الحاكم وطناً...

علي حسين عبيد/النبأ

 

شبكة النبأ: على الرغم من ان عنوان هذا المقال مقتضب، إذ يتكون من مفردتين فقط هما: الحاكم/ الوطن، لكن غالبا ما يتشكل على هاتين المفردتين مصير شعب أو أمة، فأما تعلو بهما الى القمة، وإما تنحدر نحو الحضيض، وقد يكون هناك مستوى ثالث هو تذبذب الامة او الشعب بين الاخفاق والنجاح تباعا.

فالوطن هو ركن أساس من اركان الوجود الانساني الفردي والمجتمعي في آن، وبغياب الوطن تغيب معه مقومات كثيرة وهامة تهم الفرد والمجتمع، وبحضوره تحضر تلك المقومات وتدعم الوجودين الفردي والمجتمعي في آن، فهل يمكن أن يغيب الوطن؟. وهل يمكن أن يحضر ويتجسد ماديا ومعنويا بهذا الحضور؟.

نعم يمكن أن يتلاشى الوطن، ومع هذا الغياب والتلاشي تغيب حقوق فردية وجمعية لا حصر لها، ولكن كيف يمكن أن يتلاشى الوطن؟.

التأريخ الذي قد يكون مقيتا وثقيلا ومؤذيا في بعض الأحيان يعطينا إجابات صحيحة ودامغة عن هذا السؤال من خلال التجارب العديدة التي يضمها في سجله الطويل، حيث يمكن أن تُختصَر الأوطان في أشخاص الحكام، فيتحول الحاكم الى وطن، أو بمعنى أصح يغيب الوطن ويتلاشى في شخص القائد السياسي الحاكم سواء كان فردا او حزبا او أي تكتل سياسي واضح ومعروف، وبهذا الغياب تغيب الحقوق المدنية للانسان وتتلاشى رويدا لتصبح في خدمة الحاكم حصرا.

وعندما نقلّب صفحات التأريخ سنعثر من دون عناء كبير على تجارب من هذا النوع شطبت على الوطن وألَّهَتْ الحاكم فصار بديلا للوطن وإن كان سفاحا وهاضما لحقوق الجميع أفرادا وجماعات. والمثال القريب على ذلك ما قاله اخيرا الرئيس الفنزويلي المثير للجدل هوغو تشافيز "انا الشعب" مطالبا "بالولاء المطلق" لقيادته ومؤكدا انه يجسد قلب وروح الشعب الفنزويلي وقال تشافيز "اريد ولاء مطلقا لقيادتي" واضاف "لست فردا واحدا، انا الشعب...

ولكن كيف ولماذا يصادر الحكام أوطانهم؟.

إن سحر السلطة وطبيعة التكوين البشري يجيبان عن هذا السؤال، فللسلطة سحر غامض لم يستطع أحد حتى اللحظة من معرفة سره، إذ أن كثيرا من الافراد الصالحين المتوازنين وحتى بعض المؤمنين منهم حين يكون خارج السلطة يبقى محتفظا بصفاته الانسانية الايجابية الراقية، ولكن ما يُمتَحن بالسلطة والكرسي والمنصب حتى نراه ينحدر شيئا فشيئا نحو التعالي والتكبر وتضخيم الذات والتمسك بالسلطة تحت شتى المبررات مستخدما جميع الوسائل المتاحة لتحقيق هذفه هذا حتى لو كان الامر على حساب حقوق الملايين من الناس.

وبذلك يتم دمج الوطن بشخصية القائد لدرجة التلاشي، وفي الوقت الذي يجب أن يتلاشى الحاكم في وطنه باعتباره فردا ينتمي إليه كسائر الافراد، يحدث العكس تماما، حيث يُصادَر الوطن ويُختصَر بشخصية الحاكم فيصير الحاكم وطنا لشعبه وهنا ستبدأ سلسلة المآسي والكوارث التي غالبا ما تكون من حصة الفقراء والضعفاء تحديدا، وحين ذاك سوف لايجد هؤلاء وطنا يحترم حقوقهم ويحقق لهم أبسط مقومات المواطنة، حيث الغياب الكلي للعدالة والمساواة والتعامل المختّل في عموم جوانب الحياة، فلا وجود للتعليم الجيد ولا تتوفر الموارد المناسبة التي تكفي ليعيش الفرد بكرامة، ولا وجود للحقوق المدنية أو السياسية، وليس ثمة حق في حرية التعبير أو الادلاء بالرأي في هذا المجال او ذاك، وهكذا تتلاشى هذه الحقوق مع تلاشي الوطن وتغييبه القسري في شخص القائد الذي يرى ويعتقد بل (ويؤمن) بأنه أصبح المصدر الاول والأخير لديمومة حياة الشعب.

إذن هكذا يمكن للسلطة أن تحوَّل الحاكم المتجبّر الى وطن مسلوب الارادة والرأي، محطما ضعيفا قائما على القسر والاجبار، يغيب عنه الابداع وتهرب منه الكفاءات ويبقى ساحة شوهاء يعيث بها الحاكم الفرد وجلاوزته في مصادرتهم لحقوق الشعب كافة من خلال مصادرة الوطن ودمجه او تغييبه كليا في شخص الحاكم.

ولعل الكارثة الكبرى تكمن في تكرار هذه الحالة وعدم إتعاض الافراد الحكام من تجارب التأريخ لاسيما في البلدان الأكثر جهلا وتخلفا، فحين يكون الفرد خارج دفة الحكم نراه يتطلع الى تحقيق أهداف الشعب او الامة في التقدم والتطور والعيش الكريم وما شابه ونراه حالما من الطراز الاول في هذا المجال، لكن المشكلة تبدأ من اليوم الاول لتربعه على عرش السلطة إذ سرعان ما ينسى او يتناسى بل ويتنكر لما كان يؤمن ويصرح به قبل أن يُصبح حاكما، حيث تتنامى لديه نزعة التسلط وتحوله بعد حين الى متجبّر لا يستطيع أن يقبل بوجوده خارج هذه السلطة فيتشبث بها باستماتة، ولنا في قادتنا العرب الآن أمثلة واقعية على ما ذهبنا إليه وكذلك في بعض البلدان التي أنهكها الجهل والعوز.

لذا فإن مهمة الشعوب تكمن في التصدي للحكام الذين يهدفون الى مصادرة أوطانهم، ولا يتم هذا إلا بالوعي السليم ونشره بين عموم الناس والعمل المبرمج على إشاعة تداول السلطة سلميا وابتعاد الافراد والاحزاب عن مسخ شخصية الوطن لصالح الفرد او الحزب الحاكم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 2/أيار/2010 - 17/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م