العلم ودوره في إنقاذ الإنسان

من رؤى الفقيه الشيرازي حول طلب العلم في الإسلام

محمد علي جواد تقي/مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية

من أكثر ما يعتزّ به المسلمون دائماً هو أسبقية الدين الاسلامي على حمل مشعل العلم والمعرفة في مسيرة الانسانية نحو التقدم والتكامل في الحياة، وفي المعترك الحضاري القائم حالياً، فان هذه الخاصيّة هي أول ما يصمت إزائها الغربيون وهم يبحثون عن الزلّات والاسقاطات بين ثنايا المسلمين، ونحتفظ باعترفات تاريخية لعلماء غربيين عن الفضل الكبير للاسلام على الحضارة البشرية والدور الكبير للعلوم التي تفجّرت في العهود الاولى للاسلام على التقدم العلمي الحاصل في الغرب حالياً.

وهذا كله لم يكن لولا التأكيدات الواردة في النصوص الدينية وفي مقدمتها القرآن الكريم وفي أكثر من آية، وليس أدلّ على ذلك استهلال الوحي الإلهي بالعلم كأول كلمة تنزل من السماء على صدر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، "إقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الانسان من علق ، إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم ، علّم الانسان ما لم يعلم". ثم أتمّ النبي (صلى الله عليه وآله) الحجة علينا بأمره الصريح: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة).

مصدر العلم؛ القلب أم المخ؟

الابحاث التي أجراها العلماء منذ فترة طويلة، تشير الى أن المخ، وهي المادة الكائنة في رأس الانسان أو ما يُعرف بالدماغ، هي مصدر العلم والتفكّر والابداع، فالعالم والذكي والمبتكر يُقال انه (شغّل مخه)، وبناءً على حسابات تقول بان هنالك ملايين الخلايا في المخ لم يستخدم الانسان إلا القليل منها حتى الآن، رغم ما توصل اليه من تقدم علمي، وهذا ما لم ينفه الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره)، ولكنه يؤكد بأن القلب أيضاً يُعد مصدراً للعلم والمعرفة. فاذا كان للمخ وهو أحد أعضاء جسم الانسان، دوراً في اكتساب الانسان العلوم المختلفة، فانه يرى إن القلب يشكل الوعاء الذي يحوي هذا العلم، والقلب هنا بمعنى الضمير والوجدان، وهو عامل معنوي وليس مادي في الانسان.

ويستشهد سماحة الفقيه الشيرازي برواية عن كميل بن زياد أحد الأصحاب الخلّص لأمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول: أخذ الإمام بيدي الى الصحراء، وبعد أن تنفّس الصعداء لحظةً، قال: (يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها.. فاحفظ عني ما أقول لك، الناس ثلاثة: عالمٌ رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمجٌ رعاع ...)، ويسلّط سماحة الفقيه المقدس على التصنيف الخاص للناس والذي يختلف عن التقسيم والتصنيف الدارج، فهنا الكمال المعنوي هو القاعدة الصحيحة لتصنيف الناس بما يؤهلهم للتدرج في طريق الكمال الانساني، وليس الكمال المادي القائم على تعاظم الثروة والجاه وغير ذلك.

هنا تجدر بنا الاشارة الى السبب في اختيار أمير المؤمنين (عليه السلام) لـ(القلب) ليكون وعاءً للعلم من دون المخ أو (الدماغ)؟

المعروف عن القلب والذي ورد ذكره في القرآن الكريم بلفظة (فؤاد)، أنه مكمن الحكمة والفطرة الإلهية الناصعة، بينما (المخ) أداة التفكير التدبّر، وبما أنه أداة فمن المحتمل انحرافه عن الطريق، فربما يبتكر الانسان الطاقة الكهربائية لإنارة الطريق والاسهام في تطوير وتقدم البشرية، وربما أيضاً يبتكر الطاقة الذرية لابادة البشرية! فاذا كان للعالم النووي – مثلاً- قلبٌ وفؤاد يكون وعاءً لعلمه كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، هل كان يرضى بالمشاركة في تطوير المشآت النووية التي تنتج السلاح النووي؟

  هذا من (المخ) أداة التفكير والابداع، أما القلب الذي وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بان (... خيرها أوعاها)، فانه لن يدفع الانسان العالم الى ارتكاب الجريمة في ابتكار اسلحة الدمار الشامل، أو يضع برنامجاً اقتصادياً ينهب من خلاله جهود الآخرين ويدمر حاضرهم ومستقبلهم، وغير ذلك، والسبب هو ان القلب يمثل ضمير الانسان و وجدانه، والقاعدة العامة عند بني البشر هي وجود الحياة في هذا الضمير، أما أصحاب الضمائر الميّتة فهم شواذ واستثناء في بعض المجتمعات، وهذا ما يفسر تأكيد الاسلام على التزكية قبل التعليم، وتعلّم الاخلاق قبل طلب العلم، فكم من عالم في مختلف المجالات بما فيها العلوم الدينية، أمضى سنوات من حياته في طلب العلم، لكنه انحرف عن الطريق دون أن يشعر، واذا به يحمل علمه الى حيث يلحق الأذى والدمار بالمجتمع الذي يعيش فيه وأيضاً ببقية المجتمعات والأمم .

علم ينقذ الانسان

ينقل سماحة الفقيه المقدس الشيرازي حديثاً يقول: (... إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة او سُنة قائمة)، ويعد هذا العلم بانه العلم الحقيقي و(العلم المنجي)، كما يقول: انه العلم الذي يشير اليه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في حديثه مع كميل ابن زياد، ويرجح بان يكون تفسير (الآية المحكمة) بانها علم العقائد، وهنا يسلّط سماحته الضوء على قضية غاية في الأهمية، وهي بذل المزيد من الاهتمام بمسألة العقيدة والحذر من التعرض لسؤال لا جواب له في المسائل العقائدية، فلابد من جواب واضح وسريع عن الدليل على وجود الله تعالى، والدليل على إن الأئمة معصومون أو إن الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) حيٌ موجود بيننا وأن الولاية من أصول الدين وليس كما يقول الآخرون وغير ذلك كثير من الأسئلة والاستفهامات المحيطة بنا.

هذا العلم هو بالحقيقة القاعدة الرصينة والمتينة التي يمكن للانسان المؤمن أن يقف عليها وهو يطلب ويكتسب مختلف العلوم في الحياة، ثم ينام قرير العين لأنه ماضٍ على الصراط المستقيم الذي يسلك به طريق الجنة و رضوان الله تعالى، ولا يكون الأمر بالعكس – والعياذ بالله- .

إن العالم في العقائد سيكون في قبره عالماً أيضاً، وهناك يجيب بكل سهولة على أسئلة منكر ونكير عن ربه ونبيه وإمامه وكتابه وقبلته، لكن العالم في الطب أو الهندسة أو الذرة، هل سيكون في قبره طبيباً أو مهندساً ؟! ليكن الانسان المؤمن عالماً من الدرجة الأولى فهذا خير عظيم أن يخدم الانسانية بعلمه وابداعه، لكن عليه أن يتذكر إن تلك العلوم والمعارف والابداعات ستنتهي على شفير القبر أو بالأخرى عند ساعة فراق الروح للجسد، يبقى عليه أن يحمل العلم المنقذ والمنجي الذي يجعله لا يتردد في الإجابة طرفة عين، كما هو كذلك في الحياة الدنيا.

في حياتنا اليوم الكثير الكثير ممن يحملون الهوية الايمانية ويقومون بالاعمال والمناسك الدينية والشعائر الحسينية وبشكل عام يعيش الأجواء الدينية والاخلاقية عن طيب خاطر، ولايتوقف عن العطاء والمشاركة في هذا العمل أو ذاك المشروع، لكنه يتوقف عندما يداهمه سؤال بسيط من ابنه في البيت عن السبب في عدم استجابة الدعاء عند مراقد الأئمة الأطهار رغم التوسلات والأعمال المندوبة التي تُقام؟ لاسيما اذا كانت المسألة تتعلق بمرض عضال أو مشكلة تلقي بظلالها الثقيلة على الوضع المعيشي والاجتماعي لأفراد الأسرة.

 أو ربما تقف ابنته أمامه وتسأله عن الغاية والسبب في فرض الحجاب عليها عندما تبلغ سنّ التاسعة من العمر، طبعاً الأمثلة كثيرة وهي محيطة بنا، بل نعيشها يومياً، واذا نسمع عن عدم استجابة الابن أو البنت للأبوين في أمر أو نهي، يجب علينا البحث عن مناطق الفراغ الموجود في النفوس والقلوب الذي يجب أن يمتلئ بالعلوم العقائدية، والاجابة السريعة والمقنعة هي بداية جيدة لتلقي المزيد من علم العقائد بتفرعاته وتشعباته.

إذن، فـ(آية محكمة) هي علم العقائد كما فسرها العلماء، و(فريضة عادلة) فسروها بعلم الاخلاق، ومن هنا يوصي سماحة الفقيه المقدس بالتباحث في كتب هي بالحقيقة عامل نجاة لنا جميعاً، مثل (حق اليقين) للسيد عبد الله شبّر (رحمه الله) ذلك العالم المتبحّر الذي يقول عنه سماحته إنه في عالم الرؤيا أخذ من الامام الكاظم أو الامام علي (عليهما السلام) قلماً ، انه كتاب عقائدي جدير بالمطالعة، وفي علم الاخلاق يشير علينا سماحة الفقيه المقدس الى كتاب (جامع السعادات) ذلك السفر الاخلاقي العظيم للشيخ النراقي (رحمه الله).

إن تأكيد الاسلام على طلب العلم هو بالحقيقة تكريم عظيم للانسان، وهذا ما يدلنا اليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه الآنف الذكر (... أما عالم رباني أو متعلّم على سبيل نجاة أو همج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح...)، فليس من شيمة الحر والكريم أن يتشبّه بالبهائم التي يقودها شخص واحد هو الراعي على شكل قطيع كبير.

يروى إن الشيخ مرتضى الانصاري صاحب (المكاسب) كان داخلاً لحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) في الليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان وهي من ليالي القدر، وإذا بأحد طلبة العلم ينتظره ليسأله عن أفضل الأعمال في هذه الليلة، وربما اغتنمها فرصة وهو يقف أمام المرجع الأعلى للشيعة، فسأله الشيخ عن المادة التي يدرسها حالياً، فأجاب الطالب انه يدرس كتاب (شرح بن عقيل) في النحو، فقال له الشيخ الانصاري: إن أفضل عمل تقوم به هذه الليلة هو العودة الى حجرتك في الحوزة ومطالعة كتاب (شرح بن عقيل).

الى هذا المدى يُعد طلب العلم مهماً في الاسلام ولدى الحوزة العلمية، الى جانب المسائل العبادية المستحبة، فهي جيدة وضرورية، لكن طلب العلم له مكانة وأهمية خاصة في الحياة، ولذا كان (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء)، و(تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين عام).

* مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية

http:// mr-alshirazi.com/

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/أيار/2010 - 4/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م