نزع الزيتوني ولبس الزبوني

ثقافة اللباس والأزياء في العراق

 

شبكة النبأ: جميع ما يحيط الإنسان في بيئته يساهم في تشكيل شخصيته ومعتقداته وقيمه، فالفضائل أو الرذائل التي تتفتح عليها عيناه داخل اسرته عند الطفولة مرورا بالشارع والروضة والمدرسة وحتى مراحل متقدمة من الدراسة او الحياة الخاصة او العامة كلها تسهم في تشكيل تلك السمات التي سميت بالشخصية.

والأزياء واحدة من هذا المجموع الكلي المحيط بالانسان في بيئته والذي يحدد بعضا من الملامح والاطر الخاصة لشخصيته، اضافة الى ميزة المغالبة للازياء التي يرتديها الانسان لعوامل الطبيعة من حر وبرد تساعده على التكيف مع كافة المناخات التي يعيشها في يومه.

الزي لغة تحكي وتعبر. وهي تكشف عن مستوى طبقي او تعليمي او مهني. .فهي بالتالي علامة دالة على ثقافة معبرة بلغتها وادواتها تطبع المنتمين اليها بطابعها الخاص.

خذ الدشداشة والعقال في المجتمع العراقي والتي تشير في سنوات ازدهارها الى الاصول العشائرية والفلاحية لمرتديها والتي انحسرت من مشهد الازياء بعد انتشار البنطلون والقميص والذي عرف مرتديه بالافندي وهي كلمة تركية اقتبست من اليونانية وتعني السيد او المولى او المعلم او الفاضل وقد اطلق الاتراك هذه اللفظة على سائر موظفي الحكومة وعلى الادباء والعلماء وياتي لقب الافندي بعد الاسم مباشرة فيقال مثلا احمد افندي اي السيد احمد حسب تعبيرنا حاليا. وقد الغي هذا اللقب في العراق على عهد وزارة ياسين الهاشمي وحل محله السيد.  

والتي ترافقت مع ارتداء الطربوش تاثرا بالاتراك وكان الطربوش رمزا وعلامة للتأثير التركي الذي طبع الازياء والثقافة العراقية في بداية القرن المنصرم.

والسدارة، وهي من ملبوسات الراس الحديثة نسبياً وتمتد بتاريخها الى عشرينيات القرن العشرين حين ارتداها الملك فيصل الاول المتوج على عرش العراق في آب 1921، ارتداها الملك فيصل واتخذها رمزاً لتوحيد زي الرأس، ولكن لن تجتمع الرؤوس في زي موحد وزيادة في ترغيب الرجال بالسيدارة غنى لها مطرب العراق محمدالقبانجي(بستة) يقول مطلعها: يا حلو يا بو السدارة متيمك سوي له جارة غير ان الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي وهو المعتاد على لبس العقال المقصب اغتاظ من السدارة غيظاً شديداً حتى انه ينقل عنه القول: يا بو عكال لا تنقهر كل السداير(..).

كانت السداير في بدء انتشارها تستورد من خارج العراق، الا انها صنعت عراقياً وعملت من الجبن المكبوس او المضغوط، وهي على عدة الوان منها السوداء والقهوائي والرصاصي والنيلي وقد لبسها من اطلق عليهم لفظة (الافندية). و الكشيدة: من اغطية الراس ايضاً كان يعتمرها الحجاج والوجهاء وآخرون يلف قماش مطرز بالحرير الاصفر كلبدون على طربوش احمر، يبلغ القماش طولاً ذراعاً او اكثر وبعد ان يلف دائرياً يخرز بالدبابيس وبنسق حول الطربوش الاحمر وبشكل متناسق ومتماسك، وكان الكتبي محمود قالبجي في سوق السراي يعمل قوالب الكشايد، لذا اطلق عليه قالبجي.

وقد انتقد النائب عزت الشابندر القائمة العراقية التي كان ينتمي اليها، وهي المعروفة بانها قائمة علمانية، قال : كبف تكون القائمة العراقية علمانية والناطق الرسمي لها يرتدي كشيدة ، في اشارة الى رضوان الكليدار.

 ومن ملبوسات الراس القبعة الغربية وبأنواعها الكثيرة والفنية والبيرية والكاسكيت والكلاوات باشكالها المختلفة والكليته وملبوسات كثيرة لا تعد ولا تحصى حتى يحار المرء ماذا يطلق عليها من اسماء.

وزي الافندية اقتصر على الطبقة الميسورة في المجتمع العراقي من الموظفين الحكوميين والمعلمين والسياسيين والتي اخذت على عاتقها حركة التنوير في المجتمع العراقي اضافة الى الترويج لبعض الافكار والمدارس الفكرية والسياسية في تلك الفترة. .وقد انحسرت الدشداشة والعقال نتيجة لعمليات التحديث التي طالت المدينة العراقية لتعود الى الانتعاش من جديد في سنوات الحصار واستشراء ثقافة القرية (وهي العوجة هنا تحديدا) وبروز المجموعات العشائرية عبر (شيوخ الانابيب) كما كان يطلق عليهم.

واصبحت الدشداشة في العام 2003 رمزا وعلامة مغايرة لحكومة القرية قبل ذلك التاريخ وهي رمز العشائرية الاصيلة التي يتوجه اليها الساسة العراقيون لخطب ودها من خلال كسب الاصطفافات والولاءات عبر العطايا المالية والعينية، (ولائم - توظيف افراد العشيرة-هدايا) بالترافق مع هذا عادت طبقة الافندية بعد انحسار دورها الاجتماعي الثقافي(اندثار الطبقة الوسطى)، وهذه المرة ببروز اكثر وضوحا من خلال البدلات الرجالية المستوردة التركية والصينية مع اربطة العنق لتكون علامة فارقة على البحبوحة الاقتصادية المتحصلة نتيجة ثقافة الغنيمة التي استعارها ابن المدينة من ابن الريف، وحصص الوظائف والامتيازات التي حملها الوضع العراقي الجديد بالاضافة الى ذلك شهدت هذه المرحلة عودة الغزل السياسي للجمهور العراقي والعربي من خلال التأكيد على ارتداء الدشداشة من قبل السياسين لاعلان موقف معين او تسجيل حضور لدى المشاهد على الفضائيات، وشاهدنا جميعنا معظم ارتداء رموز النظام السابق للدشداشة والعقال العربي في جلسات المحكمة الجنائية الخاصة.لتوجيه خطاب الى المشاهد العربي بالضد من خطاب المحتل الامريكي.

وقد حذى حذوهم طارق الهاشمي والذي تتوسط صورته بالدشداشة والعقال العربيين جريدته (تجديد) وقبله هادي العامري القيادي في المجلس الأعلى.

اللباس الذي يلبسه الناس صورة ثقافية لها معانيها ولها دلالاتها التي لا تخفى على العين.

ان اللباس يعلمنا الحقائق او هو يطمس علينا الحقائق بل هو يفعل الشيئين معا حيث يخفي ويستر وفي الوقت ذاته يكشف ويعلن. . انه يستر مايجب ستره من الجسد لكنه يعلن في الوقت ذاته عن اللابس عن جنسه (جنسها) وبلده وطبقته وعن زمنه قديما وحديثا وعن وقته شتاءا او صيفا مثلما ينم عن ثقافته وحالته المادية والاجتماعية وقد يستعمل للايهام بذلك كله ويكون حينئذ مجازا او كناية او خدعة او نكتة.

اعتمد الناس اللباس يوصفه صورة لهم وبوصفه تصورا عن الاخرين وهذا مصدر القيمة الثقافية للباس. واللباس علامة تمييز وفرز اجتماعي. كما يرى ذلك الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه (الثقافة التلفزيونية سقوط النخبة وبروز الشعبي).

منذ العام 1979 انتشر الخاكي بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية، بعد ان كان مقتصرا على المعسرات الطلابية الصيفية، وقد مثل نوعا من الزهو لمرتديه في بداية الحرب حين كان التقدم العراقي سريعا باتجاه الداخل الايراني وقد طبعت هذه الفترة العراقيين بطابعها الخاص عسكريين ومدنيين واخذت تفرض تبدلاتها الايديولوجية والاجتماعية والثقافية، فقد تم تعبئة كل الجهود والموارد لخطاب السلطة التعبوي وازدهرت الاغاني الوطنية وازدهرت قصائد الشعراء المتوجة على رؤوس القتلى والام المصابين والمعاقين روحيا وجسديا. وتم استقدام العمالة المصرية بدرجة كبيرة لسد النقص في اعداد الموظفين واليد العاملة في القطاع الخاص المساقين الى جبهات القتال وكانت كثافة الخاكي تراها في مراكز النقل في المحافضات اضافة الى شوارع المحافظات الرئيسية يومي الاثنين والخميس والتي تسمى بايام النزول.

والخاكية كما يراها الاديب العراقي عباس خضر في كتابه (الخاكية من اوراق الجريمة الثقافية في العراق) ثقافة خاصة ونقصد بها الثقافة العسكرية، هذه الثقافة كانت ولا زالت سرطانا ينخر في الثقافة الانسانية سرطانا وطاعونا روحيا له وجوه متعددة ويظهر في صور كثيرة ومختلفة.

الخاكية وعي خاص وقيم خاصة تلبس بشرا وتحركهم ضمن تحولاتها ووفق رغباتها وليس البشر فيها سوى مكملين للعماء الخاكي، ربما واحدة من المشاكل التي وقع ويقع فيها من ينتقد ثقافة وادب السلطة مشكل اهتمامه بالمثقفين اكثر من اهتمامه بالثقافة التي تشكل هؤلاء اقصد السرطان الثقافي العسكري البوليسي الذي طال هؤلاء وشكّلهم باشكاله.

ان الفرد الخاكي ليس سوى جزء من السرطان الخاكي يمكن للخاكية ان تنتج امثاله بالالاف، فالفرد الخاكي هو مجرد تمظهر للخاكية وهو من احتياجات الخاكية بنفس الوقت، يعني هذا بانه يشارك فعليا في تأصيل هذه الخاكية حتى لو كان مجرد تمظهر لها لكنها اي الخاكية تبقى الخراب الاكبر والفرد الخاكي مجرد رقم في فيلق عسكري.  

ترافق ذلك مع ظهور الزيتوني بعد سنتين من بداية الحرب من خلال رجال الامن والمخابرات والرفاق البعثيين الذين كانت مهمتهم البحث عن الهاربين من الخدمة العسكرية وجبهات القتال.كانت وظيفة الزيتوني في الشارع هي وظيفة الصياد الذي يبحث عن فريسته. وهي وظيفة بوليسية بامتياز.

وقد ارتدى صدام حسين الزي العسكري (الزيتوني) في بداية الحرب العراقية الايرانية ولم يخلعه غير مرات قليلة.

وكان هذا اللون متماهيا بامتداداته مع اللون الذي حرص على ارتدائه القادة ورجال المخابرات والذين كانو لا يبارحون شاشات التلفاز الحكومي في ساعات بثه وهؤلاء القادة يودعون المتوجهين الى جبهات العذاب والجحيم.

 وكان ان خيم الخاكي بظلاله الكثيفة على الجبهات. وخيم الزيتوني على بقية مفاصل الحياة داخل المدن.

وقد اعطيت للزيتوني سلطات مطلقة تفوق سلطة الخاكي رتبا ومقامات، فكان صاحب البدلة الزيتوني يكتفي بأشهار هذا اللون علامة دالة على موقعه بدون اظهار نجومه الذهبية على كتفه، ان كان برتبة ضابط، او يكفيه اشهار هذا اللون ان كان برتبة ادنى.

وكانت سلطة الزيتوني الواسعة تتيح ايقاف اي رتبة خاكية واعتقال صاحبها في السيطرات او الوحدات العسكرية وامتد اثر هذه السلطة الى القطاعات المدنية، مؤسسات حكومية ودوائر ومدارس وجامعات وحتى ساحات الاعدام للمتخاذلين كما سمي الفارون من الخدمة العسكرية وغيرهم.

كانت أبرز تجليات هذا الزيتوني هي اظهار السلطة عبر القوة المفرطة في قسوتها عنفا لفظيا او معنويا اتجاه الاخرين وكانت لا تكتمل صورة الاناقة الزيتونية دون حمل المسدس وارتداء الحذاء ذو اللون الجوزي او القهوائي والذي كان هذا اللون ايضا يعكس التراتبية العسكرية في الجيش العراقي حيث كان اللون الاسود يقتصر ارتداؤه على المراتب العسكرية الاقل رتبة.

وما قيل عن الخاكي وتوصيف ثقافته كما رأى ذلك عباس خضر يمكن قوله عن الزيتوني ايضا.

الزيتوني انتقل بالكثير من تمظهراته الثقافية الى قطاعات واسعة من الجيش والشرطة بعد العام2003 وان اختفى لونه من المشهد بالكامل.

وقد امتد الولع بالخاكي وثقافة الزيتوني الى الجيل الحالي الباحث عن وظيفة عسكرية له بعد العام 2003 وقد اصبحت وزارة الداخلية والدفاع من اكثر الاوزارات وظائف وتعيينات في العراق الجديد.

نزل الخاكي الى الشوارع العامة تقليدا للباس الغازي في الكثير من مفرداته وادواته الا فيما يتعلق بالانضباطية والحرفية العالية التي يتمتع بها افراد القوة الغازية.

وقد شعر العراقيون بالارتياح بداية نزول الخاكي العراقي جهرا الى الشوارع بديلا من الخاكي الأمريكي لأنهم (أبناء بلدنا وهم عراقيون مثلنا) وهو نوع من الحنين او النكوص الى مرحلة سابقة، مرحلة الخنوع القسري لسلطة هذا الخاكي والخوف منها.

في العام 2004 وبعد ان وضعت معارك الفلوجة اوزارها نقل مراسل القدس برس في بغداد: إن مشاعر من الفرح والسرور، صاحبها تصفيق حار في مقاهي العاصمة، حينما بثت وسائل الإعلام صورا للواء جاسم محمد صالح، وهو يترجل من سيارته في الفلوجة، بينما كان يرتدي زيه العسكري التقليدي الذي كان يرتديه عناصر الحرس الجمهوري إبان حكم النظام السابق فقد أثار ذلك حنينا إلى تلك الأيام التي أصبحت جزءا من الـمخيلة العراقية.

وقد نقل قول احدى نساء الفلوجة (أشعر بالرضا على ما تحقق، لقد كنت سعيدة ليس بقرب عودتنا إلى الـمدينة فقط، ولكني حينما رأيت الضابط العراقي بلباسه الزيتوني بكيتُ وشعرتُ بالفرح).

عاد من عاد من الجيش السابق الى صفوف الجيش والشرطة الجديدين ودخلت دماء جديدة الى هاتين المؤسستين.

المجموعة الاولى حافظت على تقاليد هذا الخاكي وطقوسه والثانية اخذت تستوعب بسرعة هذه التقاليد والطقوس، واستبدل لابس الزيتوني سواء كان في الجهاز الامني او الجهاز الحزبي لباسه بلباس يتناسب مع المرحلة الجديدة تماشيا مع هذه التغيرات التي حدثت.

المحظوظون اصبحوا قادة لاحزاب او جمعيات او مجاميع وتغيرت تبعا للزي الشعارات واللافتات ولكنها في النهاية لم تستطع ان تلغي تلك النوازع نحو السلطة والتسلط على الاخرين ومحاولة الغائهم من المشهد الجديد او حتى إلغائهم من الوجود نفسه.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17/نيسان/2010 - 2/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م