أجر الرسالة الخاتمة

بحوث في (الأجر) و(المودة)

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد الله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:( تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ ﴿22﴾ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).[1]

الحديث حول آية المودة حديثٌ مُتشعِّب الأطراف، ودقيقٌ، وعميقٌ فلنقتطف بعض الورد من روض، ورياض هذه الآية القرآنية الشريفة، ولنتوقف عند محطات.

استخدام القرآن مصطلحات التجار

المحطة الأولى: لماذا استخدم سبحانه وتعالى كلمة (الأجر)؟ (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، مع أن المودة أمر معنوي، وأمر قلبي، ولا يقبل المعاوضة والتبادل، كما أن الرسالة أمر تشريعي، وأمر معنوي، وروحي وروحاني، لا يقبل التبادل والمعاوضة، ولا يصح في بادئ النظر إطلاق كلمة (الأجر)، و(الثمن)، و(المثمن) أو ما يستدعي معنى الثمن، أو المثمن، أو ما يتوقف على الثمن والمثمن، فإن (الأجر) هو الثمن والطرف الآخر هو المثمن..

والإجابة على هذا السؤال: هي إجابة مفيدة، ولطيفة، وعامة، وتوضِّح لنا أيضاً الفلسفة من استخدام مصطلحات (التجار) و(الكسبة) وهي: أن الله سبحانه وتعالى -عندما نتتبع القرآن الكريم - نجده كثيراً، وفي مواطن عديدة يستخدم عبارات التُجار، يستخدم مصطلحات السوق، يستخدم ألفاظاً تُستخدم في الأسواق، وفي المعامل، والشركات، والدكاكين عادةً، وإذا دققنا نلاحظ أن القرآن الكريم هكذا يخاطبنا الآية الأولى، تقول:(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)[2]

هذا اصطلاح يرتبط بالبيع، والشراء، بالتجار، بالكسبة، بالسوق لكن الله استخدمه في أثمن شيء :(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)، هذه آية قرآنيةً كريمة.

أما الآية الثانية في هذا الحقل، فتقول:( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ).[3]

إذن ههنا نجد تصريحاً بكلمة (التجارة)، وتفصيلاً لمفرداتها، حيث ههنا طرفان للتجارة هما (يَتْلُونَ كتابَ اللهِ) هذا طرف من أطرف التجارة، هذا هو المثمن (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) والطرف الآخر هو (الثمن):( يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴿29﴾ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).[4]

الآية الثالثة: قوله تعالى في آية أخرى(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)[5] فـ(الضلالة والهدى) ثمن ومثمن احدهما بـِيعَ، والآخر أشتُريَ، وكذا العذاب والمغفرة، وهنالك عملية شراء (اشتروا).

الآية الرابعة: قوله سبحانه تعالى:(وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[6] وهنا نجد التعبير الصريح بكلمة (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ).

الآية الخامسة: و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿10﴾ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿11﴾ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).[7]

فالمثمن أي البضاعة هو (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) و(وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) والثمن هو: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) من جهة، وهو جزء الثمن والأجر ومن جهة ثانية، فإن الجزء الآخر للثمن هو(وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً)..

إذن الله سبحانه وتعالى خُلُقه أو أسلوبه أو دأبه - إن صحَّ هذا التعبير- في القرآن الكريم استخدام مصطلحات رائجة (وسيَّالة) في الأسواق، وربما وردت كلمة (أجر) في القرآن في ثلاثين، أو أربعين موضعاً، وكلمة (الأجر) هي موطن الشاهد في الآية الشريفة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا).

كلمة (أجر) مُكررة في القرآن الكريم في مواطن عديدة في هذه الأمور المعنوية كقوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)[8]

وكقوله جل اسمه: (وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[9] (وَإِن تُؤْمِنُواْ) فالأيمان أمر معنوي، (وَتَتَّقُواْ) أمر معنوي(فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

هذه المحطة الأولى للتوقف، وهي: إن الله سبحانه وتعالى يستخدم هذه المصطلحات في القرآن الكريم، في مواطن كثيرة - ربما بالعشرات- أي مصطلحات الأسواق، مصطلحات التجار، مصطلحات التبادل التجاري، وما أشبه ذلك.

الحكمة في استخدام مصطلحات التجار

والسبب في ذلك يحتاج إلى بحث طويل، لكننا نشير هنا إشارة بالمقدار الذي يرتبط بالآية القرآنية الكريمة فنقول: لعل السبب في ذلك يعود إلى مجموعة من النقاط:

1. الأدب التصويري أوقع في النفس

السبب الأول: أن الله سبحانه وتعالى يستخدم في كتابه ما نعبر عنه في الأدب بـ(الأدب التصويري)، أي أنه تعالى يستخدم ما يثير القوة المتخيلة والقوة المتوهمة ويدغدغهما ويفعّلهما كثيراً، وهذا نوع راقٍ من الأدب وهو الأدب التصويري.

والأدب التصويري أكثر وقعاً في النفوس، وأدعى للانقياد.

وإذا تأملتم القرآن الكريم تجدونه يستفيد من (قوة الخيال) إضافة لاستفادته من القوة المتعقلة في المئات من المواطن، وهكذا نجد أن (الأدب التصويري)، في كثير من آيات القرآن الكريم، يستخدم بشكل عجيب، لأن ذلك أدعى للانقياد.. ونفس هذه النقطة تحتاج إلى ساعات من الحديث، لكن نكتفي الآن بمقدار الإشارة هذه.

2. أتمُّ للحجة، وأدعى للعقوبة

السبب الثاني: إن ذلك أدعى للعقوبة، وأكثر إتماماً للحجة، لأن الله سبحانه وتعالى، عندما يُجسد المعنى المعقول، في المعنى الملموس؛ وهو ما يعبر عنه بـ(تشبيه المعقول بالمحسوس) ونحن نعبر بـ(قولبة المعقول، بالمحسوس) - والمصطلح المعروف في البلاغة هو تشبيه المعقول بالمحسوس- لكننا نعبر هنا بـ(قولبة) و(تأطير) المعقول بالمحسوس، أي المعقول نعطيه إطاراً حسيَّاً، ونجسده في شكل يمكن أن يرى أو يُحس (فلَهُمْ أَجْرٌ).. (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى).. (فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ) وهكذا وهلمَّ جراً..

إن قولبة وتأطير المعقول، في إطار المحسوس، أدعى لقوة الحُجة، وأتم للحجة على الطرف لو خالف (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، و(نحن نعرف أن أحدهم إذا لم يدفع الأجر فهو خائن، ومجرم، فهو يستحق العقوبة)، الله سبحانه يستخدم هذا المصطلح المأنوس في أذهاننا لكي تنعكس هذه الظلال والأبعاد، التي نحن نأنس بها، ونألفها، ونعرفها، ونعاشرها، على الآية الشريفة، فنعرف فداحة الجريمة، لو تخلينا عن دفع هذا الأجر، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فالذي لا يدفع الأجر هو خائن، ساحق لضميره، ووجدانه، فكيف بمن لم يدفع الأجر الذي طلبه الله سبحانه وتعالى؟

هذه هي العلة الثانية وهي: إن الله سبحانه وتعالى يريد أن تكون الحجة أتم، وأن تكون الحجة ادعى للعقوبة، وأكثر تأثيراً أيضاً.. أي أن يكون (التهديد بالعقاب) ذا مفعول أقوى ويكون أكثر تأثيراً، فهذه إذن هي من العلل التي يمكن أن تذكر لهذا النوع من التعابير الكثيرة في القرآن الكريم..

3. أن ترتبط الفكرة بحياتنا اليومية

السبب الثالث: هي أن تتشابك حياتنا، وتترابط مع هذه المفاهيم السامية التي صيغت في قوالب وأشكال نواجهها يومياً؛ فالأجر مما نتعامل معه يومياً، فالبقال، والعطار، والخباز وكذا الطبيب والمهندس والمحامين وكذا الأب والأم والطفل والشيخ، كلهم يواجهون يومياً أو يرون أو يسمعون عملية (بيع وشراء) أو (أجر وثمن) أو (تجارة) أو ما أشبه، فكأن الله يريد أن يذكرنا آناء الليل، وأطراف النهار: بأنه يطالبنا بالأجر الذي أراده منا وهو (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؛ مقابل عظيم ما منحنا إياه (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وذلك كالمالك البائع الذي يطالب المشتري بالأجر، فالله سبحانه وتعالى قد ربط هذا المفهوم النظري (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، بمعنى يتجسد يومياً أمامك، ربما عشرات المرات أو للبعض: مئات المرات، فقد ربط ذاك المعنى بشيء متجدد باستمرار أيضاً، وقد تكون هذه من الحِكم - والحديث طويل- ولكن هذا المقدار يكفي في أتمية الحجة علينا، وفي أن نكون أسلس قياداً لله سبحانه وتعالى فيما طلبه منا من الأجر وهو (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) هذه المحطة الأولى للتوقف..

فلسفة استخدام (في) دون (اللام) في آية المودة

المحطة الثانية: وقد حيَّرتني قليلاً، وراجعت بعض التفاسير (مجموعة منها) فلم أجد لها جواباً، فبقيتُ أفكر، لماذا استخدم الله سبحانه وتعالى حرف (في) ولم يستخدم (اللام)؟ (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، والمفروض حسب الاستخدام المتداول عادةً هو استخدام (اللام) (إلا المودة للقربى) وليس (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

نحن نقول عادة: مودتي لك، ولا نقول: مودتي فيك.. أقول: مودتي لابني، مودتي للعالم، محبتي لك؛ ولا أقول: محبتي فيك، عادةً..لماذا؟ لنكتة دقيقة جداً سنشير لها إن شاء الله..

واللام هنا في قولنا: مودتي لك تفيد الاختصاص فإنها وإن كانت تأتي لمعاني عديدة إذ:

واللام للملك وشبهه

وفي تعديةٍ أيضاً وتعليلٍ قُفي

إلا أن قرينة الحكم والموضوع تشهد بأنها للاختصاص.

ولكن (في) هي (ظرفية) حسب الظاهر، مثلاً تقول: زيد في الدار.. وكان المفروض حسب الاستخدام المتداول أن يكون التعبير هكذا (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) هذا مختص بهم، هذا حق لهم فلماذا قال: (المودة في القربى)؟ وأؤكد موضحاً مرة أخرى إنك تقول: مودتي لك، أو للملائكة أو للسماء، أو للورد مثلاً بدلاً من أن تقول: مودتي في الورد، أو في السماء، أو مودتي في العشيرة.. عادةً تقول مودتي (لـ) وليس (في)، أي تقول مودتي لعشيرتي، مودتي لابني، مودتي لولدي، أو (لبلدي مودتي) مثلاً.. لا أقول مودتي (في)، فلماذا استخدم في هذه الآية حرف الظرف (في) مع أنه في آية قرآنية أخرى - تأملوا فإن الله سبحانه وتعالى دقيق جداً في تعابيره- استخدم (اللام) فقال: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).[10]

فـ(ولذي القربى) ولم يقل (في القربى)، الآية هكذا (فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) وليس (في القربى) لكنه تعالى يستخدم في آية المودة حرف (في) على خلاف المتعاهد المعروف (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ) (ليس) للقربى، وإنما (فِي الْقُرْبَى).

فبقيتُ ليومين، ثلاثة، أفكر، بشكل متقطع، أثناء فواصل المطالعة او الكتابة، وأثناء المشي وبحثتُ في التفاسير الموجودة عندي، فلم أجد تطرُّقاً لهذا السؤال، لذلك استخدمتُ طريقة (التفكير المتقطع) - وهذه طريقة مهمة في التفكيرـ وعادةً أفكر بهذه الطريقة، عندما أريد استجلاء سرّ ما قد استغلق علي، أي لا أتوقف عند مسألة أفكر فيها لساعة أو ساعات، بل أفكر دقيقتين ثلاثة، ثم أتركها إلى الليل، ثم أفكر دقيقتين ثلاثة، أتركها للغد، دقيقتين ثلاثة وهكذا..هذا الأسلوب أثبت جدواه بشكل غريب في أي عمليةً للتفكير الإبداعي فإنه يستدعي وقتاً أقل، وانجازه الإبداعي أكثر بكثير- إلى أن فتح الله سبحانه وتعالى بمعنى دقيق نعرضه بخدمة السادة الأفاضل، ونستفيد منهم أيضاً في الجرح والتعديل أو الإضافة:

(المودة) لأناس داخل دائرة القربى فقط

(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، التعبير دقيق إلى أبعد الحدود (ليس) للقربى، إذ الله لا يريد المودة (للقربى) بقول مطلق، بل يريد المودة (في) القربى فقط، إذ (القربى) كمجموع وكجميع[11] لا موضوعية لهم، وإنما الذين لهم الموضوعية هم مجموعة معينة داخل إطار القربى، فَهُم (فِي الْقُرْبَى) فلذا قال الله تعالى (فِي الْقُرْبَى) ولم يقل (للقربى).

وبتعبير آخر هناك دائرة اسمها دائرة (القربى)، الله بقوله هذا في الواقع، يثبت شيئاً أي المودة في داخل الدائرة، ولا يثبت ذلك الشيء لكل الدائرة، كما أن مَن هو خارج الدائرة كأزواج النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) أجنبي عن الآية بالمرة..

توضيح ذلك: إن كل (الدائرة) بما هي هي، ليست هي المطلوبة، وكما أنها ليست (بما هي) مرفوضة، هي حياد في هذا البحث، فالله سبحانه وتعالى، يقول: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ).. (هذه المودة أين ظرفها؟) (فِي الْقُرْبَى(.. وبذلك نعرف أولاً: إن كل دائرة القربى ليست هي المطلوبة، وثانياً: إن مَن هم خارج دائرة القربى ليس المطلوب مودتهم أيضاً.

(نساء النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)) لسن من القربى

فأبو بكر، عمر، عثمان وأشباههم، أجانب عن هذه الآية القرآنية الكريمة، وعن مفاد أجر الرسالة، وهو المودة (فِي الْقُرْبَى( فإنهم خارج دائرة (الْقُرْبَى)، وكذلك نساء النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس لهن ربط بالموضوع، هنَّ أجنبيات عن الآية وعن طلبه، المودة (فِي الْقُرْبَى(، وهنَّ خارج دائرة القربى، فالآية فيها جانب إثبات ليس للدائرة نفسها، وإنما لجمع مبارك هم في داخل الدائرة، وهم أهل البيت (عليهم السلام) كما سنوضِّح لاحقاً؛ كما أن مَن هم ليسوا من (الْقُرْبَى) كنساء النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) ليسوا في داخل هذه الدائرة قطعاً، وهو أمر بديهي، ولكن ومِن هوان الدنيا على الله أنه صار البعض ويا للأسف يُشكك في البديهيات، كما شكك الشيوعيون في أصل وجود الله سبحانه وتعالى أيضاً، وكما يحاول أناس تشكيك الموالي في ولاية أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام)، وكونه هو الخليفة الأول بلا فصل وذلك مما لا ريب فيه ولا شكٌ يعتريه كما أن الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) هو خاتم الأنبياء بدون ريب، لكن الزمان، والجهل المطبق، يلجأ الإنسان لأن يستدل على البديهيات بأدلة..

ويشهد لذلك صحيح مسلم

هذا صحيح مسلم المعروف، وفي بحث فضائل الصحابة، والرواية على حسب هذا الترقيم/ 6307/، قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله وحبل الله، من أتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، وفي الرواية فقلنا: مَنْ أهل بيته؟ نساؤه.. قال: لا..)

هذا ليس راوياً شيعياً بل (صحيح مسلم) يقول: قلنا مَنْ أهل بيته، نساؤه؟ قال: لا؛ وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها.. أهل بيته أصله وعصبته الذين حُرِّموا الصدقة بعده..

كلا؛ فالمرأة أجنبية، وقد ارتبطت بالإنسان بارتباط سببي وليس نسبياً، ثم يطلقها فتنفصل، وأما القريب فلا يمكن أن ينفصل، (ابن عمك)، ابن عمك مهما صنعت، و(ابنك)، ابنك مهما صنعت، لكن الزوجة امرأة أجنبية من حيث (القرابة)، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها (أهل بيته أصله وعصبته الذين) استشهاد آخر (حُرموا الصدقة بعده).. وفي رواية أخرى: هل نساؤه حُرمنَّ الصدقة؟ الجواب: كلا؛ هذه الرواية أيضاً موجودة في صحيح مسلم..

فبناءً على هذا: الله سبحانه وتعالى يقول: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا) في هذه الدائرة.. أي دائرة القربى و (فِي) ظرفية وأما خارج الدائرة، فكلا.. نساء النبي، كلا، أصحاب النبي، كلا، المطلوب كأجر للرسالة: هو (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) هذا النفي.

ثم ننتقل للإثبات في قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، ونفهم من (فِي الْقُرْبَى) أنه يوجد في داخل هذه الدائرة ناس تجب مودتهم! لا كل قريب، وإلا أبو لهب أيضاً قريب، أبو جهل أيضاً قريب، فإذا قلت مثلاً: محبتي لقبيلتي، صارت للقبيلة موضوعية، أما في المودة فليس الأمر كذلك.. فإن محبتنا لقربى الرسول ليست بما هم قربى الرسول حتى لو كانوا كفاراً فجاراً كأبي لهب كلا.. المحبة لهم ليست بهذا اللحاظ بما هو هو، مع قطع النظر عما اتصفوا به من قيم، ومبادئ، ومُثُل عليا..

تقول: محبتي (لعشيرتي) هذا جهل، لكنك لو قلت: مودتي (في عشيرتي) وكان فيها أناس أخيار فإن ذلك صحيح إذ يعني أن هناك أناساً في عشيرتي أودهم وأحبهم، هذا صحيح، الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يقول: (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

والآن يجب علينا أن نسأل: هذه المودة التي فرضت لثلة محدودة داخل (دائرة القربى)، هؤلاء الناس مَنْ هم؟

مودة مَنْ، في داخل دائرة القربى، واجبة؟

في آية ثانية وهي آية التطهير، يُجيبنا ربنا سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[12]

أهل البيت (عليهم السلام) هم داخل (دائرة القربى) دون شك، فإنهم ابنته الزهراء وسبطاه الحسن والحسين وابن عمه علي بن أبي طالب ثم سائر الأئمة (عليهم السلام) وصولاً للمهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)؛ وهؤلاء الأطهار هم الذين طلب الله سبحانه وتعالى مودتهم كأجرٍ للرسالة بالبرهان كما سيأتي أو لأنهم القدر المتيقن على أقل الفروض، فـ(أهل البيت) مِن القربى، وهم في القربى، هؤلاء هم المقصودون في هذه الآية القرآنية الشريفة، كما سنوضح ذلك أكثر أيضاً.. (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ) ليس للقربى وإنما (فِي الْقُرْبَى)المودة.. هنا نسألُ الله سبحانه: ولكن ما وضَّحتَ لنا يا رب مَنْ هم الذين يوجدون في داخل دائرة القربى، وأجر الرسالة هي مودتهم؟

ونتلقى الجواب: بأنهم أولئك المطهرون من كل رجس ودنس.. أي إنهم هم أهل البيت.. ولكن لماذا خصوص أهل البيت؟ نجد الإجابة الآية القرآنية الكريمة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) هؤلاء هم الذين يمكن ويعقل أن يكون أجر الرسالة مودتهم، هذا في القرآن الحكيم..

(حديث الكساء) في صحيح مسلم

ونسأل صحيح مسلم أيضاً، نقول: يا صحيح مسلم، ويا بقية الصحاح الذين تنكرون أو تتغافلون عن ذكر أكثر فضائل أهل البيت(عليهم السلام) إلا أن الله أبى إلا أن يُجري الحق على لسان الذين يكابرون ويعاندون نسأله ونقول: من هم أهل البيت؟ ونجد الجواب في صحيح مسلم حسب الطبعة التي عندي/ 1179 / وفي باب فضائل أهل بيت النبي، رقم 9/ 55 ورقم الحديث حسب ترقيم، هو / 2424/ حسب ترقيم آخر 6341 / 61..

(قالت عائشة: خرج النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) غداةً وعليه مِرط مرحّل (نوع من الكساء، أفرض مثل البطانية مثلاً أو ملحفة لكنها كبيرة، وعليه مرط مُرحّل أي مثل الرحّل) لونه من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله - تأملوا فلسفة التمثيل الخارجي لهذا المعنى- ثم قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).

هؤلاء هم الذين طلب الله مودتهم، إلا المودة (فِي الْقُرْبَى) لا (للقربى)، وهم الموجودون في داخل (دائرة القربى) الذين طلب الله سبحانه وتعالى مودتهم، كما تبيِّن الآية الشريفة الثانية، وعلماء العامة، وكتبهم تُصرِّح بأن المقصود بأهل البيت (عليهم السلام): هم محمد  (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي)داخل دائرة (الْقُرْبَى)، الذين هم أهل البيت الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام) الذين جعلت الرسالة متوازنة مع (مودتهم) إذ عُدّت مودتهم هي (الأجر) الذي طلب من الناس.

هذه المحطة الثانية، ولها أيضاً إضافات لكن نقتصر على هذا المقدار..

آية المودة دليل على أفضلية أهل البيت من كل الخلائق

المحطة الثالثة: وهي مهمة جداً؛ إن هذه الآية الشريفة تقدم دليلاً واضحاً على أن (الْقُرْبَى) الذين هم خصوص أهل البيت (عليهم السلام) هم أولاً:

أفضل خلائق الله سبحانه وتعالى على الإطلاق.

وهم ثانياً: المعصومون دون شك وريب، لكن كيف نستنبط من هذه الآية القرآنية الكريمة ذلك؟

أما أنهم أفضل الخلائق على الإطلاق فإن استنباطه من آية المودة واضح جلي، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً) عليه، على أيِّ شيء؟ على (الإبلاغ) لكل أوامر الله، على (البلاغ) لرسالات الله، على (الذِّكر) الذي هو القرآن الكريم، على (الرسالة)؟ فالله سبحانه وتعالى أراد - حسب إجماع المفسرين- من (عليه) أي (الرسالة)، أي (البلاغ)، أي (القرآن الكريم)، أي كل ما جاء به رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، فـ(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ)..

وعلى ذلك نقول: بأن مرجع الضمير في (عليه) أي المشار إليه بالضمير المتصل (الهاء) وهو الرسالة هو أحد الطرفين وهو المثمن وأما الطرف الآخر فهو الأجر، والطرف الأول هو أكمل ما يمكن في عالم التشريع، أي القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، فيجب أن يكون الطرف الآخر هو الأكمل أيضاً.

وبعبارة أخرى: القرآن الكريم هو قمَّة الكمال في عالم التشريع، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يطلب أجراً على (قمَّة الكمال في عالم التشريع)، فلا يُعقل بالنظر إلى حكمته، إلا أن يكون الأجر (قمَّةً في الكمال في عالم التكوين) وهم أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، وهذان هما (الثقلان) كما في الرواية الأخرى والتي تعضد هذا المعنى، قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله (هذا قمة عالم التشريع) وعترتي أهل بيتي.. قمة عالم التكوين.. ولو كان هنالك ما هو أفضل منهما، لكان اللازم أن يعبر عنه بالثقلين وأن يتركهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله فينا..

وبعبارة أخرى: لو كان جبرائيل، وميكائيل، وأسرافيل، ومن أشبه من ملائكة الله العظام، لو كانوا أعظم من (علي، وفاطمة، والحسن، والحسين وسائر الأئمة الأطهار(عليهم السلام))، لكان من اللغو، ومن خلاف الحكمة، أن يطلب الله سبحانه وتعالى أجراً على أعظم ما أنزله على الإطلاق وهو القرآن الكريم، أن يطلب أجراً إلا مودة جبرائيل، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا) ماذا؟ (إلا أعظم شيء) طبعاً، فالمقابل هو (على هذا أي على فرض كون جبرئيل ونظائره هم الأعظم من علي والأئمة(عليهم السلام)) إلا محبة جبرائيل، إلا محبة ميكائيل، إلا محبة إسرافيل، وما أشبه ذلك من عظام ملائكة الله..

والله سبحانه وتعالى لقاعدة (التناسب)، ولقاعدة (التجانس)، ولقاعدة (الحكمة) في التوازن بين المثمن والثمن، ولضرورة (علم الله) سبحانه وتعالى بالفاضل والأفضل، جعل الأجر خصوص (المودة في القربى) فكيف يُعقل أن يكون (المثمن) أفضل شيء على الإطلاق، ويطلب عليه أجراً لا يتناسب معه، أي أجراً مفضولاً؟ فهذا مما لا يُعقل، لأن قاعدة التناسب، قاعدة السنخية، قاعدة التجانس، قاعدة التوازن بين المثمن والثمن، تقتضي وتدل على أن (المثمن) كما كان أشرف شيء، وأكمل شيء، وأعظم شيء، وأجمل شيء، في عالم التشريع؛ فإن (الثمن) هو أيضاً مما يوازنه أي إنه أعظم شيء، وأشرف شيء، وأجلّ شيء، وقد حدد الله تعالى الثمن والأجر وهو مودة محمد وأهل بيته (صلوات الله عليهم جميعاً)..

آية المودة دليل على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)

وهذه الآية تدل أيضاً على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً، وذلك من وجهين:

أولاً: لقاعدة التوازن والسنخية

الوجه الأول: لقاعدة (التجانس) و(التوازن) و(السنخية)، فإذا كان القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكان الأشرف، والأكمل من كل الجهات، فالثمن والأجر ينبغي أن يكون الأشرف، والأكمل من كل الجهات، ومن أجلِّ مصاديق الكمال (العصمة) بدون شك.. فيمكن أن نستدل على العصمة بهذه الآية الشريفة، من باب التوازن والتجانس والسنخية بين الذي لا يأتيه الباطل، من بين يديه ولا من خلفه أي بين القرآن الكريم والرسالة المحمدية وهي الأشرف، والأكمل من جميع الجهات، وبين المعصوم من جميع الجهات أيضاً، والفرض: أن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يخلق المعصوم أي إن يخلق في عالم التكوين ما يوازن القرآن في عالم التشريع فإنه كما كان القادر على أن يخلق كتاباً وينزل ذكراً بذاك الكمال، فإنه القادر على أن يخلق عباداً جعل مودتهم أجراً على هذا الكتاب والرسالة، بذلك المستوى من الكمال..هذا الوجه هو وجه (التناسب).. و(السنخية)..

نعم لو ذهب جاهل إلى أن الله تعالى غير قادر على خلق معصومين يجعل مودتهم الأجر على الكتاب والرسالة، فإنه سيكون مضطراً حينئذ لقبول أجرٍ أدنى وهو مودة غير المعصوم فيجعلها أجراً للرسالة والإبلاغ والذكر الحكيم، وحيث إنه من البديهي قدرة الله تعالى على خلق المعصوم، فلا مجال لهذا التوهم بتاتاً.

ثانياً: للإطلاق الأحوالي والأزماني

الوجه الثاني في الاستدلال بآية المودة على (العصمة): هو (الإطلاق) في الآية الشريفة؛ الأحوالي والأزماني (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) الذين هم أهل البيت (عليهم السلام) فهل تودَّهم في حالة دون حالة؛ وفي زمن دون زمن؛ أو الآية مطلقة؟

الآية الشريفة مطلقة، بل هي شديدة الإطلاق (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) في كل الأزمنة وكل الحالات، وإذا كان الواجب مودته يعصي الله، أو يسهو، أو يخطئ في بيان الحكم الشرعي، فكيف أوده في تلك الحالة؟ من هذه الجهة وفي ههذه الحالة لا يحق لي أن أوده ولا يعقل أن يطلب الله تعالى مودته عندئذ لكنه تعالى أطلق بقوله (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فلم يقيد بحالة دون أخرى، فدل ذلك على أن المودة مطلوبة في كل حالاتهم، في كل الأزمان، في كل البقاع، وحيثما كانوا، وأنَّا كانوا، وحيث كانوا.. وذلك يعني عصمتهم في كل الأزمنة وفي كل الحالات وهو المطلوب، فهذه الآية أيضاً تعد من الأدلة على عصمتهم (عليهم الصلاة وأزكى السلام) وبهذين الوجهين..

وتبقى محطة أخيره في المقام في حديثنا المستعجل نظراً لتعدد النقاط، ولذا نختصر في استعراض البراهين، أو الأدلة، أو الإيضاحات، لتلك المعاني ونكتفي بحكمة، وعلم الأفاضل، والأعلام..

ما الطريقُ لمودة أهل البيت (عليهم السلام)؟

المحطة الأخيرة: في هذا السياق هي الإجابة على التساؤل الكبير وهو ما هو الطريق لمودة أهل البيت (عليهم السلام)؟ (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وإننا نقتبس الجواب من آية قرآنية ثانية، توضح ذلك، وترشدنا لطريق المودة.. كما أن هنالك رواية شريفة توضح الطريق.. فأنا أريد (أن أود) أهل البيت (عليهم السلام)، لكن ما هو الطريق إلى ذلك؟ المودة التي هي أجر الرسالة ما هو الطريق إليها؟ آية قرآنية، مع رواية تشرح هذا المعنى..

الآية تقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[13] و(الود) هو المصدر، والمودة هي اسم المصدر، فالود يساوي المودة بشكل عام[14]، مثل الحب والمحبة، الحب هو المحبة، والمحبة هي الحب، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)..أي مودة، فالطريق إلى (المودة) هو نفس الطريق إلى (الود) والطريق إلى (الود) هو الإيمان والعمل الصالح، فهذه الآية تشكل الإجابة على السؤال عن الطريق للوصول للمودة التي أرادها الله منا وسألها منا في آية المودة.

وإذا اتضح لنا أن (الود) هو (المودة) اتضح لنا معنى (المودة) على ضوء تفسير الإمام لـ(الود).

(المودة) هي ولاية محمد وأهل بيته (عليهم السلام)

إن واحداً من الوجوه التي فسرت بها هذه الآية الكريمة (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا )[15] أذكره لكم وسينفع في إيضاح معنى (المودة) و(الطريق إلى المودة).. إذ يُسأل النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم): عن الآية فيقول: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، أي ولاية علي وأهل بيته (عليهم السلام)[16]..

وجاء في الكافي الشريف أيضاً عن أبي بصير،قال: قلت لأبي عبد الله (عليه الصلاة وأزكى السلام) قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)..قال  (عليه السلام): (ولاية أمير المؤمنين، هو الودّ الذي قال الله)، تعالى فـي قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[17] يعني ولاية علي (عليه الصلاة وأزكى السلام).

فـ(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، يعني ولاية علي (عليه الصلاة وأزكى السلام)، وذلك لما سبق من اتحاد (الود) مع (المودة) فإذا كان (وداً) هو الولاية فإن (المودة في القربى) المطلوبة أجراً للرسالة، هي الولاية أيضاً والطريق إليها هو نفس الطريق (للود).

ثم إن (الولاية) تعني (الإتباع) لا مجرد الحب فإن (تولاه) أي (اتبعه) لا مجرد (أحبه).

الطريق للود والولاية هو: الإيمان والعمل الصالح

هنا نقتصر على بعض الإشارات؛ فإذا أراد الإنسان أن يُدرك ولاية أمير المؤمنين  (عليه السلام)، وإذا أراد أن يُدرك ودّ محمد وعلي والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام) ومودتهم، فالطريق إلى ذلك: الإيمان، والعمل الصالح.. إذ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا).

ثم إن الإيمان على درجات فكلما ازداد الإنسان إيماناً، ازداد مودّةً وولاية لأمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) والإيمان الحقيقي، هو ذلك، وكلما ازداد الإنسان عملاً صالحاً، ازداد قرباً ووداً وولايةً لأمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، أي ولاية لمحمد وأهل بيته  (عليهم السلام) مما يدل على أن الإيمان والعمل الصالح من العلل المعدة لولاية محمد وأهل بيته  (عليهم السلام) وودهم ومودتهم.

وبعبارة أخرى إن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هم المهيئون لإفاضة الله تعالى عليهم الود والولاية والمودة.

لا تناقض بين التفسيرين

والحاصل أن (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) أي (وداً لمحمد وأهل بيته) فمتعلق (وُدًّا) محذوف وهو (لمحمد وأهل بيته).

وتدل على الوجه الذي ذكرته الروايتان لتفسير آية الود، روايات أخرى تفسر الآية بطريق آخر لكنه يؤكد هذا التفسير لأنه الوجه الآخر له، فقد روى العياشي[18] عن الصادق  (عليه السلام) قال: (دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) في آخر صلاته، رافعاً بها صوته، يسمع الناس، يقول: (.. اللهم هب لعلي (عليه السلام) المودة في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)).[19]

وأما التفسير للآية الشريفة بـ(سيحدث لهم في القلوب مودة) مما ظاهره أن المؤمنين العاملين للصالحات كافة سيكونون محبوبين أي سيجعل في قلوب الآخرين، لهم، مودة، فإنه لا ينافيه، بل يؤكده إذ أمير المؤمنين علي  (عليه السلام) هو أجلى المصاديق إذا جمدنا على معنى (الود) من كونه المحبة مع إضافة ما.

وأما على كونها تعني (الولاية) فلا مانعة جمع بين المعنيين (وهما (سيجعل لهم أي لنفعهم وصالحهم الرحمن وداً) في قلوب الآخرين و(سيجعل لهم أي في قلوبهم ولاية لأمير المؤمنين).

إذ أولاً: لا مانع من استعمال اللفظ في (أكثر من معنى لا على أن يكون كل منهما تمام المراد)، بل لا استحالة حتى مع (كون كل منهما تمام المراد) كما فصلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى) وفي (مباحث الأصول).

وثانياً: قد يقال بعدم كونه استعمالاً للفظ في أكثر من معنى، بل قد استعمل في الجامع.

وثالثاً: قد يكون أحد المعاني ظهراً والآخر بطناً، هذا.

وقد ذكرنا في الأصول مباحث القطع، وجوهاً أخرى ربما بلغت الثمانية للإجابة عن مثل هذا الإشكال فليلاحظ.

هذه الرواية الشريفة قد يستغربها البعض لأنها خلاف المتداول في بعض التفاسير، ولكن: إضافة إلى صدورها ممن نزل القرآن في بيوتهم فإن التحقيق اللغوي يقودنا إلى أن (الولاية) من مصاديق (الود) فإن الود أشمل من (الحب) وقد فصلنا ذلك في محاضرة أخرى.

ولعل مما يدل على اتحاد (الود) و(المودة) إضافة إلى ما ذكرنا من اتحاد المصدر واسم المصدر أن الطريق المذكور في الآيتين لنيل (الود) و(المودة) واحدة فإن آية (المودة) الشريفة التي ذكر فيها في أجر الرسالة تبدأ بهذه الآية (َالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ) (لاحظوا إن نفس الصفتين (آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) تتكرران وبنفس الترتيب)، ففي تلك الآية آية الود (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) وفي آية المودّة (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (بعد هاتين المقدمتين والتي أكد فيهما على مفهوم الإيمان والعمل الصالح قال تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) مما يستنبط منه أن (الإيمان) و(العمل الصالح) من العلل المعدة لـ(الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أي هما سبب التوفيق لأداء أجر الرسالة وهو (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) والتي تعني بلحاظ تفسير الرواية لـ(وداً) بـ(ولاية محمد وأهل بيته) ولاية محمد وأهل بيته  (عليهم السلام)

(آية المودة) خطاب للعموم لكن بالتفاتٍ للخواص

وهنا نقطة التوقف: وهي دقيقة ورائعة فإن الله سبحانه وتعالى يجمع بين العامِّ والخاص في لفتة بديعة جداً فإن (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ) هو خطاب للعموم، وهو خطاب للخصوص، بنفس الوقت وبنفس اللفظ، فكأنه

أ. يخاطب الخاص بشكل خاص،

ب. ويخاطب العام بشكل عام،

ج. ويخاطب العام وهو يلتفت إلى الخاص،

د. وبالعكس.

توضيح ذلك بالمثال: أنت إذا كنتَ تريد الاستنجاد بالناس، المئات من الناس من أنصارك، في مقابل عدو أراد أن يقضي عليك، فأنت تستنجد بالناس: أيها الناس أنجدوني، أغيثوني، ولكن أنت تدري أن الذين سيغيثونك أربعة، خمسة فقط، فعينك عليهم؛ فالخطاب عام، وهو في الوقت نفسه خاص، عام كي لا يستطيعوا أن يتملصوا من التكليف ولأنهم مكلفون حقاً، وخاص لأنك تدري أن هؤلاء سوف يستجيبون لك، لا غير..

فعندما يقول: أيها الناس أغيثوني، أدركوني، هو يرى هؤلاء الثلاثة، أو الأربعة، فجمع بين (العامة) للتكليف، و(الخاصة) للأمل، التكليف للكل، والأمل بالبعض، وفي هذه الآية القرآنية الكريمة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ) التكليف عام أو خاص؟

إننا نلاحظ تجلياً لتلك اللفتة الدقيقة فإن التكليف عام، وهو خطاب لكل البشر على مدى التاريخ، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، ولكن مَنْ الذي سيعمل بذلك؟ مَنْ الذي سيدفع الأجر؟ مَنْ الذي يعقد به الأمل؟ إنه هو الذي مُهَّد له في الآيتين السابقتين (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هؤلاء هم الذين سوف يدفعون الأجر لا غيرهم، فالخطاب هو عام، وهو خاص.. حقيقة جمال، وروعة إلى أبعد الحدود، التكليف عام، والخطاب خاص، في عين كونه عاماً هو خاص إذ أنه في الوقت نفسه مزيج تكليف، وأمل.

المودة فطرية واكتسابية

وهنالك نقطة أخرى هامة نشير لها إشارة وتفصيلها يطلب من مظانه وهي أن (المودة) على قسمين: قسم فطري وقسم اكتسابي.. كما أنها على درجات: درجة فطرية ودرجات أخرى اكتسابية وإن روايات (الطينة) وغيرها، كروايات (عالم الذر) و(عالم الظلال).. تشير إلى القسم الفطري منها، وإلى الدرجات الفطرية منها وقد ذكرنا بعض تفصيل ذلك في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) وفي كتاب (شعاع من نور فاطمة)   (عليها السلام) كما تحدث عنها العلامة المجلسي رضوان الله تعالى عليه في بحار الأنوار وغيره من أعاظم الأعلام.

وأما القسم الاكتسابي والدرجات الاكتسابية فهو: الذي طالب به الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) كأجر للرسالة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) نظراً لأن (الفطري) تحصيل للحاصل إلا بلحاظ العلة المبقية وهذا القسم الاكتسابي هو الذي أشارت إليه الآية الأخرى وتضمنت طريقين لتحصيله وهي (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) و (وُدًّا) كما سبق أي (ولاية لمحمد وأهل بيته  (عليهم السلام)) فتكون (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) بنفس المعنى أيضاً لاتحاد معنى (الود) و(المودة) كما سبق.

فبناء على هذا إذا أردنا دفع أجر الرسالة، فلا يتوهمن متوهم أنه بمجرد حب علي وسائر الأئمة الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام) بدون تجلي ذلك على جوارحه بأن يكون لهم موالياً وناصراً وعن حريمهم مدافعاً ومن أعدائهم متبرئاً قد أدرك الولاية، أو قد أدرك المحبة، أو قد أدرك المودة..كلا.

نعم إنه أدرك درجة من (المودة) و(المحبة) لكنه لم يدفع الأجر كاملاً، ولم يرض أهل البيت (عليهم السلام) كما طلبوا وكما أرادوا وكما أحبوا: أن يكون عبداً لله مطيعاً له في كل الحالات متجنباً كافة المعاصي والآثام.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)

الشيخ عباس القمي يعمّر المساجد

ونختم حديثنا بقصة قصيرة عن المرحوم الشيخ عباس القمي (رضوان الله تعالى عليه) الذي كان من المصاديق الجلية لهذه الآية القرآنية الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، الشيخ عباس القمي ينقل في أحواله أنه كان فترة في طهران، وكان مشغولاً كما تعلمون بالتأليف، والبحث والتنقيب، في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وآثارهم وسيرتهم وقد بارك الله في عطائه حيث كان من (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) لكنه إضافة إلى ذلك فكَّر مع نفسه ذات مرة؛ بأن ذلك لا يكفي، وكانت توجد مساجد كثيرة في طهران - في ذلك الزمن- كانت مُتداعية الأركان، ومهجورة..

فكر في أن يعمّر هذه المساجد، ولم يكن يمتلك مالاً لكنه كان يملك ماء الوجه، ففكر في طريقة مبتكرة، بسيطة وصعبة في الوقت نفسه؛ وهي أن يرى أي مسجد مهجور ومتروك، فيذهب ويُصلي هناك جماعة..

وكما تعلمون فإن الشيخ عباس القمي كانت له منزلة كبيرة عند الناس وكان محبوباً، فلذا عندما كان يذهب ليصلي في إحدى تلك المساجد، كان يتوافد جمع من الناس للصلاة خلفه، والمسجد خالٍ من المصابيح، والبُسُط أو السجاجيد أو كان الموجود منها بالياً، ثم لعله كان متداعي الجدران ولو بدرجة ما فقام الشيخ عباس بتحريضهم على ترميم المسجد وعلى إعداده وتأثيثه بشكل مناسب فبدأ الناس يتبرعون لذلك.. وهكذا عمّر المسجد في فترة قصيرة.. ربما شهر، شهرين، ثلاثة.. الله أعلم، بعد ذلك وبعد إصلاح المسجد عين الشيخ عباس إمام جماعة لذلك المسجد، وانطلق إلى مسجد ثانٍ أيضاً، متداعي، ثم إلى مسجد ثالث ورابع وخامس وهكذا.. وهذا أمر في غاية الصعوبة.. إذ كما تعلمون فإن في ذلك الزمن لم تكن سيارات بل كان الوضع مصداق (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[20]، كما أن الأزقة كانت مظلمة في الليالي، وموحلة في الشتاء، وغير ذلك من المصاعب والمشكلات التي كانت في تلك الأزمنة.. فالشيخ  (قدس سره)•ولعله كان كبير السن حينذاك كان ينطلق إلى مساجد متعددة ومتباعدة، ليصلي فيها يومياً، وهكذا نجده •(قدس سره) عمر المسجد الأول، وهكذا انطلق إلى المسجد الثاني بهذه الطريقة فعمّره، وانطلق إلى المسجد الثالث وعمّره، واستمر فترة من الزمن على ذلك ولعل عشرات من المساجد، عمّرها الشيخ عباس القمي (رضوان الله تعالى عليه) بهذه الطريقة..

وختاماً فلنتذكر دوماً قوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ولنتذكر وعلى مدار الساعة آيتنا الشريفة، آية المودة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

وأن علينا أن نجند كل طاقاتنا لتسديد هذا الأجر العظيم للرسول الكريم  (صلى الله عليه وآله وسلم) أجر المودة.. والتي تتجلى على (الجوارح) عبر العمل الصالح، وفي (الجوانح) عبر المزيد، ثم المزيد، من تقوى الله سبحانه وتعالى، ومن الورع والإيمان..

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكي نكون ممن يخلص المودّة لمحمدٍ وأهل بيته (عليهم السلام)..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

.................................

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

..................................................

[1] (الشورى: 22 23)

 [2] (التوبة:111)

 [3] (فاطر:29)

 [4] (فاطر:30)

 [5] (البقرة:175)

 [6] (التوبة:111)

 [7] (الصف: 10 12)

 [8] (فصلت:8)

 [9] (آل عمران:179)

 [10] (الأنفال:41)

 [11] الفرق بين (الجميع) و(المجموع) أن (الجميع) يراد به كل واحد واحد و(المجموع) يراد به مع لحاظ الهيئة الاجتماعية.

 [12] (الأحزاب:33)

 [13] (مريم:96)

 [14] التقييد بشكل عام يعني: إن جوهر المعنى واحد وإن الخصوصيات كلها واحدة إلا في الفارق الشهير بين المصدر واسم المصدر فإن (اسم المصدر) يطلق على الحاصل من الفعل والمصدر يطلق على الفعل كالغسل والاغتسال والتجارة والاتجار فإن الغسل والاتجار هما المصدر والآخران هما اسمه.

 [15] مريم: 96.

[16] بحار الأنوار: ج24، ص333، ح58.

 [17] الكافي الشريف للشيخ الكليني:ج1 ص431..

 [18] كما روى القمي والكافي روايات قريبة المضمون من هذه الرواية.

 [19] نقلاً عن الصافي: ج2، ص431 رأس آية (المودة).

 [20] (النحل:8)

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 10/نيسان/2010 - 24/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م