشريعة الإسلامية، وإنك لا يمكن أن تنير البلاد وتنشر الضياء إلا بلعن الظلام والظلاميين والفراعنة وأشباه هيتلر وصدام، وطردهم والتبري منهم، وذلك كله أمر عقلي وعقلائي وفطري وشرعي.

وكان هنالك حديث أطول في هذا الحقل، لكن أختم باعتبار أن الوقت قد أدركنا فلنختم برواية واحدة فقط وأقول:

الروايات من الضروري أن يلاحظها الإنسان، فإن (فلسفة) اللعن التي ذكرناها، وغيرها لا تحرك الإنسان بمفردها لأنك تعرف أن الإنسان بطبعه لا تُحرّكه الفلسفة، إذ الفلسفة أمر جامد، والجامد لا يحرك الإنسان عادة، لكن الإنسان تُحركه (العواطف السليمة) من جهة، ويُحركه (الثواب)، ويردعه (العقاب) من جهة ثانية.

الأجر العظيم على اللعن

ولذلك فإن (اللعن)، مع أنه أمر عقلي،و أمر عقلائي، ومع أنه أمر فطري تحكم به الفطرة، ومع أنه أمر شرعي وردت به آيات قرآنية كثيرة، ودلَّت عليه الروايات المتواترة؛ مع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى لكي يسوقنا باتجاه هذا المنهج، أي منهج التبري واللعن الذي هو الجناح الموازي للتولي والانقياد أيضاً، وقرر الله سبحانه وتعالى على اللعن أيضاً أجراً عظيماً، والروايات في ذلك كثيرة نقتصر على روايتين احداهما وردت في مصداق من مصاديق من يستحق اللعن، والأخرى في الأجر العظيم على اللعن، أما الرواية الأولى فهي عن الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام)، يقول: لعن الله قاطعي سبل المعروف..[10] هذه الرواية فيها تفصيل نتركها لوقت آخر..

وأما الرواية الثانية: فهي أيضاًعن الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام)، يقول داود الرِّقي: كنت عند أبي عبد الله  (عليه السلام) إذ استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثم قال لي: يا داود لعن الله قاتل الحسين  (عليه السلام) وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين  (عليه السلام) وأهل بيته ولعن قاتله (هذا منهج التبري، منهج اللعن، منهج إيجاد خط فاصل على مر التاريخ بين جيش الظلام، وجيش النور، وإلا لماذا القرآن الكريم يذكر اسم فرعون رغم أنه (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[11] لماذا يذكر اسم فرعون، وهامان، ونمرود، وما أشبه..؟

إنما ذلك لابد منه لأجل إيجاد حاجز حديدي بين الجبهتين، وإلا غزت جيوش الظلام جحافل النور) ما من عبد شرب الماء فذكر الحسين  (عليه السلام) وأهل بيته، ولعن قاتله إلا وكتب الله له مئة ألف حسنة، وكل حسنة أكبر من الدنيا بما فيها..[12]

(وفي رواية أخرى) وحَطَّ عنه مئة ألف سيئة، ورفع له مئة ألف درجة، كل درجة فاصلها عن الأرض أكثر من الأرض إلى عنان السماء، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنما أعتق مئة ألف نسمة، وحشره الله تعالى يوم القيامة، ثَلِجُ الفؤاد..

في يوم نكون بأحوج ما نكون فيه إلى أن تطمئن قلوبنا عندئذ بلطف الله، ونصر الله، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..

 .......................................................

* فصل من كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

** للإطلاع على باقي فصول الكتاب:

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

 ....................................................

 [1] (التوبة:33)

 [2] (الكهف:20)

 [3] (الكهف:97)

 [4] راجع الميزان في تفسير القرآن في تفسير هذه الآية -ج9 ص247

 [5] (آل عمران:61)

 [6] البحار للشيخ المجلسي:ج21 ص280..

 [7]  (البقرة:159)

 [8] البحار للشيخ المجلسي:ج61 ص268،وفيها (من هؤلاء لعنهم الله)..

 [9] الاحتجاج للشيخ الطبرسي:ج2ص150..

 [10]  الكافي الشريف للشيخ الكليني:ج4 ص33..

 [11] (البقرة:134)

 [12] راجع كتاب كامل الزيارات لابن قولويه:ص212 ففيه تفصيل الروايات في هذا الباب..

لاحظوا هذه الرواية الثانية ذات الدلالات البالغة: الإمام الحسن المجتبى (عليه الصلاة وأزكى السلام)، - يقول لعمرو بن العاص (وعمرو بن العاص كان قد هجا رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبعين بيتاً من الشعر، والنبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليه ولعنه بكل بيتٍ ألف لعنة) الإمام الحسن المجتبى (عليه الصلاة وأزكى السلام)، كما في سفينة البحار نقلاً عن الاحتجاج والعديد من المصادر الأخرى -، قال لعمرو

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/حزيران/2010 - 4/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م