اليونان.. نموذجا وضحية أولى للأزمة

ماجد الشّيخ

منذ شباط (فبراير) الماضي، لم تفلح محاولات انتهاج سياسة "الانقاذ السريع" التي ترافقت مع سياسات تقشفية قاسية، في وضع اليونان على سكة حل إنقاذي لأزمتها الراهنة، لا سيما في ظل تضارب العديد من الرؤى للخروج من الأزمة المالية العالمية، وفي مسار يذكّر بالأزمة التي علقت بين براثنها الأرجنتين، وهي الدولة التي اعتبرت صاحبة أضخم تخلف عن سداد ديونها، قبل عقد من الزمان؛ ها هي أثينا تطلق نداء استغاثة جديدا (23/4/2010) بعد أقل من شهر من إقرار القمة الأوروبية لصيغة الدعم المالي، تطالب فيه بتفعيل خطة المساعدة المالية التي من المتوقع أن يشارك الاتحاد الأوروبي بثلثيها، وصندوق النقد الدولي بالمتبقي منها.

وذلك على الرغم من إشارات سبق وأفادت أن الاتحاد الأوروبي لن يسمح لأي طرف خارجي بالتدخل في "قضاياه الداخلية"، على اعتبار أنها "قضايا سيادية"، لكن الأزمة المالية العالمية، وهي ذاتها أزمة النظام الرأسمالي، لم يكن من السهل الوصول إلى حلول "خلاصية" لها، فكان هذا "الخرق" للسيادة المالية الأوروبية من قبل سيادة مالية خارجية، تمثلت في مسارعة كل من صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة إلى إعلان التلبية والدعم لليونان، نظرا "لحاجتها الوطنية لتفعيل آلية الدعم والمساعدة".

 رغم ذلك، يبقى السؤال الملح، يتمحور حول قدرة المساعدات المالية المشتركة – الخارجية – على تغطية عجوزات الدول المأزومة، ففي الحالة اليونانية ينبغي على أثينا تسديد 39 مليار يورو من أصل ديونها البالغة 300 مليار يورو خلال 12 شهرا، لكن سياسة كهذه وعلى المدى الطويل، لا تشكل سوى تضميدا خارجيا لجرح نازف. وللدلالة على ذلك، فما أن تحركت مؤشرات الأسواق الأوروبية إيجابا لبعض الوقت، نتيجة إعلان طلب المساعدة، حتى عادت وهبطت بعد أن قدّر المستثمرون أن خطة الإنقاذ المنتظرة منذ مدة طويلة، والتي قد تكون الأكبر (750 مليار يورو)، لن تجلب أكثر من انفراج على المدى القصير، وستفرض تقشفا أكثر قسوة ومعاناة ومزيدا من الانكماش الاقتصادي.

 وفي أعقاب إعادة تقييم المفوضية الأوروبية للعجز المالي اليوناني بنسبة 13،6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهو رقم فاق التقديرات السابقة، تابعت أثينا محادثاتها مع المفوضية والمصرف المركزي الأوروبيين، وصندوق النقد الدولي حول البرنامج المالي الممتد على ثلاث سنوات، بما يتضمن من قروض ثنائية من الاتحاد الأوروبي بحوالي 30 مليار يورو، وبفائدة تقارب نسبة الـ 5 في المئة، وحوالي نصف هذا المبلغ من صندوق النقد الدولي، وتتوقع أثينا وسط هذه المعمعة، وصول شريحة أولى من المساعدات التي يبدو إقرارها أكثر من حاجة ملحة وإنقاذية للاقتصاد اليوناني، خاصة مع مرور قطوع موعد تسديد سندات سيادية بقيمة 8،5 مليارات يورو في التاسع عشر من أيار (مايو) الجاري، ما يعني أن تفعيل آلية المساعدة ما هو إلاّ "الملاذ الأخير" للاقتصاد اليوناني الذي بات يتطلب وضوحا مطلقا، في شأن إعادة الهيكلة في العامين المقبلين.

 ولم يفوّت صندوق النقد الدولي مناسبة الدعم الموعودة، دون أن يسهم في توجيه نصائحه ووصفاته المشروطة لليونان، وضرورة معالجة الضعف الهيكلي في الامتثال الضريبي ومعاقبة المتهرّبين الكبار من دفع الضرائب، على أن جدوى المساعدة، لم تخل من شكوك بعض المحللين الذين رأى بعضهم أن اعتراف اليونان بحاجتها إلى المساعدة، لن يكون نهاية مطاف الأزمة، بل إن السبيل الوحيد لتقف اليونان على رجليها من جديد، يتوقف على حصر إنفاقها في حدود مواردها، وإذا ما استمرت الأزمة على المدى القصير؛ ولم تستطع أثينا إنقاذ اقتصادها من شبكة ديونها الداخلية والخارجية، فإن الوضع المستقبلي سيبقى يكتنفه المزيد من عدم اليقين، كون المشكلات الأساسية التي تواجه الاقتصاد اليوناني، أعمق من أن تحلها الحقن والمنشطات المؤقتة، التي قد تفلح في سداد فوائد الديون والقروض، ولكنها لن تنجح في حل الأزمة المالية العامة، وعودة انتظام الاقتصاد للعمل كما في دولة غير مأزومة.

 ويعدّ تدخل صندوق النقد الدولي في شؤون اقتصاد من المفترض أنه يتعايش ضمن نسق دولتي موحد، سابقة خطيرة على الأقل في نظر بعض الأوروبيين، حيث أن تطلع ولجوء منطقة اليورو إلى الخارج، دليل ضعف سياسي واقتصادي، ناهيك عن أن الأزمة الراهنة في اليونان، أدت إلى كشف العواقب السلبية المترتبة على فقدان الاتحاد الأوروبي انسجام السياسات الاقتصادية لدوله الأعضاء، كما وسلطت ضوءا ساطعا على هشاشة المحور الألماني – الفرنسي، وقدمت دليلا آخر على ضعف مؤسسات الاتحاد، وعجزها عن تحصين العملة الأوروبية.

 وبذا.. يمكن القول أن أوروبا الموحدة لم تستطع مقاومة تأثيرات الأزمة المالية العالمية، وإيجاد حلول ناجعة لمشكلات دولها الاقتصادية والمالية، بما يحفظ لها سياداتها، دون الدخول في أنفاق بيت الطاعة الدولي – الأميركي تحديدا – ودون التلويح برفع راية الاستسلام أمام المؤسسات التي تهيمن عليها "قوى الأزمة" كالولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد، ولهذا فإن مبعث القلق الأوروبي بالدرجة الأولى، يعود إلى أن الأزمة المالية والنقدية الحالية، تأتي في وقت كان فيه الأوروبيون يخططون لإرساء تحرك اقتصادي شامل، يساعدهم على تحديد إستراتيجية مشتركة، للخروج من الأزمة التي تواجهها اقتصادات الدول الرأسمالية الصناعية، منذ نهاية عام 2008.

 ويترافق تزامن الأزمة المالية الحالية، مع ملامح ظهور خلافات بين واشنطن والاتحاد الأوروبي إزاء عدد من الملفات البينية، حيث بات بعض الأوروبيين على قناعة من أن واشنطن تعمل بشكل أو بآخر، على تهميش المواقف الأوروبية وحراكاتها، ومحاولاتها الإسهام بإيجاد معالجات وحلول لبعض القضايا الإقليمية والدولية. علاوة على أن الأزمة اليونانية ربما فضحت أو أضاءت على وضع للاتحاد الأوروبي، قد لا يسهم في استمرار نهوضه مستقبلا، فالأزمة اليونانية ليست ناتج وضع داخلي، بقدر ما أن أثينا هي ضحية قوى الأزمة المالية العالمية/الأميركية، ورهونها العقارية، فهي في وضعها الثقة في غير محلها، وتوجيهها نحو "قوى الأزمة"، أوقعت نفسها ضحية عملية احتيال على نطاق دولي غير مسبوق. ما يضع أوروبا اليوم في دائرة الحاجة الملحة لوجود خطة إنقاذ حقيقية، تحمي أعضاءها من المضاربين، وتوجد آليات تنسيق مستقلة لسياساتها المالية والاقتصادية.

 وإذا كان العنصر الحيوي في المعادلة الأوروبية، يكمن في مخاطر تفشّي الأزمة إلى دول أخرى، وخاصة البرتغال وإسبانيا وبدرجة أقل إيرلندا وإيطاليا، ما سيجعل منطقة اليورو أمام وضعية غير مسبوقة، من جرائها قد تتعرض لبداية تفكك فعلي؛ الأمر الذي ساهم في جعل الدول الأوروبية توجه اتهامات مباشرة للمضاربين وبعض المصارف ووكالات الاقتراض، وخاصة الأميركية، بأنها هي من يغذي الأزمة، بحثا عن مكاسب ضيقة، لإلحاق أكبر قدر من الإضرار بمنطقة اليورو والعملة الأوروبية. وما يزيد الطين بلة تصاعد تلك الدعوات داخل وخارج أوروبا، كي يتمكن صندوق النقد الدولي من إدارة الأزمة اليونانية، وهو ما رفضه المسؤولون الأوروبيون حتى الآن، لكونه لو تم يمكن أن يمثل أول انتهاك دولي لحرمة منطقة اليورو، ويؤكد عمليا انعدام نفوذ المصرف المركزي الأوروبي، وهو الذي جعله المسؤولون الأوروبيون، ومن خلال اتفاقية ماستريخت عام 1992، حارس المكتسبات النقدية والاقتصادية المشتركة.

 وسط هذه الأجواء الضاغطة، وفعالية "قوى الأزمة"، ودخول اليونان في نفق "المسار الأرجنتيني" والاقتراب من كونها أولى الضحايا الأوروبيين لسياسات المضاربة والرهونات العقارية التي أصابت قلب النظام الرأسمالي، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة؛هل يستطيع قادة الاتحاد الأوروبي مقاومة ضغوط صندوق النقد الدولي، وهو يدخل أو يتدخل كـ "شريك مضارب" في محاولة للإسهام بإيجاد حل ناجع للأزمة اليونانية، بالإضافة إلى مواجهة ضغوط المضاربين في أسواق المال في نفس الوقت، وذلك حتى يمكن الإبقاء على قدرة الدول الأعضاء الاحتفاظ بقدرتهم الدفاع عن عملتهم الموحدة، ضمن مهام مواجهة مهددات تماسك الاتحاد ذاته؟.

 أخيرا هل تفلح "سياسة الإنقاذ السريع" في تجنيب اليونان مآل أن تكون أولى ضحايا أزمة النظام الرأسمالي، أم أن الأزمة أعقد وأطول مما يُتصور؟. وما اليونان اليوم سوى حقل تجارب، ومحاولة أخرى من محاولات تكييف وإعادة هيكلة وموضعة النظام الرأسمالي، للتعايش مع أزمته البنيوية والهيكلية الضاغطة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/أيار/2010 - 8/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م