فن كتابة المقالة المسخرة

علي المرهون

غرامُ هواة تسجيل الأرقام القياسية والأوليّات عندنا لم يهتدِ بعدُ إلى إنجازات وأوليّات صحافتنا العتيدة على كثرتها وتميزها الخارقَين، فهنا – في صحافتنا – يعيشُ آخر الديناصورات، وهي من كل العالم قد انقرضت، هنا تحتلُّ الإعلانات التجارية مساحاتٍ لا تُشبه في شيء مساحتها في صحافة بقية أنحاء العالم، هنا في ثقافتنا الحدُّ الأعلى من الأساليب العملية للانتفاع بأوراق الجريدة فهي "سُفرة" طعام، وهي "ممسحة" للزجاج، وهي "ستارة" لأبواب المحلات في مرحلة دهن الجدران، عدا عن كونها مساحة للانتقام و تصفية الحسابات الشخصية وتنمية مهارات اللغة ومهارات الغزل و...إلخ.

أما عاداتنا في التعاطي مع الفعل الثقافي المُسوّد في الجريدة فهي بلا جدال الأكثر غرابةً في العالم، فأغلبنا يبدأ بتصفُّح الجريدة بدءاً بالصفحة الأخيرة، يقضي الوقت الأطول في مطالعة رسوم الكاريكاتير وأخبار الرياضة و "الفن" وإعلانات المحال التجارية، ولا يكاد يصل الصفحات الست الأولى حتى يُدرِك أن في حياته ما هو أهم من "كلام الجرايد" و إضاعة الوقت بتصفُّحِها.

أما الأهمّ من كُلِّ هذا، فعددُ العاهات .. أعني القامات الصحفية الشامخة التي تُنبئُ كل صباحٍ عن حالنا الفكرية والثقافية و الحضارية الرائعة!

لا أذكُر أنّ منهج "فن التحرير العربي" – وهو لا يعني بأي حالٍ تحرير الأراضي العربية المحتلة، أو تحرير الأسرى – الذي دَرستُه كمنهجٍ اختياري في الجامعة، لا أذكر أنه تطرّق لما يُعرف بالمقالة الساخرة، ربما لأن أغراض التصنيف التي ذكرها الكتاب لم تكُن معنية بالتفريق بين المقالة الساخرة وغير الساخرة، أو ربما لأن "السخرية" لا تليق بكُتّاب المناهج الأكاديمية وتجرح في مدى جديّتهم!

يقول "غسان كنفاني" أحد أبرز من كتب المقالة الساخرة عربياً " إن السُّخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنها تُشبِهُ نوعاً خاصاً من التحليل العميق، إن الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر يشابِهُ الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكُن للكاتب الساخر نظريةٌ فكرية فإنه يُضحي مُهرّجاً"

ويقول الكاتب السوري " نجم الدين السمان" أن آراء الأدب الساخر بشكلٍ عام، خيطٌ رفيع بين التهريج وإدماء الروح، ويُعرِّفُ الأدب الساخر على أنه "موقفٌ من العالم لالتقاط أبرز مُفارقاتِه وهجاء لنقائضه، يُدمي الروح في اللحظةِ ذاتها التي يُضحك فيها الكائن البشري على ضعفه وتخاذُله و خسّته وابتذاله، قبل أن يضحَك بسببها الآخرون".

و يُضيف " .. حتى لكأنّهُ آخرُ ملاذات الكائن من اغتيال كينونته، بل نافِذَتُهُ على قهقهةٍ مديدة مُنغَمسةٌ بالألم تَسخَر لتهجو الطغاة والجلادين وكتبة التقارير وقتلة الحب والجمال وضحكات الأمل".

أحمد أبو خليل كاتبٌ صحفي "ساخر" يفرق بين المقالة الساخرة والأدب الساخر بشكل عام " الأدب الساخر فيه نشاط أبداعي، أما المقالة الساخرة فيمكن أن تكون مرتبطةً بأحداث، أو موقف الكاتب من قضيةٍ يتّخذ فيها مَوقف التّهكُّم و السُّخرية".

لا أعتقد أن أيّاً من هذه المعاني أو الأوصاف و المزايا تنطبق على أي فعلٍ كتابي يُمارسُه كُتّاب الصحافة في محيطنا القريب، رغم بعض المحاولات – المحترمة- للبعض هنا أو هناك أبرزها محاولات السوداني جعفر رجب و الكويتي "بو شيخة" والسعودي "محمد السحيمي".

هذا العَوز التي تعانيه صحافتُنا من كُتّاب المقالة الساخرة، أبدلنا الله عنه بوفرةٍ في كُتّاب المقالة "الـمَسخرة"!

و "المقالة المسخرة"، مصطلح أزعم كل الحق في ابتكاره لتوصيف جُملة ما تُطالعُنا به صحافتُنا المحلية مما يفتقر إلى كل شيء من فنون التحرير العربي أو غيرها من فنون إلا فن ابتكار "المسخرة".

و “المسخرة" اصطلاحٌ محلي يعني تارة فعل ابتكار السخرية، وأخرى يُستعمل توصيفاً لضعفٍ بنيوي أو منطقي أو دلالي لفعلٍ كتابي أو كلامي أو حتى مجرد رأي.

آخر عاهات .. أعني قامات صحافتنا من كُتّاب المقالة "المسخرة" كانَ رجُل الدين المعروف عضو اللجان الشرعية في أغلب المصارف المحلية وعضو هيئة كبار العلماء، نالت شرف نشر إبداعاته الفكرية صحيفةٌ عاصمية كبيرة، لا أدري إن كان دافع آخر عبقرياته تجربةٌ شخصية أو استفتاء سَمِعَهُ في برنامجه التلفزيوني الشهير أو مُجرد فكرة عابرة، المقال "المسخرة" كان يحكي عن نظام إصدار التذاكر الإلكترونية الذي تبعته شركة طيران محلية، كان الشيخُ يشبّه الحال التي وصلنا لها بمن أراد إتقان مشية الحمامة فأضاعها وأضاع مشية الغراب، وكم يُؤسَف على مشية الغراب!

ضمّت المقالة جُملة من فلتات الشيخ الفاضل فهو يرى أننا " أردنا – بتطوير نظام إصدار التذاكر الإلكترونية - أن نتطور مع الزمن من غير حاجة إلى هذا التطور"  فإما أننا بلغنا من التطور ما يُغنينا عن تطور – سخيف – كهذا أو أن أمر تسهيل إصدار التذاكر الإلكترونية غير ذو جدوى وحاجته منتفية ، فهو في أغلب الأحيان كان يُكلّف شيخاً – سكرتيراً – بمهاتفة وكالة سفر – الشيوخ – التي تًُرسل لسماحته "التذكرة الزرقاء المأسوف على فراقها – كما يقول.

ويواصل عبقرياته المُضحكة بنقد مبدأ عامٍ " إلا أنه عقدة التقليد الأعمى فأخذنا بما يعرف بنظام الكمبيوتر" لنقد حالة خاصة، وهو هنا ناقم على التقليد الأعمى، فلماذا نقلد بعمى ونحن الذين ابتكرنا ببصيرة نظام التذاكر "الزرقاء" المأسوف على فراقه!، ناقم على "ما يُعرف" وهو بالمناسبة - غير أكيد من المعلومة – على نظامٍ يدعوه الفرنجة وعلمانيو هذه الأمة بنظام الكمبيوتر وهو – والله العالم – زنديقٌ من زنادقة هذا العصر جاء ليعيث في بلاد الإسلام عبثاً و يُبعد المسلمين عن تعاليم دينهم و يقضي على إحدى أبرز معالم التراث الإسلامي المجيد "التذكرة الزرقاء" المأسوف على فراقها ولا حول و لا قوة إلا بالله.

ويضيف أن الحال صارت " فصدرت التذاكر بأوراق لا يعرف صالحها من فاسدها" فبعض هذه الأوراق يبدو أنها من تلك التي لا يُعلم أنها تهتدي لصلاة الجماعة معه أو تحضر دروس سماحته بعد الصلاة ، وأغلب الظن أنها تستمع للموسيقى وتُبيح الاختلاط وهذه مفسدة العصر ومصيبة الدهر، بينما كانت "الزرقاء" عفيفة صالحة انحصر دورها في تربية الأبناء على نهج السلف الصالح دون الاغترار بمكائد الأعداء بدعوى تحرير المرأة وهم يعنون فسادها وانحلالها الأخلاقي.

ثم يُسهب الشيخ الجليل في نقد تقني و يتحدث عن "إستراتيجية واضحة للراكب والموظف والمناوب" طالباً من مدير الشركة المعنية “أن تترك هذه التنظيمات المظلمة"، فهي "مؤسسة إسلامية مملوكة لحكومة إسلامية" وعليها " تقوى الله والبعد عن كل عقد تضيع منه الحقوق وتقع فيه المظالم" بعد أن يشرح شيئاً من علمه الوافر في فقه "تذكرة السفر"!

مقالة "المسخرة" التي كتبها الشيخ هي بحق دليلٌ آخر على أسبقيّة صحافتنا في منح ديناصورات وعاهات فكرية كالتي يُمثِّلها الشيخ - خير تمثيل-  مساحةً ليُسهموا في رفد اللغة العربية وفنونها التحريرية بأصناف وأنماطٍ كتابية جديدة لا تجدُ لها في كل الدنيا مثيلاً، وهو بلا شك ليس فريد عصره في المجال بل صفحات الجرائد عندنا غنيةٌ بمثل هؤلاء، يكتبون في كل شيء .. وكُل ما يكتبون يصح أنه من فن كتابة "المقالة المَسخرة".

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/أيار/2010 - 26/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م