طيبة القلب

عبدالعزيز حسن آل زايد

ضمن مجمع السكن الجامعي للطالبات شقة ظريفة تطل على حديقة بهية قد غرس فيها نخلتان بعناية فائقة من غير ثمر، إلا أن لهما رونقاً جذاباً يشع بالنضارة والأناقة.. غرفتان أحداهما أكبر من الأخرى وصالةٌ أمست جلسة لتناول الطعام ومشاهدة التلفاز، وعلى اليمين مَطبخ صغير تم وضع بعض الملصقات واللوح الفنية التي أضفت عليه جمالاً خاصاً، وحمام مستطيل الشكل تفوح منه النظافة بشكل لا فت..

تجلس خلف كتابها تحدق فيه من دون وعيٍ أو شعور.. لم تقرأ منه حتى سطراً واحداً..

من يراها يظنُ أنها تغرقُ في مذاكرةٍ عميقة !، تفكيرها لم يكن في حدود جدران هذه الغرفة الصغيرة.. بل كان الشرود يسبح بها إلى عالمٍ آخر.. ربعُ ساعة أو تزيدُ قليلاً وهي ترفلُ في شرود تقضم قبعة القلم الذي في يدها اليمنى..

وأخيراً رفعت رأسها عن ذلك الكتاب المُخربش دون معنى، وصوبت بنظراتِها القلقة نحو صديقتَها، التي تضعُ نضارةً سميكة في عينيها.. خاطبتها والهواجس تعصر قلبها المرهف :

- فاطمة.. معذرة إن قطعتُ حبل أفكاركِ.. قالتها وهي تضع الكتاب والقلم بين دفتيه جانباً..

- نعم.. تفضلي !

أعقبت بشيءٍ من التردد :

- هل تسمحين أن تُشاركَنا في شقتنا فتاةٌ أخرى؟!

رفعت رأسها وهي تثبت نظارتها جيداً، لقد صُدمت حقيقةً من هذا السؤال.. أعقبت

- سؤالٌ غريب، أولم نتفق قبل ثلاثة أعوامٍ ونصف أن لا نسمح لأحدٍ أن يكون معنا.. أن هذا هو الفصل السابع لنا ولم نغير القوانين، ألم يكن اتفاقنا المبرم " المذاكرة ثم المذاكرة ثم المذاكرة " هل هناك شيء يا فاتن؟.. أتمرين بضائقةٍ مالية؟! أم...

قاطعتها على الفور، والتودد بدأ يطلي كلماتها بشكل واضح..

- بصراحة.. لا؛ ولكن صديقتي متخرجةٌ هذا العام، وأُحبُ أن تكون معي يا فاطمة.. كما أنكِ تستطيعين أن تأخذي هذه الغرفةَ إن أحببتِ.. حتى لا نُشغلكِ عن المذاكرة !

والكتاب لا يزال مفتوحاً بين يديها وهو يهتز مع كل كلمة تقولها..

- لكننا اتفقنا يا فاتن أن لا تكنَ غرفةُ النوم مكاناً للمذاكرة، ألا تذكرين أنكِ قلتي حينها مؤيدة : (حقاً، يجبُ أن لا نتخذ غرف النوم مكاناً لاستذكار، فذلك غير مُستحب تربوياً) !

كانت هذه الكلمات آخر ما تبقى في كنانتها من تودد، وإلا فإن أمامها حلول قطعية أخرى، إلا أن الحل المناسب هنا، قالت والقلقُ يُساورها من كل حدبٍ وصوب :

- هذا صحيحٌ؛ ولكنَ صديقتي (حوراء) طيبةُ القلب.. وتحبُ أن تكون معي.. أرجوكِ يافاطمة من أجلي اسمحي لها أن تكون معنا !

صمتت قليلاً تفكر فيما ستقوله.. قالت بعدها مباشرة :

- إذا كانت هذه رغبتُكِ.. فلا مانع لدي..

لم تصدق فاتن ما سمعته.. فطارت فرحاً نحوها تُقبلها وتشكرها، وهي تهتف : (حقاً إنكِ إنسانةٌ عظيمةٌ يا فاطمة ) !

*****

لقد تغيرت كثيراً.. تصرفاتها لا تروق لي.. ماذا أصنع، هل أُخبرُ والدتها بالأمر؟!

جسمها الأنثوي لا يُسوغ لها أن تُبرز مفاتنها للرجال !

لم أعرف طريقاً أسلكه.. هي من أوصدت كل الأبواب إلى قلبها، حاولت أن أقدم واجب النصيحة، لم أجد أدناً ترغب في تقديم المعروف، لماذا تغيرت؟!، لم يتبقى عندي غير حيلة العاجز، وضعت بعض الوخزات على باب غرفتها، تأثرت كثيراً حينما وجدت المكتوب ملقى في القمامة كان نص ما كتبت مقطع يسير من حديث المعراج : (وأمَّا التي كانت تأكل لحم جسدها فإنها كانت تُزّينُ بدنها للناس).. يبدو أن لا فائدة ترتجى من نصحها !

لم ترتدع.. مما كتبت بل زاد عنادها وكأني أحرضها على التمادي، وكأنها قرأت المكتوب بالمعكوس.. فلقد أصابتني بالذهول.. عندما رأيتُها ترتدي ملابسَ ضاغطة.. وهي تنوي الخروج.. دون إرادة مني أو وعي تحدث قلبي لها مباشرة :

- فاتن.. ملابسَكِ تحكي مفاصلكِ وأُنوثتكِ.. ألا تخجلين من هذه الملابس.. ألا تخافين الله؟!

حملقت في وجهي بضجر، وهي تلقي بشعرها على كتفيها باستياء.. وبضجر

- هل هذه الحريةُ التي تتحدثين عنها يا فاطمة؟!

- أن للحريةَ حدود..

صفقة الباب في وجهي.. كان ردها.. وهرولتُ خلفها حتى لا تفترسها الذئاب !

كادت مرارتي أن تنفجر حينما لا حظتُ (العطار) يمسُ أناملها وهي تضحكُ في وجهه بغنج..

للصبر حدود.. لابد أن أُخبر أُمها !!

ولكن ستعرفُ أني السبب.. لا يهم.. لا يهم.. فهذا واجبٌ شرعي.. وأهلُها يظنون بي خيرا..

أصبحتُ لا أثقُ بها.. بعد أن رأيتها تغمزُ بعينها اليسرى ذلك الشاب الوسيم.. أتصورُ أنه اشتعل في مكانه من وقاحتها.. بلهاء !!

لا أدري ماذا سيصنعُ والدها لو رآها وهي تتحرشُ بالفتيان؟ زجرتها حين ذاك، وقلتُ لها : (سأُخبرُ والدتكِ بالأمر !) ارتعشت كالسعفةِ الصفراء حينها.. اقتربت منها وبكل هدوء..

- فاتن.. لقد تغيرتِ كثيراً..ماذا بكِ؟!

 لم تحر جواباً كأنها قطعة مومياء مشلولة لا حراك فيها.. حاورتها أكثر من مرّة وبأساليب متنوعة كما فعل نوحٌ مع قومه إلا أن الطير فوق رأسها لا يحلق.. والشفاه في فمها خرساء يابسة لا تتكلم..

حاولتُ أن أُغيرها دونما فائدة.. الأسرة لها دورٌ كبير في ضبط بناتهن.. لكن البعد عن الأهل بحجة الدراسة يتيح لهن حرية غير محمودة وتمرد لا يقود إلا للجحيم.. أصبحتُ كريهةً المطلع في نظرها.. الشيطانُ تغلب عليها.. واستسلمت له بكل خنوع.. تمكن من أسرها وخداعها بأحابيله وخطواته المزخرفة فأمست أسيرة في أقفاصه المحلاة بالأهواء والشهوات الفانية، حتى تأصل فيها للنخاع..

وحوراء قصةٌ أخرى لم أكن أعرفُ عنها شيئاً.. منذ مطلع قدومها بدأنا نعيش سيناريو حياة مختلفة.. متلاحمتان كما دائماً كحبتي الفاصوليا، معقودتان جنباً إلى جنب كخلخالين مربوطين بإحكام في الخروج والمجيء، في النوم والاستيقاظ، المُرّ أنهما تغلقان الباب عليهما حتى مطلع الفجر؟! أتعجب من هذا الصنيع، هل سيدخل الرجال إلى هنا؟! أم إنهما زوجان ؟!

رحمتك يا ربي بنا.. وسترك !

*****

لا تكف عيناي بالهطول، لم أصدق أن المياه تعود إلى مجاريها، السعادة بدأت تبني بيوتها في قلبي، صديقتي العزيزة فاتن عادت إلى رشدها، حمداً لله على بديع صنائعه، لم أتوقع أن تعاود فاتن طريق الخير من جديد، توقعت أن يحل بنا الطوفان والكارثة في أيّ لحظة وتأوي فاتن إلى جبل لا يعصمها من أمر الله، لكن خيوط الأمل تشرق بعد أن يدلهم الشحوب، هذه قوارب التوبة تكحل عيون السحر، وتعود نوارس الخشوع تهمي بآلاف الدرر، لقد عادت وعادت المناجاة إلى فمها الرطب الطروب.. لقد عادت إلى سابق عهدنا القديم.. عادت بعد أن فرشت سجادة البكاء تعانق تراتيل التائبين، وتحن حنين الثكلى بتوق جميل تلتحم في أفق السماء مع صلاة الليل لتغدوان شلالا بديعاً يطفح بالمآنسة والسرور، هاهي كلمات العفو لا تفارقُ شفتيها في كل ليلة.. والاستغفار أضحى في فمها نغمة عرفانية تذوب في المسامع كلحن الربيع، أراها كالملدوغةِ تفر من فراشِها.. حتى في الليالي الباردة.. أسمع انتحابتها فتعلوني قشعريرة ٌ ساحرة.. هذه فاتنُ التي أعرفها منذ بواكير الدراسة.. لقد هداها الله إلى سبيله.. أما حوراء ذاتُ الشعر الأشقر.. أتذكرها جيداً، لقد كانت فراشةً جميلة.. تتمنى كلُّ الفتيات مُرافقتها.. فضلاً عن مُصادقتها.. في ريعان الزهور هي.. كانت طيبةُ القلبِ فعلاً.. لا تزالُ أطيافها في عقلي منقوشة.. بل في قلبي.. صفاءُ خديها.. وحمرةُ وجنتيها.. ولحظ عينيها المكحولين من غير كحل.. يؤرقني دائماً ذلك الحادثَ المروع الذي غير فاتنَ من أعماقها، حينما أخذ في طياته حوراءَ للأبد !

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29/أيار/2010 - 13/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م