نحن والآخرون

على ضوء قاعدتي (الإلزام والإمضاء) وقاعدة (لي دين)

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾)[1]

قاعدة الإمضاء وقاعدة الإلزام

هنالك قاعدتان تسمى الأولى، بـ«قاعدة الإمضاء» والثانية بـ«قاعدة الإلزام»، وكلتاهما يمكن أن تستفاد من قوله سبحانه وتعالى؛ (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) حيث أن الحديث في الأسابيع الماضية كان حول العلاقة التي ينبغي أن تتحكم، وتحكم الأديان، والمذاهب، والحضارات، وما هو الإطار العريض الذي يهندس العلاقة بين هذه الأديان، والحضارات والملل المختلفة؟

هل هي علاقة الاندماج والذوبان، أو الصراع، أو علاقة الحوار والتعايش أو غير ذلك من العلائق والأطر والروابط؟

إن مما يوضح ويلقي الضوء على جانب من العلاقة التي ينبغي أن تتحكم وتحكم بين الأديان، وبين الحضارات والمذاهب، هما قاعدتا الإمضاء والإلزام..

أشرنا في الأسبوع الماضي إلى قاعدة (الإلزام)، فنضيف الحديث عن قاعدة (الإمضاء) هذا اليوم بإذن الله تعالى، ذلك أن قاعدة (الإمضاء) وقاعدة (الإلزام) كلتيهما تجريان بالنسبة إلى (الكفار) في علاقة المسلمين بهم، كما تجريان حسبما نرى بالنسبة إلى إطار علاقة أهل العامة بأتباع أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام).

قاعدتان تنظِّمان الروابط، والوشائج، والعلائق بين الطرفين، وتوضيح ذلك يتم ببيان الفارق بين القاعدتين وموردهما؛ فإن قاعدة الإمضاء تختلف عن قاعدة الإلزام؛ بأن قاعدة الإمضاء نتيجتها لصالح الدِّين الآخر، أو لصالح المذهب الآخر.

1- قاعدة (الإلزام) عليهم ولضررهم

وأما مقتضى قاعدة الإلزام والناتج عنها على ضوء تشريعهم فهو لصالحنا، ففي كلتا الحالتين تشريعهم ممضى، من قبل الشارع المقدس من الناحية القانونية، والظاهرية، والشكلية، لكن قد يكون إمضاء قانونهم لصالحهم، وقد يكون عليهم، كما أن كل تشريع قد يكون ضاغطاً على الإنسان، وقد يكون مما يفسح له آفاقاً ويفتح له مجالات جديدة.

أمثلة لقاعدة الإلزام

أ- الزواج دون إشهاد أو إشهار

توضيح ذلك بالمثال؛ لاحظوا - لأن هذا بحث عام الابتلاء عند أهل العامة - أن (الزواج بدون إشهاد) عند كثير منهم باطل، وعند بعضهم بدون (إشهار) باطل.

أما نحن فنرى أن الزواج يتقيد بقيود منها: رضاها، ورضاه، وبعض الشروط الأولية الواضحة، مثل رضا الولي في الباكرة-على رأي كثير من الفقهاء- وما أشبه.

لكن لا الإشهاد (استشهاد شاهدين أو شاهد واحد) ولا الإشهار (أي الإعلان) ليس أي منها شرطاً في صحة النكاح عندنا، لكن عند الكثير من أهل العامة (الإشهاد) شرط، فلو لم يُشهد شاهدين ويستشهد شهيدين فالنكاح باطل.

تقول «قاعدة الإلزام»، إذا تزوج رجل ملتزم بمذهب من مذاهب العامة بامرأة، بدون أن يُشهد على ذلك أحداً فزواجه حسب مذهبه باطل وهذا لضرره، لكنه هو ألزم نفسه بالنتيجة بالتزامه بمذهب، فلرجل من مذهب آخر أن يتزوج هذه المرأة، فالنتيجة لضرره على طبق مذهبه، فنلزمه بما ألزم به نفسه.

فإذا تزوج بدون إشهاد، أو على حسب رأي بعضهم من أن الإشهاد ليس ضرورياً، والإشهار (الإعلان) هو اللازم فقط فزواجه في مذهبه باطل، فالشيعي يستطيع أن يتزوجها، إلزاماً له بما ألزم نفسه.

فقاعدة الإلزام إذن نتيجتها هي بضرره من الناحية الشخصية، لكن دينه أو مذهبه هو الذي أوقعه في ذلك، ونحن نتعامل معه على ضوء قوانين دينه أو مذهبه هو.

ب- الطلاق دون شاهدين

وكذلك في مثال آخر معاكس وهو (الطلاق) بدون شاهدين.. فعند العامة لا يشترط في الطلاق الشاهدان لكن عندنا يشترط الشاهدان، فعند أهل العامة في الطلاق لا يشترط استشهاد شهيدين، فإذا طلقها بدون شاهدين عادلين حسب مذهبه فالطلاق صحيح، والغير، من المذهب الآخر، يستطيع أن يتزوجها مع أنه حسب مذهبنا طلاقه باطل لكن (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)ـ.

ج- الإرث

أو في مثال آخر في الإرث؛ فلو توفي الإنسان وله بنت واحدة وأخ، فنحن نقول: إن للبنت النصف بالفرض، والبقية بالرد، حيث ليس في طبقتها وارث آخر، فيعود لها النصف الثاني أيضاً، ولكن أهل العامة يقولون بالتعصيب؛ أي عود بقية المال للعُصبة التي هم في أطراف الإنسان مثل الإخوة والأعمام.

فإذا مات الإنسان وله بنت وهي من الطبقة الأولى وأخ وهو من الطبقة الثانية للإرث أو عم وهو من الطبقة الثالثة في الإرث فعند العامة البنت ترث النصف بالفرض، والنصف الثاني لأنه لم يُحدد لها يرجع للأخ، أو للعم، فإذا مات السني وله بنت سنية وأخ شيعي، فنستطيع أن نتمسك بقاعدة الإلزام، فالشيعي يرث النصف من هذا الميت المتوفى الذي هو أخوه، وذلك لأن القاعدة؛ التي نرجعها إليها هي (ألزموهم بما ألزموا أنفسهم) نظراً للروايات الصحاح الواردة في هذه القاعدة.

ففي صحيحة الإمام الباقر (عليه الصلاة وأزكى السلام): يجوز في كل دين ما يستحلون[2].

هذه صحيحة ويستفاد منها على حسب ما نستنبطه (قاعدة «الإلزام» و»الإمضاء») معاً وإن استنبط البعض إحدى القاعدتين فقط، وعلى أي تقدير هذه هي قاعدة «الإلزام».

2- وقاعدة الإمضاء، لصالحهم

وأما قاعدة «الإمضاء» فنتيجتها لصالحهم.

أ- أكل الأرنب، وبيعه لهم

فمثلاً الأرنب عند أهل السنة أكله حلال، وعندنا حرام، فقاعدة الإمضاء تقتضي السماح له بأكل الأرنب وعدم منعه منه، بل تقتضي جواز بيع الأرنب له، فهذه النتيجة لصالحه إذ إنه يريد أكل الأرنب وإن كانت أحياناً لصالحنا أيضاً كما في ثاني المثالين كما هو الحال في بعض أنواع السمك كالجري مثلاً، والتي قد تكون محللة عندهم، فيجوز لي أن أبيعها لهم.

ب- أكل الكافر للميتة

أو الكافر الذي يستحل كثيراً من الأطعمة مثل الميتة، فإنه مسموح له بذلك حسب قاعدة الإمضاء، وعلى ضوء السماح له بذلك، يجوز لي أيضاً أن أبيع الميتة له.. هذه «قاعدة الإمضاء» لأن ذلك في دينه جائز فأنا أستطيع أن أبيعه له.

فالنتيجة لصالحه، فـ»قاعدة الإمضاء» ما كانت نتيجتها لصالح «الطرف الآخر» سواء أكانت لصالحنا أيضاً أم بضررنا أم لا هذا ولا ذاك على حسب ما يتصور و»قاعدة الإلزام» ما كان بضرره سواء أكان لصالحنا أيضاً كالأمثلة السابقة أم كان بضررنا أيضاً كما لو فرض أن بطلان زواجه منها لأنه لم يشهد أو لم يشهر، أنتج زواج أحد الشيعة منها وانحرافه مثلاً لكن الكلام في (المصبّ) وإن مصب قاعدة (الإلزام) ما كان عليهم، ومصب قاعدة الإمضاء ما كان لهم بحسب طبعه الأوليّ.

والآية الشريفة (لَكُمْ دِينُكُمْ) يمكن أن تستنبط منها كلتا القاعدتين فقد أمضى الله من الناحية الشكلية، والظاهرية، والقانونية، دينهم بمعنى أنه يستطيع أن يعمل على طبق دينه سواءً أكان دينه، نتيجته لصالحه وهي «قاعدة الإمضاء» فله ذلك، وإذا كانت النتيجة بضرره فما دام ملتزماً بدينه أو مذهبه فعليه ذلك، والحاصل أنه تترتب عليه الآثار الإيجابية أو السلبية في المقام.

قاعدة: (وَلِيَ دِينِ)

إذن هذا نوع من تحديد العلاقة بين المذهبين، أو بين الدينين.

ولكن في المقابل (وَلِيَ دِينِ) فـ«قاعدة الإلزام» و»قاعدة الإمضاء» تسمح للطرف الآخر بأن يطبق شريعته، وأن يمشي على طبق دينه أو مذهبه، ولكن ليس له أن يفرض عليك شريعته وطريقته كما هو واضح.

ومن المؤسف أن المسلمين الكثير منهم ربما عملوا في الجملة بإرادة أم باضطرار بالقاعدة الأولى يعني قاعدة (لَكُمْ دِينُكُمْ) «إمضاءً» أو «إلزاماً» لكن القاعدة الثانية ولنسمها بـ(قاعدة ولي دين) لم يعمل بها في الجملة أو تماماً.

البلوغ وسن التصويت

لاحظوا مثلاً: سن التكليف مرهون ومنوط بالبلوغ، فالإنسان يبلغ، وهو رجل عندما يكمل السنة الخامسة عشر، ويدخل في السادسة عشر على المشهور، والفتاة تبلغ عندما تكمل التاسعة وتدخل في العاشرة، فهذا هو المقياس التشريعي لنا، وهذا المقياس التشريعي في كل مكان سارٍ وجارٍ وسيال، وانطلاقاً من ذلك لا يصح على ضوء شريعتنا أن يكون سن الانتخابات ثماني عشرة سنة، أو واحداً وعشرين سنة، أو أقل أو أكثر، فبمجرد ما بلغ الشاب أو الفتاة فله ولها حق التصويت، أما ثماني عشرة سنة أو واحد وعشرين سنة فهذا قانون غربي أقحم على الإسلام والمسلمين.

فمن منطلق (لَكُمْ دِينُكُمْ) سُمِحَ لهم بقانون «الإمضاء» وقانون «الإلزام»، ولكن (وَلِيَ دِينِ) أيضاً، فلماذا يُفرض رأيهم وطريقتهم على الطرف الآخر؟!

للمميز والطفل والجنين حق التصويت

بل الوالد (قدس سره) كان يرى الأكثر من ذلك، كان يقول: بأن الإنسان (المُمَيز) أيضاً له حق التصويت.. بل يقول أكثر من ذلك: أن الطفل له حق التصويت، وإن كان غير مميز، لكن الولي هو الذي يتصدى لذلك عنه.. بل حتى الجنين في رحم أمه له حق التصويت، ووليه يتصدى لذلك.. والعلة في ذلك واضحة وهي: أن المنتخب سيتصرف في هؤلاء جميعاً، في أموالهم، في حقوقهم العامة والخاصة، بل حتى في أبدانهم وحتى في أعراضهم ودمائهم، فإن قرارات الدولة تنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على الجميع، ومنهم الطفل في رحم أمه.. فالكل له الحق لكن حيث ليس بمقدوره أن ينتزع حقه وأن يدلي بصوته، فوليه من قبل الشارع هو المخول والمفوَّض إليه ذلك.

فانطلاقاً من هذا فكيف يفرض الآخر عليَّ تشريعه وكيف أتقبل أنا المسلم ذلك؟ مع أنه (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)؟

تأخير سن الزواج بهدف الإفساد

وكمثال آخر نأتي إلى «سن الزواج»، فسن الزواج في الإسلام هو البلوغ، فكيف يفرض الآخر سن الزواج عنده والذي هو ثماني عشرة سنة، أو واحد وعشرين سنة، أو خمس وعشرين سنة؟!

وإننا عند البحث والتحقيق نكتشف أن الهدف الحقيقي من ذلك؛ هو الفساد والإفساد، لأن الإنسان عند البلوغ يكون مهيئاً للزواج، فإذا تأخر الزواج من جهة، والأجواء في الجامعات، وفي الشوارع، والمدارس، وعبر الانترنت، والفضائيات كانت موبوءة، والشيطان موجود من جهة أخرى، فالنتيجة الطبيعية لذلك الفساد والإفساد بشكل لا يُصدَّق ولا يُتصور.

فالغرض الأساسي للذين يديرون هذه العملية في العالم هو إفساد المجتمعات وتحطيم العوائل والشعوب.

بين الخمس والضريبة

وكمثال آخر «الضريبة»، فعلى أساس قاعدة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) في الإسلام الضرائب أربعة ولا غير؛ الخمس، والزكاة على المسلمين، والجزية، والخراج على غيرهم، ففي القانون الإسلامي على المسلم ضريبتان وعلى غير المسلم، ضريبتان، لكن الغربي ابتدع وابتكر ابتكاراً شيطانياً، شيئاً سماه (الضريبة) في غير هذه الدائرة. فأنت أيها الغربي كيف تفرض ضريبتك وقانونك عليَّ؟!! فعلى أساس قاعدة (لَكُمْ دِينُكُمْ) سمحت شريعتنا لك بمقتضى قاعدة «الإمضاء» و»الإلزام» بأن تفعل ما يمليه عليك دينك، وإن كان في نظري باطلاً، فرغم اعتقادي بأن هذا الدين الموجود بأيديهم محرَّف، وهذا التشريع المدعى نسبته إلى السيد المسيح أو موسى بن عمران (على نبينا وآله وعليهما أفضل الصلاة والسلام)، مما لم يشرعاه، رغم ذلك أسمح لك أنت أن تمارس شعائرك، وأن تمشي على طبق قوانينك الوضعية، وفي المقابل أنت أيضاً يجب أخلاقياً وقانونياً وعرفاً أن لا تفرض قانونك عليَّ وأنا أيضاً يجب أن لا أستسلم لقوانيك الوضعية.

الخمس قانون عقلائي عكس الضريبة

إن (الخُمس) قانون عقلاني ينسجم مع الفطرة عكس الضريبة..لماذا؟

لأنه وحسب قانون الخمس فإنه يجب تخميس الفائض رأس السنة، فالخمس بني على مراعاة حق الفقراء.. وإننا نجد الإنسانية تامةً وكاملةً متجلية في هذا التشريع الإلهي، عكس قانون الضرائب الذي يقول: يجب أن تدفع الضريبة فقيراً كنت أم غنياً، وسواءً أكانت الضريبة ضريبة سفر أم حضر أم ضريبة شراء، ففي الدول الغربية عندما تذهبون لشراء بضاعة ما فإنكم ستجدون الضريبة موجودة على نفس البضاعة، ويجب أن تدفعها مع البضاعة، فعندما تشتري بضاعة ككيلو برتقال مثلاً قيمته ثلاث دولارات، الضريبة تأخذ في نفس اللحظة بل هي تسحب على ثمن البضاعة، فلا يمكن أن تستلمها دون دفع ثمن الضريبة (التكس)، وأكثر الناس فقراء، فالضريبة غير إنسانية على الإطلاق لأنها لا تفرِّق بين فقير وغني، ومحتاج وغير محتاج، لكن في الخمس أنت تصرف بقدر ما تحتاجه على حسب شأنك وعند رأس السنة إن كان لديك فائض، خمّس..

إذن الخمس إنساني والضريبة غير إنسانية هذه من جهة، ومن جهة ثانية، وحسب الإحصاءات فإن الضرائب في الغرب تترواح نسبتها من 33% إلى 45% لكن نسبة أقل بكثير، وهي في الإسلام حتى من الناحية الكمية الضريبة أكثر رعاية لحق الإنسان، فالضريبة في الإسلام 20% والزكاة 2.5%.

مثلاً في الواحد من أربعين شاة أو ما أشبه ذلك يعني الضريبة في الإسلام حوالي 22.5% خمساً وزكاة.

فالخمس إنسانيٌ تماماً، لكن الضريبة ليست إنسانية بالمرة إضافة إلى أن الضريبة تؤخذ رأس كل شهر من الإنسان أو عند كل سفرة أو عند كل تسوق أو غير ذلك، أما الخمس فيفسح للإنسان المجال فيه إلى رأس السنة.

فإن كان لديك فائض عندئذ ادفع، وليس عليك أن تدفع الضريبة رأس كل شهر وأنت في ضيق، فضلاً عن أنك يجب أن تدفع إلى جهات أخرى عديدة غير الدولة كالشركات بألف حيلة وحيلة مما ليس هنا مجال تفصيله.

فالآية الشريفة تقول: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، ويستفاد منها استظهاراً أن «قاعدة الإمضاء» و»قاعدة الإلزام» تجريان بالنسبة للغير بمقتضى قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ) كما أن قاعدة (وَلِيَ دِينِ) جارية في حقنا، فكيف يفرض الطرف الآخر دينه ورأيه علي؟ وقد تركت له حريته في إتباع دينه وقانونه؟ وكيف استسلم أنا لفرضه ودعاياته وتبليغه، والحال (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[3]، وهنا حديث وبحث تخصصي نتركه لمحله أنه ما هي النسبة بين هذه الآية القرآنية الشريفة وهي (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وبين قاعدة نفي السبيل المستفادة من قوله تعالى (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)[4] والقاعدة المستفادة من قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) هناك حديث طويل نتركه لبحثه في القواعد الفقهية.

إذن هذه نقطة في العلاقة، فلك دينك ولي ديني، سواءً في شؤون العقيدة، أم في شؤون الشريعة، والتشريع وما يتعلق بأفعال المكلفين، سواءً كان ذلك في الأحوال الشخصية، أم في الشؤون العائلية، أم فيما يرتبط بالمجتمع أجمع، من شأنٍ اقتصادي، أم سياسي، أم حقوقي أم غير ذلك.

هل الإسلام فرض نوعاً من التمييز العَقَدي؟

المبحث الآخر: في هذا العنوان، وهو بحث مهم ربما يكون محل تساؤل الكثيرين هو: أن الإسلام فرض نوعاً من (التمييز) مبنياً على العقيدة، فالمسلم له حقوق، أما الكافر فمحروم من بعض تلك الحقوق فهل الكافر يستطيع أن يتزوج بمسلمة؟ كلا.. لا يحق له ذلك.

والكافر لا يرث من المسلم وغير ذلك من الأمثلة.

فإذن قد يقال بأن الإسلام فرض نوعاً من التمييز، والآن هناك ضجة عالمية حول التمييز، سواء كان عنصرياً، أم قومياً، أم ما أشبه ذلك من أنماط التمييز التي تثير ضجة هائلة في العالم.

أحد أنواع التمييز هو التمييز العقدي، أو التمييز على ضوء العقيدة والدين، فكيف أنتم المسلمون قد فرض دينكم أنماطاً مختلفة من التمييز؟

هذه الشبهة تثار أحياناً، والكثير من ضعاف النفوس أو ضعاف الوعي والإحاطة بالجوانب يُذهل - إن صح التعبير- أو يتلجلج، أو يتحير عند طرح هذه الشبهة، ولكن أيضاً بإشارات سريعة، نقدم لكم بعض الإجابات:

الجواب: أولاً: أصل وجود الحد والتمييز أمر فطري

أولاً: ليلاحظ إن أصل (وجود الحد والحريم) هو أمرٌ فطري، فبين هذه العائلة وتلك العائلة وبين كل العوائل، هناك نوع من الحد والحريم، فمن المستحيل أن تكون العوائل مختلطة بشكل مطلق، فكل إنسان في كل بيت!! أو أي إنسان له أن يكون في أي بيت وفي أي وقت شاء! لا يحق له ذلك.

هناك حدٌ وحريم بين العوائل، بين الأصدقاء، فمثلاً الإنسان صداقته مع زيد مهما كانت وطيدة، لكن رغم ذلك لابد أن تكون هناك حرمة وحريم وحد و(خصوصية) لكل منهما.

حتى في مثل (المزاح) المزاح له حدود فيجب عدم تجاوز تلك الحدود وهكذا وهلم جراً.. في مختلف أنماط الأحكام، والعلائق بين الطرفين.. فأصل وجود نوع من الحريم، والحد، والمائز بين الأفراد، شيء فطري سواء بين الأفراد، أم بين العوائل، أم بين العالم والجاهل، أم بين الأستاذ والتلميذ، فبالفطرة نقبل أن مقام العالم يختلف عن مقام الجاهل، وحرمة العالم تختلف عن حرمة الجاهل وهكذا وهلم جراً..

بين الحدود الجغرافية والقومية والحدود العقدية

ولكن يجب أن ننتبه إلى نقطة، وهي: أن الحدود الموجودة ما هي أنماطها؟

وإحدى الحدود المتصورة هي: (الحد الجغرافي) الذي يتمسك به الغرب وبقوة، فنحن أيضاً لدينا حد عقدي، لكن الغرب يهاجمنا فيه.. نقول له أنت الغربي متمسك بـ(الحد الجغرافي) وبضراوة تمنع مثلاً الملايين من أهالي الجنوب المضطرين من الهجرة للشمال، رغم الأخطار التي تتهددهم إن بقوا حيث هم، في حال أن الحد العقدي هو على القاعدة، والحد الجغرافي ليس على القاعدة.

إنهم في (الحد الجغرافي) يميزون بين المواطن وغير المواطن، فلأنك ولدت في بلد غربي معين مواطن، وأنت عبد الله الآخر الذي ولدت في صقع آخر، في بقعة أخرى، في منطقة أخرى أجنبي وأنت محروم من كافة الامتيازات الموجودة في هذه المنطقة.

والآن لنتسائل هل الحد الجغرافي حد عقلاني وعقلي، أم الحد العقدي؟

(الحد العقدي) والعقائدي -إن صح التعبير- بلا شك هو العقلاني دون الجغرافي لجهات مختلفة سنشير لها لاحقاً إن شاء الله.

وكذلك الحال بالنسبة للحد القومي، من قومية عربية، أم فارسية، أم غير ذلك. كذلك (الحد العنصري) من هذا العنصر الآري أو عنصر آخر.

فلا بد أن يكون هنالك حدٌّ، وحريم لكن ماذا يجب أن يكون هذا الحد؟

حدود جغرافية؟ هذا وجه.

حد قومي؟وجه آخر.

حد عنصري؟ وجه ثالث.

حد عقدي؟ وجه رابع.

ثانياً: المفاضلة بين تلك الحدود

فلنقم الآن بالمفاضلة بين هذه الحدود.. فإن الحدود الأخرى غير الحد العقدي، تعاني من السلبيات التالية:

1. الحدود الأخرى ليست إختيارية

الفارق الأول: إنها ليست اختيارية فهي تهين الإنسان أشد إهانة، وهي تعد نوع سجن للإنسان لا فكاك له منه، أما الحد العقدي فهو اختياري، وبمقدوره أن يخرج من هذا الإطار والنظام الفكري والعقدي إلى إطار آخر.

العقيدة اختيارية، أي إنسان كان من أي لون ومن أي بقعة جغرافية، يستطيع أن يسلم وهو بذلك يستحق كل الحقوق الثابتة للمسلم، وستعطى له فوراً بدون أيِّ مِنَّة، فهو مسلم مهما كان لونه ومهما كان عنصره، تاريخه، وماضيه.. لا فرق في ذلك، فـ(الإسلام يجبُّ ما قبله).

أما الحدود الثانية فهي حدود غير اختيارية، ففي الحد الجغرافي لأنك مولود في بلد ما فحسب هذا النوع من الحدود، أصبحت أجنبياً وينتهي الأمر، فليس هناك اختيار للإنسان.

أنت لونك أسود أو أبيض أو أصفر، فليس بمقدورك تغيير هذا العنصر، وكذلك لا أستطيع ولا تستطيع أن تغير عنصرك.

أما عقيدتك فهي اختيارية فتستطيع تغييرها، إذا شئت، إما عن قناعة أو حتى بلا اقتناع بل رعاية وكسباً لفوائد معينة منظورة، فالشخص سيُعدّ (مسلماً) إذا تشهد الشهادتين فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) حتى لو لم يكن عن اقتناع، فالحقوق ستُعطى له فوراً، لأنه هذه (صِبغَةَ الله) فإذا تمسك المرء بهذه الصبغة ولو تمسكاً ظاهرياً فإن الحقوق ستعطى له هذا أولاً، وهو الفارق في الاختيارية واللاإختيارية.

2. وهي مرجوحة مفضولة

الفارق الثاني: هو أن المائز الذي نحن نقول به وهو (مائز العقيدة) مائز (أشرف)، أما الحدود الجغرافية، والأطر العنصرية، وشبههما، فليس فيها شرف وقيمة، فأولاً وأخيراً هي قطعة جغرافية هنا أو هنالك. ما هو شرفها؟ وهو لون أو عنصر.. ما هي أفضليته؟ وما قيمتها؟

أما العقيدة فهي كالعلم ذات قيمة ذاتية[5] فإن المائز بين العالم والجاهل، يعد من نوع المميزات ذات الشرف، وله القيمة العالم أعلى رتبة من الجاهل بحكم العقل وبالفطرة، فالمائز بالعلم أو المائز بالعقيدة مائز حقيقي واعتباري، بالفطرة وبالعقل، أنا اعتقد بالله الملك، الخالق، الرازق، وذاك يعتقد بصنم، أو يعتقد بأي شيء آخر، أو يعتقد غاية الأمر بمعبود وبمخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى كالسيد المسيح  (عليه السلام)، فيعتقد بأنه أحد الآلهة، فالفارق في الشرف واضح.

(الحدود الجغرافية) ليس لها شرف ولا فضيلة، و(التمييز العنصري) كذلك أيضاً، فالعنصر ليس مقياس شرفٍ لدى العقل، ولدى الفطرة، وكذلك أية قومية عن قومية وما أشبه ذلك، لكن المائز الذي أعتقد به، هو مائز له قيمة ذاتية، أما الميزات الأخرى فما لها أية قيمة على الإطلاق، هذا الفرق الثاني وله تفصيل يطلب من مظانه.

3. وما يعطيه الإسلام، أكثر بكثير

الفرق الثالث: أنه مع كل ذلك، فما يعطيه الإسلام لمن خالفه في المعتقد، أكثر بكثير جداً مما يعطيه ذاك الطرف الآخر لمن يقابله في العنصر، أو في اللون، أو في القومية، أو في الدين.

إنه يدعي بأنه أنا بصفتي مسلماً من الناحية الدينية غير منفتح، نقول أولاً: كلا.. أنا أشد انفتاحاً وأوسع عطاءً وثانياً: إن الإسلام وإن ضيّق من بعض الجهات الأخرى، إلا أن له الحق في ذلك لما ذكرنا من الجهتين الأوليين، وثالثاً: مع ذلك لو لوحظت دائرة ما أعطاه الإسلام للآخرين ربما سنكتشف بأنها أوسع بأضعاف مضاعفة مما هم يعطوه لنا، وإنّ ما يعطيه الإسلام لهم مثلاً ألف وما يعطونه هم لنا هو عشرون.

لكن هذه (العشرين) يسوقونها للعالم وكأنها ألف، ونحن نظراً لعدم التسويق الجيد أو الإعلام المتطور أو التبليغ المناسب نسوق الألف التي لدينا وكأنها عشرون.

أ. الأرض لله ولمن عمرها

مثلاً: قانون (الأرض لله ولمن عمّرها)، هذا حق بشري عظيم جداً وكبير جداً.. فللكافر الحق بأن يأتي إلى بلاد الإسلام ويستثمر قانون (الأرض لله ولمن عمرها)، فيعمّر ما شاء من الأراضي[6]، ويشيد ما شاء من المعامل، ويزرع ما شاء من الأراضي، فالأرض لله ولمن عمّرها؛ فلك حرية أعمار الأرض، هذه الحرية التي لم يعطها الكفار للمسلمين وحتى لشعوبهم.

ب. حرية السفر والإقامة

كما يعطي الإسلام للكفار أيضاً حرية السفر والإقامة، ولهم أن يسافروا إلى بلاد الإسلام ويقيموا فيها، في حال أن حرية السفر والإقامة الآن، من أهم أنماط التقييد في العالم الغربي وغير الغربي، فليس هناك حرية سفر وإقامة حرية، بل لابد من (ڤيزا) بشروط صعبة مرهقة، بل تعجيزية لمئات الملايين من الناس ثم لابد من (إقامة) بشروطها الأصعب.

ج. حرية التجارة

في مجال التجارة؛ يستطيع الكافر أن يتاجر طبعاً في إطار الحدود العامة الموجودة، مثل حدود (لا ضرر) حيث أن هذه القاعدة تشمل المسلم أيضاً، ويجب أن لا يتلاعب بالأسواق، فهذا عنوان عام وهو (لا ضرر)، ويشمل المسلم وغير المسلم، فليس هناك تمييز في هذا العنوان بين المسلم وغير المسلم، فما نعطيه من الحريات لهم وهم من دين آخر لا يقارن بما نمنعهم منه، مثل قضية الزواج، وهي عادةً قضايا شخصية ترتبط بدائرة العلاقات البشرية الفردية.

وتوضيح ذلك أن الإسلام يقول: ما دام ذلك الطرف الآخر أجنبياً - يعني كافراً- فلا يستطيع أن يتزوج بمسلمة.. وهذا أمر يدور في دائرة حدود العلاقات البشرية الشخصية، كما لا يرث الكافر من المسلم وبعض أمثال هذه الأحكام الموجودة في الفقه..لكن نحن ماذا نقول؟

نقول: أنت كافر ولك عقيدة ثانية، ولم تُرِد الدخول في الإسلام بمنتهى حريتك، واختيارك فمن الطبيعي أن لا تحصل على بعض الامتيازات، لكن جميع الحقوق الإلهية موجودة لك باستثناء هذه الأشياء التي تدور في إطار العلاقات الشخصية الفردية.

وفي مقابل ذلك: فإن للكافر أن ينتفع من أراضينا، فيزرع ما يشاء، وأينما شاء، ويرعى حيث شاء، وبيني ويعمر حيث شاء، كما له حق الاستيراد والتصدير بدون قيود عليه، لأنه كافر، وله حق مختلف أنواع التجارة، كما له مختلف أنواع الحيازة من حيازة أراضٍ إلى أسماك إلى غيرها، طبعاً كل ذلك في إطار الحق الطبيعي لكل فرد في إطار حق الجميع، إذ لا يحق لفرد مسلماً كان أو كافراً أن يحوز من الأراضي مثلاً ما يفوت حق الآخرين كما ذكر ذلك السيد الوالد (قدس سره) في الفقه الاقتصاد وغيره، أن ينتفع من الحرية بأنماطها وأشكالها المختلفة.

هذا العنوان أيضاً له بحث طويل جداً وقد أشار السيد الوالد إلى جوانب كثيرة من ذلك في كتاب (الفقه: الحريات الإسلامية).

د. الحدود الإسلامية معقولة

الفارق الرابع: ثم بعد ذلك إن دائرة (الحد الإسلامي)، هي دائرة معقولة؛ أما الحدود الأخرى فليست دوائرها معقولة على الإطلاق، وسنمثِّل لكم بعض الأمثلة الواضحة من اليهودية، وإذا سمح لنا المجال أيضاً من الهندوسية، ومن الحضارة الغربية أيضاً.

التمييز اللاعقلاني عند اليهود

مثلاً اليهودي يقول: فقط نحن البشر، أما غيرنا على حسب تعبيرهم فهم حمير وكلاب وخنازير مهما كانوا، هل هذا حد عقلاني؟

أ- الناس كلاب وخنازير

لاحظوا ماذا يقول الدين اليهودي المُحرَّف، ولنقرأ نصوصاً منه، يقول: (قريب اليهودي هو اليهودي فقط، وباقي الناس حيوانات في صورة إنسان، هم حمير، وكلاب، وخنازير).

ب- ضارب اليهودي مستحق الموت

المثال الثاني: (إن ضرب أميٌّ (ويقصد بالأميّ أيِّ إنسان من أي دين آخر) إسرائيلياً، فكأنه ضرب العزة الإلهية فالأمي يستحق الموت)، دققوا ما يقول النص؟ إنه يصرح بأن أي إنسان مسلماً كان أو مسيحياً أو بوذياً إذا ضرب إسرائيلياً فإنه يستحق الموت وإن كانت الضربة ضربة خفيفة عادية جداً.

ج- الله تزوج إسرائيل!

أما كونهم (شعب الله المختار)، فلأن الله قد تزوج إسرائيل، وسجل عقد الزواج بينهما، وكانت السماوات والأرض شهوداً على هذا العقد!! لاحظوا هذه التفاهة.

وإليكم النص الآخر المنقول أيضاً عن كتاب «مقارنة الأديان»، (ولليهودي في الأعياد، أن يطعم الكلب، وليس له أن يطعم غير اليهود، والشعب المختار هو اليهود فقط أما باقي الشعوب فهم حيوانات) وهكذا وهلم جرى[7].

إذن هذا نوع من التمييز، لكنه تمييز غير عقلاني، وليس في حدود عقلائية على الإطلاق..

التمييز في الحضارة الغربية

ونأتي إلى الحضارة الغربية التي تتبجح في العالم برفع راية المساواة، وتتغنى بدعاية (حقوق الإنسان)، ويتهمون الإسلام بالتمييز لمنعه المرأة من كذا، ومنع الرجل من كذا ومنع الكافر من كذا.

الحقيقة هي أنهم من يقوم بالتمييز العنصري والطائفي وغير ذلك، لكن بذكاء، وبالتدليس، والتلبيس.. ونذكر الآن بعض الأمثلة العابرة على ذلك.

أ- التمييز بين الشمال والجنوب ونظرية قارب النجاة

العالم في منطقهم مُقسَّم إلى الشمال وإلى الجنوب، ومعادلات الشمال والجنوب هي الحاكمة، هم أصلاً يعتقدون بنظرية قالها بعض حكمائهم وفلاسفتهم - وإن كانوا يحاولون أن يخفونها - نظرية (قارب النجاة)، والتي تقول: بأن العالم الغربي هم شعب الله المختار، فهم في قارب النجاة، وهم أدعياء حقوق الإنسان، ومجلى رحمة الله سبحانه وتعالى في الكون وفي البشرية، فهم في قارب النجاة والبحر المحيط بهم هو بحر الجهل وبحر الأديان والمذاهب الأخرى.

فيمنعون أهالي الجنوب من الهجرة للشمال على حسب هذه النظرية، وهناك باستمرار اجتماعات مع دول الشمال الأفريقي وغيرها، لمنع هجرة اللاجئين، إذن هناك نظرية معينة وإن لم يصرحوا بها بهذه العناوين.

بل يطرحونها بعناوين ثانية مثل عدم الإخلال بالأمن، لكن الحقيقة هي أنه يعتقد أن الجنوبي إنسان متخلف، رجعي، ليس له أي حق من الحقوق.

ب- سرقة 777 تريليون دولار!

وحسب إحدى الإحصائيات فإن ما نهبته دول الشمال من ثروات الدول الإفريقية، يعادل (تريليونات الدولارات) وليس (المليارات) ليس مائة مليار، ومائتي مليار، وإنما بالألف مليار، الذي هو تريليون.

وبالضبط هم سرقوا من تراث الدول الإفريقية بالتريليونات، (777) تريليون دولار!!

هذه الدول الغربية التي تدَّعي إلغاء التمييز العنصري، واللوني، والقومي وغير ذلك، لكن يبقى ذلك دجلاً وخداعاً وكذباً.

(777) تريليون دولار ما نهبته دول الشمال من البلاد الأفريقية وحدها في فترة الاستعمار المعروفة، ثم بعد ذلك ولخداع الناس فإنهم يلجئون أحياناً إلى مجرد اعتذار منمق عن استعمارهم للبلاد!

إذن مصطلح «العالم الثالث» إنما هو مصطلح مُلطف للعنصرية الحديثة.

ج- الحق المطلق لإسرائيل!

يقولون: أنتم أناس متخلفون، ونحن أسياد العالم، والذين نملك حق تقرير مصير الشعوب، وبيدنا أزمة الأمور، وعليكم أن تطيعوا وتسمعوا، (وإسرائيل) هي الابنة المدللة لنا، ونقول ما نقول، ونفعل ما نفعل، حتى لو كان إجماع البشرية على أنها ظالمة نحن نقول: لا، لها الحق، وأنتم الظلمة.. لماذا؟

لأنه يعتقد بأن عنصره أرقى، ويعتقد بأن الكون بيده، ونحن أناس متخلفون.

ولنتذكر مرة أخرى ما نقلناه قبل قليل: إذ تقول التقديرات المتخصصة إنه إذا ما قُدّر لأفريقيا المطالبة بتعويضات مالية عن حقبة الرِّق والاستعباد من الشمال الأوروبي، فإن تلك التعويضات ستصل إلى (777) تريليون دولار، وهكذا في أمثلة عديدة أخرى.

د- التمييز ضد مسلمي أوروبا

وسنكتفي أخيراً بقراءة تقرير عن المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية والكراهية.. (أكد تقرير نشره المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية والكراهية التابعة للاتحاد الأوروبي أن المسلمين في أوروبا يعانون من التمييز العنصري، مُشدِّداً على تفشي الاضطهاد في مجال العمل، والتعليم، والسكن، الذي يؤثر على المسلمين في الدول الأوروبية وجاء في التقرير الذي حمل عنوان، «المسلمون في الاتحاد الأوروبي التمييز العنصري والتخوف من الإسلام» يقول التقرير: أن المسلمين في أوروبا يعانون من التمييز العنصري في كثير من المجالات بسبب معتقداهم الدينية وبغضِّ النظر عن أصولهم العرقية) إلى آخر الأمثلة الكثيرة في هذا الحقل..

إذن نحن عندنا نوع من المائز بين المسلم وبين غير المسلم، لكن هذا المائز كما سبق وذكرنا: أولاً؛ اختياري وثانياً: إنه مائز بالأشرف وثالثاً: إن دائرته ضيقة جداً، أما دائرة تمييزهم فواسعة جداً، ورابعاً: إن المائز لديننا في دائرة معقولة أما المائز الذي ذكره الآخرون فليس بمائز عقلاني.

طبعاً نحن نتكلم على ضوء مدرسة وتعاليم أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) التي تجسد الإسلام الأصيل في أنقى صوره وأبهاها وأكملها وأتمها، وللحديث تتمة طويلة نكتفي منه بهذا المقدار.

نحن كأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) نقول: بأن لنا كل الحق، وبفم مليء ومليان، والحق عليكم لا لكم..

التمييز عند عمر بن الخطاب

لكن أتباع المذاهب الأخرى أي العامة عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم، أي الذين يتبعون الحاكم الثاني عمر بن الخطاب، أو الحاكم الأول أبا بكر، على هؤلاء أن يدافعوا عن أنفسهم إذا استشكلوا عليهم بإشكال معاكس.

أ- منع العجم من دخول المدينة

لاحظوا مثلاً: بالنسبة إلى التمييز العنصري أو القومي أو ما أشبه ذلك، ما ينقله التاريخ، وهذا أنموذج: يقول التاريخ: إن عمر كان لا يترك أحداً من (العجم) يدخل المدينة. انظروا هذا (التمييز القومي) الغريب!

أهل العامة عليهم أن يجيبوا عن هذا الإشكال، إذا استشكل عليهم الطرف الآخر، إذ إننا أتباع أهل البيت  (عليهم السلام) لا نقبل ذلك، وليس لدينا هكذا تمييز.

والمقصود من (العجم) هنا ليس الفرس، فقط بل يشمل كل غير عربي سواء كان تركياً، أم رومياً، أم فارسياً، أو غير ذلك كان عمر لا يترك أحداً من العجم يدخل المدينة[8].

ب- بيع القبيلة العربية!

بل أكثر من ذلك نقل المأمون العباسي: أن عمر بن الخطاب كان يقول: مَنْ كان جاره نبطياً (والنبط قبيلة عربية) واحتاج إلى ثمنه، فليبعه[9]!!.

ج- رفع القصاص لأنه نبطي!

هناك أيضاً في خبر آخر: قد طلب عبادة بن الصامت من نبطي أن يمسك له دابته فرفض فضربه عبادة فشجَّه، فأراد عمر أن يقتص له منه، فقال له زيد بن ثابت: أتقيد عبدك - نبطي من قبيلة ثانية، اعتبره عبده مع أنه حر - من أخيك، فترك عمر القود وقضى عليه بالدية[10].

د- عمر يمنع لباس العجم وابن تيمية يؤيد

كما أن عمر كتب إلى من كان مع عتبة بن فرقد الباذربيجاني (إياكم والتنعّم، وزي العجم) -العجم هو أي إنسان غير عربي- فإذن العربي ممنوع من زي العجم وأي تمييز غريب هذا، رغم أن العجمي أي غير العربي قد يكون من أهم حملة لواء الإسلام.. هذا.

وإن على أهل العامة أن يلتزموا بوصية عمر بن الخطاب، ويتركوا لبس أي ملبس غير عربي على النمط القديم، فيحرم عليهم مثلاً لبس السترة والبنطلون وما أشبه ذلك لأنه خلاف أمر الحاكم الثاني وابن تيمية معه!!

فابن تيمية يقول: (إن الشريعة، يعني كلام عمر، حين تنهى عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك الأعاجم من الكفار والمسلمين معاً) يعني الإسلام والكفر ليس هو الفارق وإنما القومية هي الفارق.

المسلم عليه أن يتجنب التَشبُّه بأي إنسان غير عربي سواءً كان مسلماً أم لم يكن مسلماً، هذا كلام كبيرهم الذي علمهم التطرف وتكفير المسلمين ابن تيمية[11].

هـ - المنع من زواج الأعجمي

أيضاً نهى عمر أن يتزوج العجم في العرب، رغم كونهم مسلمين، وقال: (لأمنعن فروجهن إلا من الأكفاء)[12].

والحال أن الإسلام هو مقياس الكفاءة كما في متواتر الروايات. والبعض من علمائهم قد أفتوا على طبق ذلك.

و- قتل من بلغ طوله 5 أشبار!

وفي خبر آخر: أرسل عمر إلى أبي موسى الأشعري عامله في البصرة حسب ما ورد في رسالة معاوية لزياد: (اعرض من قبلك -من هو في قِبَلِك- من أهل البصرة فمن وجدت من الموالي الذين هم العبيد ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمس أشبار فقدمه فاضرب عنقه).[13]

وفي رسالة معاوية لزياد ابن أبيه المشار إليه، آنفاً يقول: (انظر إلى الموالي، ومن أسلم من الأعاجم فخذهم بسنة عمر بن الخطاب فإن في ذلك خزياً لهم وذلاً أن تنكح العرب فيهم ولا تُنكحوهم، وأن يرثهم العرب ولا يرثونهم)[14].

مع أنهم مسلمون، وهو يصرح بكونهم «مسلمين»، لكن هذه هي النزعة القومية الحاكمة، فهذا وأشباهه، على أهل السنة أن يجيبوا عن هذه التناقضات! ومن الواضح أننا لا نعتقد بأمثال هذه الآراء والفتاوى الشاذة فنحن في حل وفي سعة ولله الحمد.

ز- منع غير العربي من إمامة الجماعة و..

ثم يتابع معاوية قوله في الرسالة ويكتب: (وأن يُقدَّموا يعني: الموالي في المغازي يصلحون الطريق، ويقطعون الشجر، ولا يؤم أحد منهم العرب في الصلاة).

الإنسان غير العربي لا يمكن أن يصبح إماماً حتى لو كان أكبر علماء الإسلام، مع العلم بأن كثيراً من كبار علماءهم غير عربي، بل من أئمة مذاهبهم فإذن لا يجوز لهم أن يكونوا أئمة في الصلاة ولا يلي أحد منهم قضاء المسلمين إلى آخره وأيضاً هناك مطالب كثيرة في هذا الحقل نقتصر على هذا المقدار.

الخلاصة هي: أن الآية الشريفة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) هي الإطار العام الذي يُحدد العلاقة بين الإسلام وبين سائر الأديان حسب قاعدتي (الإمضاء) و(الإلزام) المستفادتين من قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ) وقاعدة (وَلِيَ دِينِ) وهي صريح قوله تعالى.

وقلنا بأن (التمييز على حسب العقيدة) هو تمييز بالأشرف، وهو تمييز فطري عقلائي، وأن هذا التمايز لصالحهم وليس لصالحنا من حيث المجموع.

فالحريات والحقوق التي تُعطى للأديان والمذاهب الأخرى كثيرة جداً، فضلاً عن أنه ليس لدينا تمييز عنصري ولا لوني وغير ذلك، رغم أنه موجود عند الآخرين سواء الحضارة الغربية أم بضع الأديان الأخرى أم المذاهب الأخرى أيضاًـ.

وربما إذا وفقنا الله في الأسبوع المقبل سنُكمل جانباً من الحديث، ولعلنا ننتقل إلى آية قرآنية شريفة أخرى..

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

..................................................

* فصل من كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

** للإطلاع على باقي فصول الكتاب:

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

 ....................................................

 [1] الكافرون16.

 [2] بحار الأنوارج101 ص289.

 [3] المنافقون: 8.

[4] النساء141.

 [5] علماً بأن (العقيدة) أشرف من (العلم) ولذا كان (العلم) واجباً غيرياً حسب المشهور، وكانت العقيدة واجباً نفسياً ولتفصيل ذلك مجال آخر.

 [6] مع ملاحظة عدم انتهاء ذلك إلى تحقيق نوع من النفوذ والهيمنة.

 [7] الكنز المرصود صفحة 66 مقارنة الأديان في بحث اليهودية صفحة 272 ومصادر أخرى.

 [8] مروج الذهب للمسعودي:ج2، ص320، والمصنف للصنعاني: ج5، ص374.

 [9] معجم البلدان الحموي: ج4، ص233، عيون الأخبار لابن قتيبة: ج1، ص130، وكتاب بغداد لطيفور: ص38 | 40 ط سنة 1388 هـ. والمحاسن والمساوي: ج2، ص278، والزهد والرقائق، قسم ما رواه نعيم بن حماد ص52 ومحاضرات الأدباء: ج1، ص350، وقضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  (عليه السلام): ص264 عن ابن قتيبة، وراجع: الإيضاح لابن شاذان: ص486.

 [10] تهذيب تاريخ دمشق: ج5، ص446، وتذكرة الحفاظ: ج1، ص31، وسنن البيهقي: ج8، ص32، وسير أعلام النبلاء: ج2، ص440، وكنز العمال: ج7، ص303.

 [11] اقتضاء الصراط المستقيم ص162.

 [12] الإيضاح: ص280 و286، وفي هوامشه عن عدد من المصادر، وراجع: الاستغاثة: ص45 والمسترشد في إمامة علي : ص114 والسنن الكبرى: ج7، ص133 والمصنف للصنعاني: ج6، ص152.

 [13] سليم بن قيس: ص142 وراجع: نفس الرحمان: ص144 وسفينة البحار: ج2، ص165.

 [14] سليم بن قيس: ص142 وراجع: نفس الرحمان: ص144 وسفينة البحار: ج2، ص165.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/حزيران/2010 - 21/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م