الخط الفاصل بين الأديان والحضارات

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿5﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿6﴾)[1]

العلاقة بين الحضارات؟

ما هي (المعادلة) التي ينبغي أن تحكم (العلاقة) بين الحضارات، وبين الأديان، وبين الامم؟

هل المعادلة هي:

أ- معادلة (صراع الحضارات)..

ب- أم المعادلة هي معادلة (تعايش الحضارات)..

ج- أم المعادلة التي ينبغي أن تتحكم في العلاقة بين الحضارات هي علاقة (اندماج الحضارات)..

د- أم العلاقة هي علاقة (حوار الحضارات)..

هـ- أم أن هنالك مساراً آخر ترسمه لنا هذه الآيات القرآنية الشريفة، في سورة الكافرون؟

سورة (الكافرون) أو (الجَحد)؛ تلقي الضوء على المعادلة التي ينبغي أن تتحكم في العلاقة بين الأديان والحضارات المختلفة، وسنتطرق على ضوء هذه الآيات القرآنية الشريفة، لبعض الحديث عن ذلك في هذا البحث والأبحاث المقبلة - بإذن الله سبحانه وتعالى- لكن قبل ذلك فلننظر كيف كان يتعامل رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) مع هذه الآيات القرآنية الكريمة من سورة الكافرون؟

التزام الرسول فجراً وليلاً بقراءة (الكافرون)

في الرواية: أن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم): (لم يأتِ فراشه قط إلا وقرأ قل يا أيها الكافرون حتى يختم).[2]

وفي رواية أخرى يقول أحد المراقبين: كنت أرمق رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك - كان يراقب النبي كيف يتحرك؟ وماذا يصنع؟ وماذا يُظهر أو يبطن؟ ويبدو من الحديث أن رقابته للنبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) ربما كانت على مدار الأربع والعشرين ساعة، فيقول على حسب تعبيره: كنت أرمق -أراقب وألاحظ الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم)- أربعين صباحاً أو أربعين يوماً، وفي رواية ثانية شهراً وفي لفظ 25 مرة ولعله يظهر من الرواية أنه كان يراقب النبي من السحر إلى الليل فوجدته يُصلي نافلتي الفجر وفي رواية (صلاة الفجر) بـ(قل هو الله أحد) و(قل يا أيها الكافرون).. توحيد وبراءة، تولي وتبري.. يفتتح رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) يومه بالبراءة وبالولاية، كما نشاهد التجلي الأكبر للتبري والتولي في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فكان يبدأ صلاته (الفريضة أو نافلتها حسب الروايتين، ولعلها كان في زمنين أو بالتناوب)

في إحدى الركعتين، بالتوحيد بعد الحمد، وفي الركعة الثانية يقرأ الكافرون، وكان يختتم  (صلى الله عليه وآله وسلم) يومه بذلك النمط أيضاً في صلاة المغرب وفي رواية في نافلتي المغرب بعد صلاة المغرب فكان يقرأ بعد الحمد في ركعة (التوحيد)، وفي ركعة أخرى (الكافرون)[3]، وكما كان  (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينام آخر الليل كما تحدثنا في الروايات الأخرى، كان لا ينام إلا ويقرأ الكافرون، وهناك روايات أخرى عديدة في هذا الحقل..

إذن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شديد الالتزام قولاً، وفعلاً، جوارح، وجوانح، بهذه السورة الكريمة، وبهذه الآيات القرآنية الكريمة، وكان يُحرّض ويُشدد في التحريض على قراءة هذه السورة المباركة.

وقبل أن ندخل في عنوان البحث (ما هي العلاقة التي يجب أن تحكم الحضارات؟ هل هي علاقة صراع الحضارات، أم تعايش الحضارات والأديان، أم اندماج الحضارات بعضها ببعض، أم علاقة حوار الحضارات، أم علاقة أخرى سنشير لها لاحقاً إن شاء الله، قد تأخذ من بعض هذه شيئاً وتضيف لها أشياء أخرى وترفض أشياء).

مقايضة قريش للرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) وسياسة الحل الوسط

قبل ذلك علينا أن نلاحظ شأن النزول في هذه الآيات القرآنية الكريمة، هذا كتاب تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن حيث يذكر في شأن النزول:

إن هذه السورة نزلت في نفر من قريش منهم الحارث بن قيس، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف، أن هؤلاء خاطبوا رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه (الحل الوسط) في شؤون العقيدة والشريعة، فنزلت بعدها هذه السورة المباركة، وكانوا من أشراف قريش، وساداتها، قالوا: (هلُمَّ يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك) - إنها مقايضة، تنازل فنتنازل، مقايضة يسميها المنبهرون بالغرب: حضارية، إنها مقايضة بين الدينين- (هلمّ يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك)، أولاً (ونشركك في أمرنا كله)، ثانياً، والظاهر من هذا المقطع أنه لم يكن التنازل المقترح من قبلهم تنازلاً دينياً وحضارياً فقط، بل كان تنازلاً عن الرياسة أيضاً، نشركك في الرياسة، وتكون أزمَّة أمور في مكة وحواليها أيضاً بيدك، أي نتنازل لك دينياً، ونتنازل لك سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وما أشبه ذلك.. أيُّ إغراءٍ أكبر من ذلك؟ (ونشركك في أمرنا كله تَعُبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة)..

وبعد ذلك فلسفوا ذلك لأن المُبطل، لابد أن يذكر فلسفة وحكمة وعلة لباطله، ولابد أن يستدل على باطله، لكي يخدع الناس (فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا، كُنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي ما بأيدينا خيراً مما في يديك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه).

فقال  (صلى الله عليه وآله وسلم): (معاذ الله أن أشرك به غيره).

وقوله (معاذ الله) أي أعوذ بالله وأستجير به وألجأ إليه في الثبات أمام إغراءاتكم ذلك أنه  (صلى الله عليه وآله وسلم) يحتاج إلى (العصمة) من الله سبحانه، فإن (عصمته) بالله، ومستمدة منه، وبلطف الله وحكمته وحوله وقوته، وليست العصمة (ذاتية بذاتي باب البرهان) والتي يستحيل عقلاً انفكاكها عن ذي الذات كالإمكان للممكن، وكزوجية الأربعة مثلاً.

إن كثيراً من الناس الآن، تلاحظون في الغرب أو في الشرق، وعند صراع الحضارات، عند اصطدام حضارة بحضارة أخرى يضعف، ويهن، ويقدِّم بعض التنازلات العقدية أي العقائدية، أو الفكرية، أو الثقافية، أو العملية، فيحتاج إلى أن يعتصم الإنسان بالله سبحانه وتعالى-.

الرفض النبوي الصارم

فقال: (معاذ الله) لأن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم بعصمة الله سبحانه وتعالى وحفظه له )وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً)[4] (معاذ الله أن أشرك به غيره).

وعندما رأى سادات قريش هذا الموقف الصلب المبدئي الصارم، قدموا تنازلاً آخر، فقالوا: نحن في البداية طلبنا منك سنة في مقابل سنة الآن نتنازل إن تنازلت، قالوا: (فاستلم بعض آلهتنا نصدقك).. تعال تمسَّح بإحدى الأصنام وكفى ذلك! وقد رفعنا أيدينا عن الشرط الأول وهو عبادة سنة.. أما التمسح بالأصنام فإنه سهل جداً، تهوين وتسهيل للأمر، قالوا: (فاستلم) ولكي نعرف عظمة وصلابة النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) واستقامته علينا أن نتذكر أنه  (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناحية الظاهرية، كان في موقع ضعف، كان محاصراً من جميع الجهات، لا كما هم عليه الآن في العالم، فإن المسلم عزيز الآن في العالم لكنه مع ذلك تجده ومع أدنى ضغط أو مجموعة ضغوط بسيطة تتوجه له، يستسلم ويقدم تنازلات فكرية، ويقول كما يقول ذلك الإنسان الضال والمنحرف: أن القرآن نزل لزمان خاص ولمكان خاص، وأن حقوق المرأة كذا، وأن الديات كذا، وأن كذا، كذا.. يتراجع عن المسلمات الدينية بمجرد توجه نوع من الضغط العالمي لا أكثر، النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في أشد الضغط في ذلك الزمن..

قالوا: (فاستلم بعض آلهتنا..نصدقك ونعبد آلهتك)، وما أسهل ذلك.. لاحظوا هذا الشرط البسيط، ظاهرياً والذي ربما لا يتجاوز العمل به ثواني قليلة، كما قالوا لعلي بن أبي طالب (عليه الصلاة وأزكى السلام): (وسيرة الشيخين).. قال: (لا، واجتهاد رأيي)..

النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد هذا التنازل الغريب الذي قدموه لم يرد أن يجيبهم بالرد، وإن كان الرد واضحاً لكنه أراد أن تكون الحجة عليهم أتم قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي.. فنزلت: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)..

إنه.. قرار نهائي، حازم وصارم، فعدل رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك فآذوه..[5]

كان النبي محاصراً، ومُشرَّداً، من الناحية الظاهرية، في موقف ضعف لكنه قوي بإيمانه، وبكلمته، وبموقفه، فآذوه وآذوا أصحابه، ومع ذلك انتصر أي انتصار!!

ماذا يعني (الكافر)؟

ولكي نعرف أن هذه الآيات الشريفة، كيف تعطينا تصوراً شمولياً عن العلاقة التي ينبغي أن تتحكم بين الحضارات، والأديان لابدَّ أن نتساءلَ عن معنى (الكافرون) أولاً؟ ثم الفلسفة في هذا القرار الصارم العنيف؛ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) إلى آخر السورة المباركة.

(الكافر)؛ هو بمعنى (الساتر)، (السحاب) يسمى كافراً لماذا؟ لأنه يستر القمر، فإذا ستر السحاب القمر سُمي كافراً، ولأنه يستر في الليل النجوم، فالسحاب يسمى كافراً لأنه يستر القمر أو النجوم، وكذلك (الليل) يسمى كافراً لأن الليل يستر الأشخاص، ويستر الأشياء، والحقائق وما أشبه ذلك.. كما أن (المزارع) يُسمى كافراً، و(الزرّاع) يسمّون كفاراً (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ)[6]

(الكفار): يعني الزُرّاع، غيث نزل من السماء فأعجب الكفار ما أنتجه ذلك الغيث، وهو النبات الذي نبت ببركة ذلك الغيث، إذن الكافر في اللغة العربية بمعنى الساتر، كما نقول (كَفَّر خطيئته) أي سترها بحَسَنة أحاطت بها، وسترتها بل بدَّلتها إلى حسنة، و(كفران النعمة) ما هو؟ أي (جَحْدُها، جحودها)، يعني (سترها)، وما أشبه ذلك..

سمي الكافر كافراً لأنه يستر الحقيقة

إذن الكافر سمي كافراً لأنه يستر الحقيقة، وما هي الحقيقة؟هي أن الله هو الخالق، والكافر ينكر ذلك، وما هي الحقيقة أيضاً؟.. هي أن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لكن الكافر يستر هذه الحقيقة فسمي الكافر كافراً لأنه يستر أشد الحقائق وضوحاً وجلاءً.. ويتكتم عليها..

وكما لو أن أحدهم في وضح النهار، قال: الشمس غير موجودة؛ فهذا (كافر) حقاً، كذلك الذي يُنكر خالقه فهذا هو (الكافر) حقاً، والزارع كافر لأنه يستر البذرة بالتراب، والسحاب يستر القمر لفترة من الزمن؛ ولكن الكافر الحقيقي هو الذي يحاول ستر أجلى الحقائق فينكرها رغم أنه يعرفها (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).[7]

فلسفة الأحكام في القرآن

هذا المطلع قدَّمناه؛ لأنه كان يتضمن الفلسفة في هذا القرار الإلهي الصارم، والسيد الوالد (قدس سره) كانت له كلمة قَيِّمة جداً، يقول: إننا اكتشفنا بالتتبع في القرآن الكريم؛ أن أي تشريع، أو أي قرار، أو أي حكم، أو حقيقة يذكرها الله سبحانه، فإنه يُعقِّبها، ببيان الفلسفة والحكمة لذلك الحكم..

فلماذا يجب أن نُصلي؟ قال تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).[8] إذن هناك تعليل، وسبب وجيه لهذا الحكم، (سبب سابق) لأنه هو الله الذي لا إله إلا هو و(سبب لاحق) وهو (لذكري).

ولماذا يجب أن نصوم؟ قال ربنا سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).[9] فقد ذكر الله تعالى ههنا حكمتين وسببين إذ هنالك سُنَّة إلهية تاريخية في ذلك، وهناك فائدة تقوى الله تعالى أيضاً..

ولماذا يجب علينا أن نحج؟قال سبحانه وتعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿27﴾ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).[10] فهذه حِكَمِ الحج لبيت الله الحرام..

وأنا في ذاك الوقت -عندما سمعت هذه الكلمة التي سمعتُها، ربما قبل أكثر من عشرين سنة من الوالد- خطر ببالي أنه يقصد من التعليل، (التعليل اللاحق للحكم)، أو (الحقيقة التكوينية)، أو (التشريعية) التي تُذكر، إلا أن بالتأمل في كلامه، وفي القرآن الكريم وجدتُ أن التعليل القرآني قد يكون سابقاً، وقد يكون لاحقاً، وقد يجتمعان كما في الآية الأولى، كما أنه قد يكون مقارناً..

أي أن الله يذكر العلة في التشريع، أو في التكوين، لكن هذه العلة قد تكون في رأس الآية الشريفة، قد تكون في صدر الآية الشريفة، قد يدل عليها السياق، أو جو الآيات العامة..

لماذا (الخط الفاصل) بين الأديان؟

هنا في سورة الكافرون في صدر الآية إشارة دقيقة لفلسفة القرار، والقرار هو (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ).

والفلسفة المذكورة في الآية الأولى بل في كلمة واحدة منها وهي: أنهم (كافرون) (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) يقول تعالى لهم: أنتم كافرون، أنتم سترتم الحقيقة، والذي يستر الحقيقة، وأجلى الحقائق، ويكابر ويعاند، في جبهة، وأنا في جبهة أخرى..و إنني لا أتراجع لأكون مثل ذاك الشخص الجاهل الذي يعرف الحقيقة، لكنه يسترها ويكابر ويتجاهل، مثل من يعرف أن هنا بئراً يمكن أن يقع فيها تصوروا شخصاً مغمِّضاً عينيه عمداً يهرول باتجاه الوادي العميق أو يمشي باتجاه بئر عميقة ليقع فيها، فماذا علي أن أقول له إن هو دعاني للالتحاق به وأصر على ذلك؟

أقول له: امشِ بدربك، وأنا أمشي بدربي..

ولاحظوا الدِّقة القرآنية الجميلة؛ الله سبحانه وتعالى أشار إلى فلسفة كل القرارات الصارمة اللاحقة التي تُحدد مصير البشرية إلى يوم ظهور الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) بتعليل واضح وبسيط، ظاهره ليس تعليلاً، ولكن باطنه تعليل، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ) فإن (وصفه) بالكافر، هو علة اتخاذ هذا القرار، أي لأنك كافر تستر أجلى الحقائق وأوضحها وأكثرها بداهةً فلذا أنت في شق وأنا في شق آخر، إننا في شقاق، نحن في جبهة، نحن جبهة النور، وأنت جبهة الظلام، أنت تريد أن تمشي في جبهة الظلام امشِ، لكنني لا أستطيع أن أكون معك، ولا أنت تريد أن تكون معي وسوف لا يكون ذلك كذلك أبداً..

العلل الأربع لـ(الخط الفاصل) مع الكفار

فهذا المطلع والتصدير بهذه الصفة، تضمَّن تعليلاً للقرارات اللاحقة، المذكورة في هذه الآية الشريفة، ونضيف في التوضيح أنه لماذا المعادلة بيننا وبين الأديان الأخرى ينبغي أن تكون بهذه الطريقة؟

وإنه لابد من وجود (مائز) واضح وخط فاصل وموقف علني لا لبس فيه، فلا اندماج، ولا ذوبان، ولا تنازل، وهذا لا ينفي (الحوار) و(التعايش السلمي) في الحدود والأطر التي قررها الشارع.

والإجابة على ذلك - وهي توضيح لهذه الإجابة الأولى- نذكر الآن منها ثلاثة أو أربعة وفي البحث القادم لعلنا نذكر العلل الأخرى بإذن الله تعالى..

1. معبودي أشرف من معبودك

السبب الأول: هي لأن معبودي أشرف وأفضل من معبودك...

إذ توجد هنالك أربعة أطراف:

أ- جبهة المؤمنين

ب- ومعبودهم،

ج- جبهة الفُسَّاق أو الضُلال، أو المنحرفين، أو الكافرين،

د- وما عبدوه.. فإذن هناك أربعة أطراف.. فالسبب الأول في ضرورة وجود (الخط الفاصل) بيننا وبين الكفار، وخطأ تذويب (الحدود) هي: لأن معبودي وهو الله سبحانه وتعالى، العلي المتعال، أشرف بما لا قياس وهذا التعبير من ضيق التعبيرـ من معبودكم، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[11]

هذا معبودنا، وأما معبودهم فهو الصنم، الذي لا يضر ولا ينفع ولا يسمن ولا يغني من جوع..

إن معبودنا هو الله الذي نجد صفته في آية أخرى، (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿23﴾ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).[12]

هذا هو معبودنا.

أما معبودكم فهو حفنة من التمر، لا تُسمِن ولا تغني من جوع، كانوا يعبدون التمر، أو الصنم يصنعونه من التمر، فإذا جاعوا أكلوه! هذه هي قيمة إلههم، وكان قسم من الكفار يعبدون الحطب، أو البقر، أو الشيطان أو ما أشبه ذلك..

فالسبب الأول في ذلك هو: لأن معبودي أشرف من معبودكم..

2. وأنا المؤمن أشرف من معبودكم

السبب الثاني: لأنني أنا المؤمن أشرف من معبودكم..

قد سبق أنه توجد عندنا أربعة أطراف، فمعبودي أشرف من معبودك أولاً..؛ وأما ثانياً فإنني أنا العابد أشرف من معبودك، ليس فقط معبودي - وهو الله سبحانه وتعالى الغني القادر المتعال- أشرف وأعلى من معبودكم، بل إنني أنا البشر أشرف من معبودك، أصلاً، فهل يقاس الإنسان أشرف المخلوقات بالصنم، أو بالحيوان كالبقر أو بما أشبه ذلك؟ وسوف أذكر لكم جانباً من إعجاز الله سبحانه وتعالى في الإنسان حتى نعرف مَنْ هو أشرف؟ لنعرف أكثر وإلا فالمعرفة موجودة ولله الحمد..

تجلي عظمة الخالق، في المخ: تريليون خلية!

هذا (المخ) في الإنسان، هذا المخ البسيط في ظاهره، لكن العلماء بعد التحقيق توصلوا إلى أن مخ الإنسان يحتوي على كم خلية من الخلايا؟ ليس مليوناً أو ملياراً منها، وإنما يحتوي المخ على (تريليون خلية) أي ألف مليار خلية..

وألف مليار رقم جداً رهيب، وقد أراد بعض العلماء تصوير معنى تريليون في قالب حسي مبسط.. فلاحظ أن هذه الخلايا الصغيرة، المتناهية في الصغر، لو أخرجت من المخ، وصفُّوها وراء بعضها فسوف تصل إلى القمر، وترجع من القمر إلى الأرض!!

هذه السلسلة، التي جمعها الله سبحانه بإعجازه في حجم صغير جداً، في داخل جمجمة الإنسان لو وضعت على شكل سلسلة فإنها تصل إلى القمر وترجع من القمر رغم أن كل مائة ألف منها يمكن أن تقف على رأس أبرة!! هل انتهت عظمة الله، وتجلي آياته سبحانه وتعالى في مخ الإنسان؟ كلا..

فهذه الـ(تريليون خلية) في مخ الإنسان ليست بسيطة، بل كل خلية تحتوي على الألوف -فاضرب الألوف في التريليون- تحتوي على الألوف من (الشعب) أو (المِجسات)، ويشبهونها بالإخطبوط ذي الأرجل المتعددة، فشكلها من هذا القبيل إذن تريليون خلية كل خلية تحتوي على الألوف من الشُعب أو المجسات مثل أرجل الإخطبوط.. كل ذلك مجموع ومتراص ومنظم ومرتب في مخ صغير بحجم كف الإنسان!! وهل إنتهى الإعجاز؟ كلا..

عظمة الله تتجلى في هذا الإنسان بهذا الشكل، ثم هو يعبد الصنم؟! هذا أنا، وذاك معبودك أنت أيها الكافر..

إذن كل خلية تحتوي على الألوف من الشعب، أو المجسات مثل أرجل الإخطبوط، متفرعة ومتشعبة - فاضرب الألوف في التريليون- وبعد ذلك كل شعبة، أو مِجسة تحتوي على الألوف- فاضرب الآلاف في ألوف في التريليون- تحتوي على الألوف من (الزوائد العصبية) ولكن تلك (الشعب) كانت هيكلتها بصورة الإخطبوط وهذه (الزوائد العصبية) هيكلتها بصورة فطر، عش الغراب.. مُشكّلة بهذه الطريقة.

إذن: تحتوي كل شعبة، على الألوف من الزوائد العصبية، وهل انتهى الإعجاز عند هذا الحد؟ كلا..

(ولاحظوا أن حديثنا حول الذي اكتشفه العلم، وما لم يكتشفه أعظم).

ثم إن كل زائدة عصبية من هذه الزوائد التي وصلنا إليها حتى الآن، تحتوي على الألوف من (الحزم) التي تحمل في داخلها مواداً كيماوية، ماذا تفعل هذه المواد الكيماوية بعد هذا التسلسل الرهيب؟ هذه تنقل (الرسائل العصبية) من خلية من خلايا المخ إلى خلية أخرى، هي الرسائل العصبية.. هذه العمليات الرهيبة تجري في هذا المخ البسيط، وبأجزاء من الثانية..

وفي مخ النحلة مليون خلية فقط

هذا هو أنا الإنسان.. ثم أعبد الصنم، أو البقرة، أو النحلة؟!

والعلم الحديث مثلاً أثبت أن النحلة مخها يحتوي على أقل بكثير من مليون خلية فقط، الإنسان إذن يملك في مخه تريليون خلية، أما النحلة فهي تمتلك أقل من مليون خلية بكثير والنسبة بين المليون والتريليون مثل نسبة الطفل الذي يعرف مسألة واحدة فقط، (مثل واحد زائد واحد يساوي اثنين)، وعالم يعرف مليون مسألة فهل من نسبة بينهما؟ أي نسبة الواحد على المليون.

فهل يصح أن تقول لذاك العالم بمليون مسألة، اعبد هذا الذي يعرف مسألة واحدة فقط؟ إذن (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) لماذا لا أعبد ما تعبدون؟ لأن؛ معبودي أشرف من معبودك بما لا قياس أولاً، ثم إنني أنا أشرف من معبودك بما لا قياس ثانياً..

3. (أنا المؤمن) أشرف وأعلم منكم

السبب الثالث: أنا أيضاً أشرف وأعلم منك بما لا قياس..

وهذه هي المعادلة الثالثة إذ كانت لدينا أربعة أطراف

أ- نحن جبهة المؤمنين،

ب- وأولئك جبهة الملحدين والكافرين،

ج- والمعبود لنا

د- والمعبود لهم، فمعبودنا أشرف من معبودهم.

ونحن أشرف من معبودهم، ونحن أسمى وأعلى، بما لا قياس منهم أيضاً لماذا؟ لأنه لا يقاس العالم بالحقيقة بل بأجلى الحقائق بالجاهل..

وأنتم تأملوا المثل التالي: تصوروا طفلاً في مدرسة، حصل في الامتحان على درجة صفر مع أنه امتحان عادي، امتحان زمني، امتحان قد ينتهي في أيام وفائدته قد تكون قليلة فهذا الطفل حصل في الامتحان على صفر، وهناك طفل آخر حصل في الامتحان على درجة مئة، فهل من قياس بين هذين؟

لا قياس بين هذين أصلاً.. ومَن قاس بينهما وجعلهما في كفة، فقد ظلم، كما أنه كشف عن جهله او كبره وعناده.. فإذا كان ذلك كذلك في معادلة بسيطة بين طفلين، تتعلق بمسائل بسيطة من حقائق العلم.. فكيف بالحقائق الكونية الكبرى؟ بل أكبر الحقائق؟!

فالمؤمن من يعرف الحقيقة، والكافر ينكرها، ولا قياس بين من يعرف الحقيقة بل سلسلة من أهم الحقائق، وأجلى الحقائق، وأهم الحقائق؛ وبين من ينكر تلك الحقيقة، أو الحقائق الأخرى فلذلك؛ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)، لأن من الجهل، ومن الضلال؛ أن تقول لجبهة النور والإيمان والحقيقة: تنازلي لتلك الجبهة، وهل يصح أن أتنازل وهل يحق لي أن أتنازل؟ هذا مثل ما إذا قال أحدهم لآينشتاين، أو أديسون: اذهب وقلِّد طفلاً في الروضة!!

أو تنازل لمن ينكر حركة الأرض؟ أو الجاذبية؟ أو النظرية النسبية!!

أو تعال ولنضع حلاً وسطاً: فتقول بسكون الأرض يوماً وحركته يوماً آخر!! كما قالوا لرسول الله (نعبد إلهك سنة.. وتعبد آلهتنا سنة)!!

علمني رسول الله ألف ألف باب من العلم

أو ذلك مثل من يساوي بين ذلك الرجل الجاهل بمعنى (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ)[13] أو (وَفَاكِهَةَ وَأَبَّاَ).[14]

ونظائره وبين أمير المؤمنين ومولى الموحدين (عليه صلوات المصلين)، الذي قال عنه رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا مدينة العلم - والعلم مطلق يشمل كل العلوم كما تعلمون- وعلي بابها فمن أراد المدينة والحكمة فليأتها من بابها..[15] ويقول أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام): علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب؛[16] وفي رواية: يفتح لي من كل باب ألف، ألف باب..[17]

وماذا يعني ألف باب من العلم؟ إنه يعني أن (علم الأصول) مثلاً باب من العلم، و(علم النحو) باب من العلم، و(علم الفلك) باب آخر من العلم، وعلم (الفيزياء والكيمياء والفلك وعلم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد وعلم الجيولوجيا) وغيرها كل منها باب من العلم، وذلك لأن (من) هنا (بيانية) فـ(ألف باب من العلم) أي (ألف باب هو العلم) أي ألف باب كل باب هو العلم، ولا يخل بالمعنى لو كانت (من) (نشوية) فإنها باب مشرعة للعلم، بل حتى لو كانت (من) (تبعيضية) لأن (من) تبعيض لـ(العلم) أي للجنس، لا للنوع وهو الطب أو الفيزياء مثلاً، فالتبعيض بلحاظ النسبة لعلم الله تعالى لا بلحاظ النسبة لعلم الطب أو الفقه مثلاً فليتأمل جيداً فإنه دقيق وبالتدبر حثيث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) و(علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف، ألف باب).. أي مليون باب.

أين هذا العظيم؟ أين الثريا وأين الثرى من ذلك الرجل الذي، يقول: كل الناس أعلم أو أفقه منه، حتى ربات الحجال.. النساء أعلم منه هو يصرح بذلك وليس كلامنا، نحن ننقل كلامه: كل الناس أعلم من عمر حتى المخدرات في الحجال..[18] هذا ليس كلامنا هو يقول، ويقول: لولا علي لهلك عمر.[19]

أنى ساووك بمن ناووك

وهل ساووا نعلي قنبر!!

أنت تقول لأينشتاين وأمثاله: تعالَ واجعل طفلاً في الروضة هو المعلم لك والموجه، وهو المهندس والمخطط، وهو الحاكم عليك، وهو الرئيس المهيمن عليك، ويكون هو الذي بيده الأمر، والفصل، والنهي.. هذا الكلام غير معقول، إلا من الإنسان الظلوم الجهول..

وبذلك يظهر أن قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، واضح وعلى مقتضى الأصل والقاعدة، وهو المطابق للحكمة، وهو عين الصواب والحقيقة؛ إذ لا يمكن أن تقول للعالم (بقول مطلق): تعال اتبع (الجاهل بقول مطلق)، لا يُعقل ذلك (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿3﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿4﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)..

وههنا لفتة بديعة وهي أن سورة (الكافرون) تتضمن التنبؤ بالمستقبل إن صحَّ هذا التعبير؛ أي الكشف عن المستقبل وهذه الآيات من الآيات، ومن الدلائل على إعجاز النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإعجاز القرآن، لأن هؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم أول البحث كلهم ماتوا كافرين، فالنبي يتحدث عن المستقبل أيضاً، فإنه  (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تحدث عن الحال، تحدث عن المستقبل.

فلسفة التكرار في سورة (الكافرون)

وهذا مما يُذكر في فلسفة التكرار أيضاً، لماذا الآية تكررت، أي لماذا الله سبحانه وتعالى كرر (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) مرتين حرفياً وكرر (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) بعبارة مشابهة (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ).

الجواب: أولاً: إن التكرار له فوائد ولذا يعد التكرار أحياناً ضرورياً، فإنه تأكيد للمعنى، وتكريس للمفهوم، وتثبيت للأمر كله.

ثانياً: إن كلاً من الآيتين المتكررتين تشير إلى جانب من الجوانب ف(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) أي في المستقبل لأن (لَا) إذا دخلت على الفعل المضارع في اللغة العربية، أفادت نفي المستقبل (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿1﴾ لَا أَعْبُدُ) أي في المستقبل (تَعْبُدُونَ ﴿2﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)..

إذن الآيتان الأوليان الحديث فيهما عن المستقبل، والحديث في الآيتين الأخيرتين هو حديث عن الحال.. ولا أنا (عَابِدٌ) بالفعل ما (عَبَدتُّمْ)، (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ) أي بالفعل (مَا أَعْبُدُ).

إذن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يُفيد: أنه لا الآن، ولا في المستقبل، لن يلتقيَ جيش النور مع جيش الظلام إطلاقاً، ولن يتفقا ولن تذوب الفوارق وستبقى الجبهتان، في البشرية قائمتين حتى ظهور الإمام المهدي القائم من آل محمد (عجل الله فرجه الشريف).

وهذا إعلام غيبي وكشف مستقبلي، وأحد مصاديقه قد حدث وتحقق؛ وهو أولئك المخاطبين بالسورة حيث ماتوا مشركين، ولم يؤمن أحد منهم بالله سبحانه وتعالى طرفة عين.

وما ذكرناه هو أحد الوجوه في معنى الآيات وهنالك احتمالات أخرى وهناك تتمة لهذه الفلسفة قد نتطرق لها في البحث القادم بإذن الله تعالى..

ولنرجع إلى صدر المبحث حيث ذكرنا عللاً ثلاثة لفلسفة (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)، وهي

أ- لأن معبودنا أشرف من معبودهم،

ب- ولأننا أشرف من معبودهم،

ج- ولأننا أشرف منهم، وأفضل، وأشد فهماً، ومعرفة.. وأما السبب الرابع:

4. المدخلات الصحيحة تنتهي إلى مخرجات صحيحة

السبب الرابع: لأن المدخلات الصحيحة تنتهي إلى مخرجات صحيحة..

والمدخلات الخاطئة تنتهي إلى مخرجات خاطئة، في بحث يذكره علماء الإدارة في علم الإدارة بالتفصيل، وفي علم الاقتصاد أيضاً، ونضيف أن هذه القاعدة جارية في شؤون العقيدة أيضاً بل هي قاعدة سيالة في كل مناحي الحياة وفي كافة العلوم ولعلنا نوفق لتفصيل ذلك في بحث قادم بإذن الله تعالى..

هل يراد بـ(الكافرون) الجميع أم المجموع؟

لاحظوا؛ (قل يا أيها الكافرون)، كلمة (الكافرون) هل يُراد بها (الجميع)، أم يُراد بها (المجموع)؟ ما هو المراد بالكافرين؟ إذ يوجد احتمالان في صيغة الجمع..

الاحتمال الأول: أن يكون الحكم قد رُتّب على المجموع، والهيئة الاجتماعية..

الاحتمال الثاني: أن يكون الحكم قد رُتب على الجميع، وعلى الآحاد وكل فرد، فرد..

مثلاً إذا قلت: (يهزم الجيشُ العدو)، فإن (الحكم) وهو (يهزم) رُتب على (الهيئة الاجتماعية) أي على المجموعة بما هي مجتمعة لا على الآحاد، إذ أن كل واحد، واحد من أفراد الجيش بمفرده لا يستطيع أن يهزم العدو، وإنما الذي يهزم العدو هو (المجموع بما هو مجموع) أما الآحاد بما هم آحاد فلا يستطيعون أن يهزموا الطرف الآخر، ففي (يهزم الجيش العدوَ)، المجموع هو المراد، أي يهزمه بما له من هيئة مجموعية.

لكن أحياناً وأغلب الأحيان هي من هذا القبيل يقصد بصيغة الجمع (الجميع)؛ أي كل واحد، واحد يكون هو المراد.. فعندما تقول: المؤمنون يلتزمون بأوامر الله سبحانه وتعالى، ماذا يعني؟

إنه يعني أن كل واحد، واحد منهم يلتزم بأوامر الله، ولا يعني أنهم بشرط الاجتماع وبالهيئة الاجتماعية، يلتزمون بالأوامر بحيث لو أنفرد كل منهم، لعصى الله، والآية الشريفة، تقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[20]

يريد الله سبحانه وتعالى بهذا الجمع (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) (الجميع)، لا (المجموع) فقط، وإن تضمن المجموعة أيضاً، يعني كل واحد، واحد من المؤمنين هذه صفته، أنه ولي للبعض الآخر أي له نوع ولاية عليه وهي في حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك، وقد أشار الفقهاء إلى ذلك في مبحث (ولاية عدول المؤمنين) ولعل (الولي) بهذا المعنى هو منصرف الآية الكريمة وإن احتمل شمول (أولياء) لكل المعاني التي ذكرت للولي من: محب، وناصر، ومعين وإلى آخر معاني الولي مما يمكن أن ينطبق في المقام فتأمل[21] وكل واحد، واحد منهم (يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر) لا أن الهيئة الاجتماعية فقط هو المطلوب منها ذلك، أو أنها هي التي تقوم بذلك..

وفي هذه الآية الشريفة بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) قد يتساءل ما الذي يُراد بـ(الْكَافِرُونَ)؟ هل الجميع، أو المجموع؟

الظاهر كما هو الأصل، أن المراد (الجميع) لا (المجموع)، يعني أن الضمير يرجع لكل كافر، كافر في (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) والخطاب هو لجميعهم.. كما أن (مَا تَعْبُدُونَ) يراد به الآحاد بكلها لا مجموعها، أي (أي شيءٍ عَبَدَهُ) ولو واحد منهم.. ثم إنَّ الفلسفة التي ذكرناها لهذا الموقف الحاسم الصارم أيضاً تدل على ذلك.

لا للتنازل.. سواء على حساب العقيدة أم الشريعة أم البلاد

فماذا نستفيد من ذلك؟ لو أسسنا ذلك الأصل[22]، نقول:

الخطاب في (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) والموصول ومرجع الضمير في (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) هو لكل كافر، كافر لا للمجموع من حيث المجموع، كالجيش من هنا يمكن أن نستفيد: أن الإنسان كثيراً ما يمالئ كافراً معيناً على حساب العقيدة أو الشريعة أو البلد، وذلك لمصلحة ما، أو لضغط ما وهذا أيضاً مرفوض، كما أن مداهنة جمع الكفار، وجماعتهم بما هم جمع وجماعة أيضاً، مرفوض ذلك أن الإنسان في تعامله مع الكثير من الكفرة، مع الكثير من الضالين، والمنحرفين قد يكون ذا موقف صلب قوي إلا أنه يضعف، أو ينكل عندما يواجه أو يصطدم أو يضطر للتعامل مع كافر معين أعلى سلطة منه، قد يكون من الناحية السياسية أعلى، كأن يكون مهيمناً على البلد، أو محتلاً له، فأنت تقدم له تنازلات؟! ليس لك حق بذلك.. ومن الطبيعي أن التنازلات تضر بمصلحة البلد، وتخدم المستعمرين عادة، وإن ألبسها المتنازِل ثوباً جميلاً براقاً، وأختلق لها ألف عذر ودليل وشاهد.

وهكذا نجد أن الخطاب خطاب عام، والأمر عام، أو الحكم عام، وطرف الخطاب المعني كل كافر، كافر سواءً أكان حاكماً، أم كان مستعمراً، أم كان غير ذلك..

مثال آخر: البعض عندما، يُحسن له الكافر المعين من دولة معينة، سواءً أكان لاجئاً أم غير لاجئ، من السلك الحكومي أم غيره يضعف، ويقول: هذا احترمني، أكرمني، قدرني.. إذن أقدم له تنازلات مبدئية، في شؤون العقيدة أو الشريعة.. وقد تكون ثبوتية وقد تكون إثباتية؛ لا يحق لك ذلك على الإطلاق..

إذ كيف ينتقل مَن هو في جبهة النور، إلى جبهة الظلام؟ لا يصح ذلك..

كيف يتنازل مَنْ هو الأشرف بلحاظ عقيدته وشريعته من جميع الجهات، لمن هو في رتبة أدنى بما لا قياس؟ ليس من الصحيح ذلك على الإطلاق..

هنالك تتمة للحديث بالنسبة إلى هذه السورة المباركة وإضافات من بعض الجوانب الأخرى مثل: أنه هل (الْكَافِرُونَ) المراد بهم (الْكَافِرُونَ) عقدياً[23] وفي شؤون أصول الدين، كما هو ظاهره؟ أو يشمل حتى (الظالمين)؟ وما أشبه ذلك من البحوث قد نتطرق لها لاحقاً إذا شاء الله تعالى).

من بركات الالتزام بـ(ذات القلاقل)

ولنختم بحثنا برواية رائعة ككل الروايات فلقد كان في زمن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد المعمرين وكان كبير السن جداً، يقول: بأن أباه كان لا يبقى له وليد، بل كلما ولد له وليد، مات ولو بعد حين، وهكذا دواليك.. يقول: عندما ولدت خاف أبي عليَّ، ولكنه مات قبلي، فاصطحبني عمي إلى رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشرح له  (صلى الله عليه وآله وسلم)، المشكلة، وإنني الوحيد الباقي من ذرية أبي، وسأل الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم): فماذا أصنع؟ عوِّذني بعوذة يا رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): أين أنت من ذات القلاقل..

يعني السور التي تبدأ بـ(قُلْ)، وهي (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).. يقول الراوي: التزمت بهذه القلاقل الأربعة وإذا بالله سبحانه وتعالى يتلطف عليّ، فلم يدركني الموت في سنين الطفولة، بل على العكس من ذلك طال عمري حتى عددت من المعمرين ثم إنني لم أصب لا بمال، ولا بولد، ولا بفقر، ولا بمرض طوال هذه السنين المتطاولة.[24]

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..

..............................................

* فصل من كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

للإطلاع على باقي فصول الكتاب:

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

...............................................

 [1] (الكافرون:6)

 [2] الدر المنثور: ج6، ص405.

 [3] بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 89 ص 341 ح7

عن ابن عمر قال: كان رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرء في المغرب قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد.

وعن ابن مسعود: أن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرء في الركعتين بعد صلاة المغرب قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد.

وعن ابن عمر قال: رمقت النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسا وعشرين مرة، وفي لفظ شهرا فكان يقرء في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد.

وعن ابن عمر قال: رمقت النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين صباحا في غزوة تبوك فسمعته يقرأ في غزوة تبوك قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ويقول: نعم السورتان تعدل واحدة بربع القرآن، والأخرى بثلث القرآن.

وورد أيضاً كان رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ في ركعتي الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد، ويقول: نعم السورتان مما يقرءان في الركعتين قبل الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد.

[4] (الإسراء:74)

 [5] مجمع البيان للشيخ الطبرسي:ج10 ص840.

 [6] (الحديد:20)

 [7] (النمل:14)

 [8] (طه:14)

 [9] (البقرة:183)

 [10] (الحج:28)

 [11] (آل عمران: 26)

 [12] (الحشر:24)

 [13] الذاريات: 7.

 [14] (تفسير الثعلبي انه سئل أبو بكر عن قوله تعالى: (وَفَاكِهَةَ وَأَبَّاَ) فقال: أي سماء تظلني أو أية أرض تقلني أم أين اذهب أم كيف اصنع إذا قلت في كتاب الله بما لم أعلم أما الفاكهة فأعرفها وأما الأب فالله اعلم. وفي روايات أهل البيت  (عليهم السلام) انه بلغ ذلك أمير المؤمنين  (عليه السلام) فقال: إن الأب هو الكلأ والمرعى وان قوله (وَفَاكِهَةَ وَأَبَّاَ) اعتداد من الله على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما يحيى به أنفسهم). عن مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج2، ص180.

 [15] الإرشاد للشيخ المفيد: ج1، ص33، والرواية متواترة بين علماء الأمة قاطبة..

 [16]  الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج1، ص223.. وكثيرة هي المصادر لهذا القول الشريف للأمير ..

 [17]  الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص297.. ففيه تفصيل جميل للرواية..

 [18]  رواه البيهقي في سننه: ج7، ص233، والهيثمي في مجمعه: ج4، ص283. خلاصة عبقات الأنوار للنقوي: ج3، ص184، وفيه كل أقوال الرجل في الباب..

 [19]  ينابيع المودة للقندوزي: ج1، ص216، وسائل الشيعة للحر العاملي: ج28، ص112، وهذا القول صار من الأمثال السائرة..

 [20] (التوبة:71)

 [21] إذ قد يقال (الولي) ليس مشتركاً لفظياً بين هذه المعاني بل هو حقيقة في المعنى الأول أي (ذو الولاية) على درجاتها ومجاز في غيره فراجع (الغدير) وغيره.

 [22] وهو أن الخطاب للجميع وليس للمجموع وأن (الموصول) وهو «ما» في (لا أعبد ما تعبدون) أي للجميع لا للمجموع.

 [23] أي عقائدياً.

 [24]  بحار الأنوار للشيخ المجلسي:ج51، ص260.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/أيار/2010 - 26/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م