أجر الرسالة الخاتمة وتأملات في آية المودة

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد الله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم(ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)[1]

هل العابد بغير محبة (الرسول وآله) في النار؟

وقد ورد في الحديث عن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: «لو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة» -أي في هذه البقعة وهي بقعة من أشرف بقاع الأرض- «ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام» -وظاهر الرواية الاستغراق، أي كان ليلاً ونهاراً مشغولاً بالعبادة- «حتى يصير كالشنِّ البالي» (الشنّ: يعني (القربة الخَلِقَة،[2] العتيقة)، فإضافة كلمة (البالي) لها مزيد من الدلالة، أي القربة الخَلِقَة جداً، وتأكيد، أو أن إضافة صفة البالي أيضاً لمزيد من الإيضاح «حتى يصير كالشنّ البالي»؛ أي أن هذه العبادة كانت مرهقة له أيَّ إرهاق) حتى يصير كالشنّ البالي، «ثم لم يدرك محبتنا» (أي أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) «أكبّه الله على منخريه في النار»..[3] والظاهر أن المراد العالم المعاند وكذا المقصر، أما الجاهل قصوراً فإنه يعاد امتحانه يوم القيامة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في (شعاع من نور فاطمة  (عليها السلام) ) فليراجع.

هذه الرواية يذكرها الفيض الكاشاني في كتابه؛ (تفسير الصافي)، وهو من أفضل تفاسيرنا على الإطلاق، وكذلك البرهان، مما ينبغي على كل طالب علم أن يكون عنده وهذان التفسيران.[4]

وأيضاً عن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) مع مطلع الحديث: ((أن الله خلق الأنبياء من شجر شتى، وخُلقت أنا وعلي من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين (عليهم السلام أجمعين) ثمارها، وأشياعنا أوراقها، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومَنْ زاغ هوى، ولو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام حتى يصير كالشنّ البالي، ثم لم يُدرك (وكلمة يدرك فيها دلالة بالغة، والإنسان عليه أن يُدرك محبتهم صلوات الله عليهم، وسنكتشف بعض دلالة (يدرك) عندما نلاحظ أنه تعالى قال: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) ولم يقل (يصل إليكم الموت) مثلاً(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)[5] فكأن الموت يطاردنا حتى يلحق بنا، ونحن يجب علينا أن نُطارد محبة أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، أي أن نحاول أن نحصل عليها بكل طريقة، وبدرجاتها المتسامية) ثم لم يدرك محبتنا، أكبّه الله على منخريه في النار) ثم تلا الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى))[6]

هذه الآية الشريفة آية المودة تُعدُّ من البراهين القاطعة - إضافة إلى آيات عديدة أخرى، وإضافة إلى بعض الأدلة التي سنسوق أحدها لكم من صحيح مسلم - هي من الأدلة القاطعة على صحة هذه الرواية، ومشروطية صحة العبادات كلها بـ(مودة أهل البيت  (عليهم السلام)).

وتكفينا أ- دلالة (الآية) ب- و(الاعتبار) على صحتها ج- ومطابقة مضمونها للعشرات من الروايات الأخرى، يكفينا ذلك عن البحث عن سندها كما سنوضحه بإذن الله تعالى، وهذه الرواية المروية عن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): تصرح بأن الإنسان لو عبد الله ألف عام، ثم ألف عام، وألف للمثال فلو عبد الله فرضا تريليوناً من السنين، كان كذلك، وذلك كما في قوله تعالى:( إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ)[7] ثم لم يدرك محبة رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لم يدرك محبة الإمام علي بن أبي طالب  (عليهما السلام)، أو أحد الأئمة المعصومين (عليهم صلوات الله أجمعين)، أكبه الله على منخريه في النار..

ولا أحد يظن - ظن السوء - أن الله سبحانه كان مجاملاً لرسوله الكريم  (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ ليست عند الله سبحانه وتعالى مجاملة، مع أي إنسان، أو أي شخص، مهما علت مكانته، أو سمت رتبته، فكلام الله تعالى هو الصدق المطلق.. بل هو الحق المطلق.. و(الحق) فوق (الصدق) لأن (الصدق) هو مطابقة القول للواقع، أم (الحق) فهو مطابقة الواقع للقول.

فلسفة ذكر (قُل) في آية المودة دون آيات مشابهة

ولنتوقف بعض التوقف عند تأملات في الآية القرآنية الكريمة، وهي تعد تتمةٌ للبحث السابق حول هذه الآية الشريفة،(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا).

وأول مُلاحظة تلفت انتباهنا في الآية هي: أن الله سبحانه بدأ في هذه الآية بكلمة (قُل) ولكنه في آيات أخرى مشابهة لهذه الآية تماماً لم يبدأ بكلمة (قُل).

واللطيف أنني تتبعتُ الآيات الكريمة فوجدت أن هذا المحتوى والمضمون عندما يصل إلى الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن كلمة (قُل) تضاف، وفي بقيَّة الأنبياء لا تذكر كلمة (قُل)، فمثلاً، قوله تعالى:( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿105﴾إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴿106﴾إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿107﴾اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿108﴾وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿109﴾).[8]

وآيات أخرى عديدة حول الأنبياء السابقين، لا يوجد فيها (قُل).. الله سبحانه يتكلم كحديث منقول بين قوسين عن ذلك النبي، أي كحديث مباشر بين النبي وقومه، (...مَاَ أَسَأَلُُكُمُ عَلَيَهِ قُل...)، ولكن بمجرد أن تصل النوبة إلى النبي الأكرم  (صلى الله عليه وآله وسلم) في عِدَّة آيات شريفة، نجده سبحانه يُصدِّر الكلام بكلمة (قُل) (قُل لَّا أَسَئلُكمُ)، مع أن جملة (لَّا أَسَئلُكمُ عَلَيَهِ أَجْرًا)، أو (مِنْ أَجْرٍ)، كافية في المقام.. فما هو السِّر؟ خاصةً مع علمنا، وإيماننا جميعنا، بأن القرآن الحكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وكل حرف عنده بميزان.. فما هو السِّر إذن؟

وفي آية قرآنية أخرى، قال سبحانه وتعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿56﴾ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)[9]

وفي آية قرآنية أخرى،قال ربنا عزَّ اسمه:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴿86﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ).[10]

(فالخطاب عندما يصل إلى النبي الأكرم  (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ تضاف (قُلْ))،:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)، وكذلك آيتنا الشريفة التي هي محور بحثنا، فما هو السبب في ذلك؟

الحكمة من القلاقل الأربع

السبب في ذلك: هو نفس السبب الذي صدّرت فيه القلاقل الأربع في القرآن الحكيم؛[11] بـ (قُلْ) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، إذ قد يقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يكفي، ولا حاجة لـ(قُلْ)، كما ظن ذاك بعض الحكام الجهلة، الذي أمر بحذف القلقلات الأربع من القرآن الكريم، ويبرر ذلك بأنه: لا وجه له ولا داعي لوجود (قُلْ) في هذه الآيات..( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)..

فما هو الوجه في (قُلْ) الموجودة في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وكذلك في قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ؟

الوجه هو بعينه موجود في هذه الآية القرآنية الكريمة، وأشير أشارة حول فلسفة (قُلْ) والحديث عنها طويل، لكن لدينا مجموعة من النقاط، بإذنه تعالى نحاول أن نستوعبها في هذه البحث، فالفرصة ضيقة الآن..

الفلسفة في التصدير بـ(قل)

أولاً: إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يؤكد، ويُرسِّخ مفهوم وساطة النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه سبحانه، وبين خلائقه فـ(قُلْ): (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).

وعندما نبدأ الصلاة بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فإن الواسطة الذي هو الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم)، أيضاً نستحضره في البال فهو واسطة الفيض التكويني، وهو واسطة الفيض التشريعي، فعندما تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، هو الله أحد)، فإنه وإن كان وافياً بأصل المعنى، ولكنه لا يفي بمعنى الوساطة أيضاً..

فأنا عندما أصلي يجب أن أذكر رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، بتشريع من الله سبحانه وتعالى، (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ).. فهذا تكريسٌ لمفهوم الثُلاثية بهذا المعنى:

هناك خالق..

وهناك مخلوق..

وهناك وسائط بين الخالق والمخلوق، هكذا جرت حكمة الله في التشريع كما في التكوين..

فالله لا يقبض الأرواح مباشرةً، وإنما يقيِّض لها عزرائيل  (عليه السلام)، وكذلك يقيِّض للأرزاق ميكائيل  (عليه السلام)، وكذلك يقيِّض للنفخ في الصور إسرافيل  (عليه السلام)، وهكذا وهلمَّ جراً.. فتكريسُ مفهوم الواسطة الذي هو النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو هو الإمام  (عليه السلام) في المقام أمر ضروري جداً..

ثانياً: وهناك سبب آخر إضافي للتصدير بـ) قُلْ) وهو[12]: أن الله سبحانه عندما يتحدث عن الأمم السابقة، وعن الأنبياء السابقين، فإنه ليس مورد ابتلاء لنا، فـ(نوح) و(صالح) و(هود) (عليهم السلام جميعاً)، في الآيات الشريفة المتكررة، كل واحد منهم يقول: (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)، يخاطب أمماً سابقة ولا يخاطبنا نحن فلا يحتاج ذلك إلى تأكيد، أما الآن فإن الكلام- كلام رسول الله (عزوجل)- مُوجَّهٌ لنا نحن هذه الأمة المرحومة، فالله سبحانه للتأكيد أولاً ولدفع أدنى شُبْهة أو تشكيك ثانياً وما هي الشبهة؟ إنها شبهة (أن هذا الكلام، والتوجيه إنما من قبل رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) لا من الله مباشرة).. كما أتُّهِمَ بأن (هذا من عندك وليس من عند الله).

فالله سبحانه يؤكد بـ)قُلْ)في خطابه للرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم): (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ).. على كونه أمراً إلهياً مباشراً لنا، وليس أمراً من الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، ورغم أن أمر الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم) يكفي لأنه المولى، ومولى حقيقي، ومالك طولي للكون كله، فكل إنسان، وكل شيء مملوك لرسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، مُلكاً حقيقياً في طول ملك الله سبحانه وتعالى، فكان يكفي، أن يقول النبي: (ما أسألكم عليه من أجر إلا المودة)، أو: (لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ).. ولكن لشدة أهمية المطلب، ولتكريسه، وتأكيده، وأنه ليس أمر الرسول وحده، بل أمر الله أيضاً، وأن (قُلْ): أمر من الله تعالى مباشرة، يقول للرسول: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).. هذه النقطة الأولى..

الفرق بين (ما) النافية والموصولة

النقطة الثانية: نشير إشارة مهمة وهي تتمة للبحث السابق، ثم ندخل في كلمة (الْمَوَدَّةَ) بإذن الله تعالى، فقد لاحظنا هنا؛ أن الله سبحانه وتعالى لم يستخدم كلمة (من) حيث كان الخطاب موجهاً للنبي، أما في الآيات الأخرى، فقد استخدمها فقال:(مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) في آية نوح، هود، صالح، وبقية الأنبياء (على نبينا وآله و  (صلى الله عليه وآله وسلم)).. ولكن في آية النبي   (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستخدم كلمة (من)(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا).

وقلنا الفلسفة في ذلك: لأن (من) هنالك (تبعيضية)، وهنا لا تبعيض، فـ(كل أجر الرسالة) هو مودة أئمة المسلمين بدءً بالإمام علي وفاطمة والحسن والحسين ومروراً بسائر الأئمة الأطهار (عليهم جميعاً صلوات الله)، ووصولاً للإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).

لكن أحد الأعلام، تساءل، وقال: إن كلمة (من) استخدمت في آية أخرى موجهة للنبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) والآية هي:( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).[13]

ولتوضيح الآية، ومع قطع النظر عن هذا الإشكال، نقول:

إن الله كان قد أمر الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، ثم بعد ذلك النبي يوضِّح بالآية الأخرى: أن الأجر ليس لي بل هو عائد لكم، يعود أيضاً لصالحكم، فلا تتصور أن الأجر لي (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)

والإجابة على هذا السؤال واضحة: إذ أن (من) في آية المودة لو وردت فإنها ستكون (تبعيضية)، لأنه سبقتها (لا) النافية (لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، ولكن في آية (مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) حيث وردت (من) و(ما) فإن (ما) هنا (موصولة) فتكون (من) بيانية، إذ قد سبقتها (ما) الموصولة وليس (لا)، ولا يعقل كون (من) تبييناً لـ(لا)، وفي المقابل تقع كثيراً (من) تبييناً لـ(ما) وذلك كلما كانت موصولة.

نعم لو كانت (ما) نافية فإن (من) ستكون تبعيضية لكنها في آية (مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) موصولة دون شك.

وبعبارة أخرى: فإن وزان (لا) النافية كوزان (ما) النافية كما في الآية القرآنية الكريمة الأخرى، التي تقول:( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[14]، فـ(ما) في تلك الآيات نافية(مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ)...(مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)... و(من) تبعيضية، أما في الآية الشريفة التي تلوناها وهي المُكمِّل.. (مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ).. فإن (من) (بيانية) لأن (ما) موصولة.. (مَا سَأَلْتُكُم) يعني؛ الذي سألتكم من أجرٍ.. فهو كل الأجر أيضاً.. فهذه ليست (من) تبعيضية، فمع بعض التأمل يتضح لكم ذلك، ولذا نجد أن (ما) هنا مبتدأ، (مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)وإن (فَهُوَ لَكُمْ).. هو الخبر..وهذه الإشارة كافية لبيان الفرق بين المقامين..

فلسفة (الألف - لام) في (المودة)

ننتقل إلى النقطة الأخرى: وهي نقطة مهمة: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ونتوقف عند (الألف واللام) في (المودّة)..

ونسأل: الله سبحانه، لماذا لم يقل (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أو (إلا مودةَ القربى)؟ كما في آية أخرى قال:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).[15]

بل قال: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).؟

الفلسفة: للدلالة على الاستغراق أو الجنس

ويتضح الجواب عن هذا السؤال، عندما نلاحظ وجه، وفلسفة، تَحلية (الحمد) بالألف واللام في قوله تعالى:( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[16]

فلم يقل سبحانه وتعالى: (حمداً لله رب العالمين)، ذلك لأن هذه الألف - لام، هي (للاستغراق)، يعني كل الحمد، كل مصاديق الحمد، هي لله رب العالمين؛ ولو قلنا بأن (أل) هي (للجنس).. لكان كذلك أيضاً، أي جنس الحمد لله تعالى، أي الجنس بكل مصاديقه، فتكون كل المفردات تحت هذا الكل، أو هذا الجنس.. فـ(جنس الحمد) لله رب العالمين، فـ(الحمد)، يعني كل الحمد، كل مصاديق الحمد، وليس حمداً واحداً،أو مصداقاً واحداً فقط..

والفرق بين (الاستغراق) و(الجنس): أن الثاني وإن دل على الاستغراق أيضاً، إلا أنه بواسطة دلالته على الجنس فـ(أل) بناء على مسلك (الاستغراق) دالة عليه بالمباشرة وبناء على مسلك (الجنس) دالة على الاستغراق بالواسطة.

فـ(حمداً) نكرة، والنكرة تَصدُق ولو بتحقق بمصداق واحد، ولكن (الحمد)، يعني الحمد كله لله رب العالمين.

معنى (لأحمدنّ الله بمحامد يرضاها)

وهنالك رواية جميلة مناسبة للمقام: فقد روي أن الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام) ضاعت له بغلة، فقال: (لئن ردّها الله تعالى إليَّ لأحمدنَّه بمحامد يرضاها)

وهي كلمة جداً قوية، وقد تصور الناس أو بعضهم أن الإمام سيطيل الحمد لله؛ ربما بقدر عشر صفحات مثلاً من الحمد، سيُثني على الله سبحانه وتعالى، فبحثوا عن البلغة، وجاؤوا بها سريعاً..

فلما رجعت إليه البغلة بجهازها وما  (عليها السلام)، غير ناقصة والبغلة لم تكن مُهمة ولكن الدرس مهم، أي الإمام  (عليه السلام) أراد أن تصل إلينا هذه الرسالة: أن تحمد الله سبحانه وتعالى أحياناً حمداً إجمالياً، وأحياناً حمداً تفصيلياً فالإمام ماذا قال؟

قال: لأحمدنه بمحامد يرضاها، فلما رجعت إليه البغلة، واستوى عليها، ضمَّ إليه ثيابه، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: الحمد لله..ولم يزد..

لطيفة جداً هي تعابير الأئمة  (عليهم السلام)، وحركاتهم هي الأخرى لطيفة ملفتة، قال: الحمد لله فقط.. حتى يوضِّح لنا ماذا؟ يُريد أن يوضِّح لنا أن الألف اللام هذه للاستغراق أو للجنس، وأنها ذات دلالة كافية وافية، حتى يتضح لنا فيما يتضح المعنى العميق لـ(الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حتى نعرف ماذا نقول.. ثم، قال: ما تركتُ، ولا أبقيتُ شيئاً..ثم أضاف.. جعلتُ جميع أنواع المحامد لله (عزوجل)، فما من حمدٍ إلا وهو داخل فيما قلت..[17]

فكل أنواع المودة، مطلوبة إذن

فكما أن الألف واللام في (الْحَمْدُ للّهِ) هي ألف ولام الجنس أو الاستغراق، كذلك هي في (المودة) في قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) إلا ماذا؟ (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أي أن كل أنواع المودة، بمختلف مصاديقها، وألوانها، وأشكالها، وفي مختلف الأزمنة، وفي مختلف الأمكنة، وفي مختلف الحالات.. هذا هو المطلوب من الإنسان، وهذا هو المسؤول منه، ثم المسؤول عنه(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[18]، فلو خلا قلب الإنسان من مودة أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) لحظة واحدة، فإنه في تلك اللحظة وبهذا المعنى الدقيق عاصٍ، وآثم، وخائن، ولم يؤدّ أجر الرسالة، وذلك كما لو خلا قلب الإنسان ولو للحظة واحدة من الاعتقاد برسول الله أو بالله تعالى، فإنه في تلك اللحظة منحرف وضال وكافر.

(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) الألف واللام هنا للجنس، أو الاستغراق - بتعبير آخر- والمفهومان مختلفان، كما سبق ولكن من حيث الحمل الشائع الصناعي هما متحدان[19] وإن كانا من حيث الحمل الذاتي الأولي مختلفين، ولكن النتيجة النهائية هي واحدة..

وفي مثال آخر أنت تقول: (اللهم إني أسألك الراحة (وليس راحة) عند الموت)، أي الراحة بمختلف ألوانها، بمختلف أشكالها: الراحة من المرض بمختلف مصاديق المرض، الراحة من المشاكل الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، العائلية، وغيرها..

وهكذا قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فألف لام المودة، فيها كامل الدلالة على المطلوب،لأن الأجر على الرسالة هو مودة محمد وأهل بيته(صلوات الله عليهم) بمختلف مصاديقها، بمختلف أشكالها، بمختلف ألوانها، بمختلف تجلياتها.. والحديث حول الألف واللام طويل لكن هذه إشارة..

رسوخ في القلب وتجلِّ على الجوارح

ونلوي عنان الحديث إلى (المودة) ذاتها.. فماذا تعني (المودّة).؟

إننا نجد بعد التتبع والتأمل، أن الذي يظهر هو أن (المودّة): هي تلك الحقيقة الراسخة بالقلب، والمتجلية على الجوارح، هذا المزيج من الاثنين يُسمى المودّة، وإلا كان محبة، والمحبة هي القسم الأول فقط، وأما المودّة فهي المزيج من الاثنين معاً، أي ما يرتبط بالجوانح، وما يرتبط بالجوارح أيضاً.. فإذا كانت هناك محبة - وهي درجات - لكن كانت راسخة في القلب يصبح اسمها مودة، وقد يحب شخص شخصاً، ولكن محبة سطحية فلا تُسمى عندئذ مودة، ولكن إن كانت (المحبة) راسخةً في القلب أولاً، ومتجليةً على اللسان، وعلى البنان، وعلى خطوات الإنسان، حيث يزور المعصومين (عليهم الصلاة وأزكى السلام) دائماً أو يسلم عليهم ويذهب إلى مجالسهم ويدافع عنهم مثلاً.. فعندئذ يُطلق عليها (المودّة).. وإلا فتبقى مجرد محبة، وعلاقة سطحية فقط..

وتوضيح ذلك - والحديث أيضاً طويل - ولكن نكتفي بالإشارات لأن البحث واسع الأطراف جداً فنحاول أن نقتصر من كل روض على وردةً فقط..

من أسماء المسمار: الودّ

(المسمار) من أسمائه (الودّ).. والودّ هو المودّة، - وللعلم فإن الودّ ثلاثي تستطيع أن تقول: وَدَّ، يَوَدُّ، وُدّاً، وتستطيع أن تقول: وِدّاً، وتستطيع تقول: وَدّاً.. أي هو مثلث الواو: مضمومة، مفتوحةً، مكسورة، - (المسمار) هو الودّ، و(المحبة) هي المودّة.. فلماذا سمي المسمار بالودّ؟ لأنه؛ راسخ في عمق الحائط - هذا هو المعنى العميق للتسمية ويوجد معنى ظاهري، سوف نشير إليه أنشاء لله، إذا سنحت لنا فرصة- وسمي المسمار بالودّ، لشدّة التحامه بالحائط، ورسوخه فيه، فكأنه يودّه كأنه يحبه هذه المحبة الشديدة، العميقة..

ولكلام الراغب الأصفهاني في المفردات دلالة على هذا الذي استنبطناه- وقد أشار إلى الجانب اللفظي أيضاً، حيث ذهب إلى تحليل لفظي لتسمية (الوتد) أي المسمار بالودّ[20] - يقول - مع توضيح وإضافة منا:

(الوَدَّ: الوَتِد، وأصله يصح أن يكون وَتِد فأدغم)[21] انتهى وأقول موضحاً لذلك: أن سر الإدغام هو قرب مخرج التاء للدال، المخرجان قريبان، فتحول (الوتد) إلى (الود) نظراً لقرب مخرج التاء للدال، التاء قلبت دالاً، وأدغمت هكذا فصار الوتدّ (وُداً) و(الوتدّ) هو المعروف عندنا نحن حيث نقول: وتدّ، وهو نفس (الود) بالحقيقة.. (الوتدّ هو) نفس الودّ، لكن بعد الإدغام..

إذن المودّة تعني: تلك الحقيقة الراسخة في أعماق القلب، بحيث لو خيّر الإنسان بين أموال الدنيا كلها، وبين مودّة أهل البيت (عليهم السلام) ما اختار على المودة شيئاً..

بين القول والعمل: البقيع وسامراء مثالاً

وإن القول بذلك وإدعاء ذلك، أمر سهل، ولكن في مقام العمل، كم من عاصٍ هناك في الكون؟ هذا معناه أنه لا يحب ولا يودّ أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) حقيقةً: عند الامتحان يُكرم المرء أو يهان.. وقال الإمام  (عليه السلام): (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم)[22] وقال:

لو كان حبك صادقاً لأطعته

إن المحب لمن أحب مطيع

وكمثال؛ الآن قضية (البقيع الغرقد) و(سامراء المقدسة) وهدم قبابها الشامخة.. وأسأل: هل أنا حقيقة أودّ الإمام الهادي، والإمام العسكري (عليهما الصلاة وأزكى السلام)، وأرى هذه الفاجعة الرهيبة هنالك، ولا أحرك ساكناً؟

وكُنَّا ولا نزال نشهد الفاجعة، والمأساة المؤلمة في (البقيع)، منذ خمسة وثمانين سنة،[23] فهل أنا (أود) أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) حقيقةً؟ أم أنا رجّحتُ أموري الشخصية، وحياتي العائلية، ونومي، ومأكلي، ومشربي على أهم قضية في الكون كله وفي مقاييس عالم الغيب والشهود حيث قد جعلها الله سبحانه وتعالى أجراً للرسالة، فـ(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟ المودّة: هي تلك الحقيقة الراسخة في الأعماق، وهي المتجلية على الجوارح، بحيث لو لم تتجلَّ على الجوارح لكانت كذباً، لو لم تكن حقيقة وواقعاً..

والحاصل:

إن مَن يحب الأئمة الأطهار  (عليهم السلام) ويودهم، يجب أن يتحول (الدفاع عنهم) إلى (هاجس) يقض مضجعة ليل نهار، وأن تكون تلك هي أولويته المطلقة، ثم تأتي شؤونه الشخصية وشجونه، وإلا كانت (مودته) لذاته سابقة على مودته لأهل بيت الرسول وأقوى.. قال تعالى(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي).[24]

قصة جابر الثائر

كان هناك شخص اسمه جابر من قبيلة بكر بن وائل، هذا الإنسان كان في مجلس ابن زياد، عندما جيء بالسبايا إلى مجلس ابن زياد - هذا المنظر المهيب، المفجع والرهيب: السيدة زينب (عليها الصلاة وأزكى السلام) مَنْ الكون يخضع لعظمتها تُهدى أسيرةً إلى واحد من أسوأ خلق الله، هذا المنظر لا يتحمله إنسان له بعض الشعور، فكيف لو كان له كل الإدراك والشعور- هذا الرجل (جابر) كانت له مودّة حقيقية..

في ذلك المجلس، وعندما رأى هذا المنظر قرر، وعاهد الله سبحانه وتعالى على الخروج والثورة ضد إمبراطورية بني أميَّه، رغم أنها كانت إمبراطورية واسعة شاسعة، تضم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وعادةً الناس لا يثورون ضد (حكومة صغيرة)، فكيف بدولة عظمى؛ فكيف بأكبر دولة، ومن أقوى الدول في التاريخ على الإطلاق وهي دولة بني أمية، ثم دولة بني العباس- هذا الرجل في هذا المجلس عاهد الله سبحانه وتعالى؛ بأنه لو أنضم إليه لو وجد عشرة أشخاص فقط لثار ضد هذه الدولة - تصوروا: فقط عشرة!! - وهذا ليس بمنطقي أنه في مقابل دولة عظيمة، ثلاثة أرباع الكرة الأرضية تحت سلطتها لو وجد عشرة فقط فإنه سيخرج عليها؟!

ولكن هكذا نوى الرجل، وعاهد الله سبحانه وتعالى، على أنه لو وجد عشرة فقط لثار ضد بني أميه.. وبعد ذلك بدأ يحرّض الناس هنا وهناك، ويشوِّق على الثورة، ويتحرك حتى عام 66 للهجرة فثار المختار الثقفي[25] فكان (جابر) في طليعة جيش المختار، إذ كانت محبته حقيقية، وقد تجلّت على جوارحه أيضاً، كان من المخططين للثورة طوال هذه الفترة، ثم كان من المنفذين أيضاً، وبعض المؤرخين يذكر: بأن الذي كَمَنَ لأبن زياد، ثم برز إليه وقاتله فقتله هو هذا جابر،هذا قول مذكور في التاريخ..

والقول الآخر هو: أن قاتله هو إبراهيم بن الأشتر النخعي.. فعلى أي تقدير كان من طليعة المجاهدين الذين عملوا في الخفاء ضد بني آمية طوال هذه الفترة، ولم يهدأ له بال لا ليلاً ولا نهاراً، هو هذا الرجل البكري (جابر)..

هل نحن حقيقة هكذا؟ لا يهدأ لنا بال، ونحن نُشاهد مَشاهد أئمتنا في البقيع (عليهم الصلاة وأزكى السلام) مُهدَّمة، وأحياناً يمكن أن يمرّ أسبوع ولا يخطر هذا المعنى في بالي، أو شهر!! أو إذا خطر، أمرّ عليها مرور الكرام! فـ: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أين هي إذن؟.

شاهدان ودليلان من البخاري ومسلم:

ذكرنا سابقاً: أن الإنسان لو لم يدفع هذا الأجر فهو عاصٍ، وغاصب، ونقلنا رواية مذكورة في صحيح البخاري حيث ذكر: بأن الله سبحانه وتعالى، سيكون خصماً لذلك الذي لا يدفع الأجر للأجير الذي استوفى منه.. والرواية الظاهر كانت هي 2227 من الطبعة التي لدّي الصفحة /443/ لكن المقياس هو رقم الحديث 2227 الباب 106 باب: أثم من باع حرّا.. حيث ذكر البخاري أن الله سبحانه وتعالى قال: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة.. ويذكر منهم: ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره..)

اللهم إني أحبه فأحبه، وأحبب من يحبه

والآن نضيف رواية أخرى من صحيح مسلم - ولنستحضر الرواية التي افتتحنا بها بحثنا هذا، وهي (...ثم لم يدرك محبتنا، أكبه الله على منخريه في النار) والمذكورة في تفسير الصافي الشريف وغيره، - فلنستشهد بكتاب هو من أصحِّ الكتب عند أهل السنة ويمكن أن نستدّل بها على ما ذكرنا، وعلى المدعّى:

يقول رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)، في الحديث 2421 /22 على حسب ترقيم بعض الطبعات، وحسب ترقيم آخر: الحديث 6336 / 56 وعلى أي تقدير راجعوا باب 8 / 58 باب فضائل الحسن والحسين (رضي الله عنهما)- على حسب تعبيره-.

قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما شاهد الإمام الحسن (عليه الصلاة وأزكى السلام)، - وهذا صحيح مسلم المعروف ينقل عن الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم)-: اللهم أني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه.. هذه الرواية التي ذكرها مسلم في صحيحه.

البخاري يحذف الشطر الثاني

والغريب إنه: كان في بالي؛ أن الرواية في البخاري، ثم بحثت في البخاري فلم أجد الرواية فاستغربتُ، وسألتُ نفسي، أين رأيت هذه الرواية، وأنا متأكد أنني قد رأيتها؟ إلى أن وجدتها في صحيح مسلم، واكتشفت أن البخاري ذكر الرواية لكنه حذف الشطر الثاني منها.. لاحظوا (النصب الحقيقي)، فأي مكان يصل فيه إلى رواية ترتبط بأهل البيت  (عليهم السلام) فإما أن يحذفها بالكامل، أو يقصقصها إذا لم يستطع حذفها، فيحذف بعضها، فالموجود في البخاري نصف الرواية فقط: اللهم أني أحبه فأحبه.. وأما الشطر الثاني والبقية فإنه قام بحذفها (وأحبب من يحبه).

(لماذا كل هذا العناد؟ لماذا كل هذا النصب؟)، إن الرواية موجودة في كثير من مصادر أهل العامة، فليست هي رواية نادرة، وقد خفيت عليه، ولكنه معاند فأي رواية تذكر فضائل أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) فإنه يحذفها بالكامل، أو يحذف بعضها، والأمثلة على ذلك بالعشرات، إن لم تكن بالمئات.

من فقه رواية (وأحبب من يحبه)

ولنعد إلى نص رواية مسلم وهي: اللهم أني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه..

ودعنا نتوقف قليلاً عند هذا الكلام: اللهم إني (من هو المتكلم؟) إنه رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم).. أفضل خلائق الله على الإطلاق، سيد العقلاء، سيد الحكماء، حسب الرواية الموجودة في البخاري، رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): سيد ولد آدم إلى يوم القيامة.. هذه الرواية في البخاري موجودة، الرسول يقول: أنا سيد ولد آدم إلى يوم القيامة[26].. هذا الإنسان العظيم الذي (وَمَا يَنطِقُ عَنِ اْلهَوَى)، يقول: (إني) وحتى نعرف ما معنى هذا مرجع الضمير (إني) هنا..

(اللهم إني أحبه) فإذا كان الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) هو قائل هذا القول، وهو الذي (لا ينطق عن الهوى) إني أحبه فأحبه.. فإن هذا الحب هو (محض الحق)، هذا الحب (محض الحقيقة)، لا تشوبه شائبة هوى أو أي شيء، من هذا القبيل، فحبه إذن كاشف عن حب الله، وهو عين الحب لله وفي الله: اللهم إني أحبه فأحبه.. ودعاء النبي مُستجاب أم لا؟ دعاء النبي مستجاب ليس فيه كلام.. فأحبه وأحبب من يحبه.

وهنا نريد أن نتوقف قليلاً، ونعرف ما الذي نستوحيه ونستنبطه من الرواية الواردة في كتاب مسلم (وأحبب من يحبه) فما هو معنى هذا المقطع؟

إن معناه (أن من لا يحبه، فلا تحبه) وإلا فالكلام يصبح لغواً، أيعقل أن يكون المعنى (أحبب مَنْ يحبه، وأحبب مَنْ لا يحبه؟)، هذا الكلام لغو..فأحبب من يحبه له عقد إيجاب وهو منطوق الكلام وله عقد سلب وهو مفهوم الكلام، يعني (مَنْ لا يحبه لا تحبه يا رب) ودعاء النبي كما أشرنا إلى ذلك مُستجاب، وقلنا بأن الأمر جداً واضح، ولا يحتاج إلى استدلال، ولكن مع ذلك نستدل بأن معنى ذلك مَن لا يحبه فلا تحبه يا رب، والذي لا يُحبُّه الرب هل يعقل أن يدخل الجنة؟!

(الغصب) هو السر في استحقاق فاقد المحبة للآل الأطهار، النار

ونرجع إلى رواية الكافي، برواية الصافي: لو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى يصير كالشن البالي ثم لم يدرك محبتنا أكبه الله على منخريه في النار.. لماذا؟

والظاهر إرادة العمد أو التفسير في عدم إدراك محبتهم، أما القاصر فإنه يعاد امتحانه يوم القيامة فإن (أدرك محبتهم) هنالك دخل الجنة وإلا فالنار حيث عاند رغم مشاهدته الحق.

لأنه لو لم يدرك محبة الرسول وأهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام) لم يدرك محبة الله، ولم يحبه الله سبحانه وتعالى، والذي لا يحب الله، ولا يحبه الله لا يُعقل أن يدخل إلى الجنة كما هو واضح، ومن فلسفة ذلك هذه الآية القرآنية الكريمة التي أستدل النبي بها (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فإن الله تعالى اعتبر أن أجر الرسالة هو المودّة في القربى، فلو لم يؤد الأجر فهو مغضوب عليه، جاحد لأعظم نعمة عليه[27]، غير مرضي لله، لا في ذاته ولا في أعماله.

وبعبارة أخرى: هو بمنزلة الغاصب؛ إذ أخذ (المثمن) ولم يدفع (الأجر والثمن).. وهل تنفعه عندئذ العبادة، ولو لألف ألف سنة؟

وتدل على ذلك رواية البخاري عن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة.. ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)[28] وهل يدخل من خصمه رسول الله شخصياً، الجنة؟ وقد فصلنا وجه الاستدلال بها سابقاً وفي محاضرة أخرى أيضاً فليراجع.

كلا.. ثم كلا.. لأن الله تعالى يقول له: ما دام لم تدفع أنت أجر الرسالة، فهذه العبادة ليست مرضية لي، مثل الشيء المغصوب، مثل أحدهم غصب برتقالة، وأهداها لشخص هل هذا العمل مرضي ومقبول؟ أم إنه باطل ومرفوض؟

مثل ذاك الصوفي الذي رآه الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام) يسرق متخفياً ثم يتصدق بما سرقه فسأله: لِمَ؟ قال الله (عزوجل) يقول:( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[29]، فإذا أنا أسأت سيئة فحسنة تحبط تلك السيئة، وتبقى لي تسع حسنات، فقال له الإمام  (عليه السلام):(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[30]

ولأن المقياس إطاعة الله لا حجم العبادة

هذا هو المقياس، الله سبحانه وتعالى يُريد منا أن نكون مطيعين، ولا يهمه (حجم العبادة) وسنين الركوع والسجود إذ (إنما يتقبل الله من المتقين) فـسبعين سنة عبادة مع رياء أو عجب، لا تسوى ثانية عبادة لوجه الله الكريم، بل تلك السبعون سنة مصداق الآيتين الشريفتين(كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)[31] و(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا).[32]

وكذلك الأمر في (العبادة) بدون (مودة) الرسول الأعظم وأهل بيته الأطهار عليهم صلوات الملك الجبار، وذلك لأن (العبادة) بدون (المودة) ظلم بمنزلة الغصب.. بل هي أجلى مصاديق الظلم والغصب..

نحن كيف نفهم معنى الغصب العادي؟.. إن هذا أجلى مصاديق الغصب، لاحظوا شخصاً يغصب أرضاً، أو لباساً ويصلي فيه فهل صلاته صحيحة مقبولة؟ واضح أن هذا الشيء مبغوض وغير مقبول، فكيف لو غصبت أجر الرسالة؟ وأنت أصبحت مسلماً ولكنك لست مسلماً حقيقة إن لم تود أهل البيت  (عليهم السلام)، لأن الإسلام هو التسليم.

ولنذكر الآن آية أخرى كريمة توضح ذلك - وأحاول أن أختم لأن الحديث طويل في هذا الحقل لكن نستثمر آخر الكلمة من كلامنا- يقول الله سبحانه وتعالى لإبليس (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴿12﴾قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[33] لماذا لم تسجد لآدم؟ إن الإسلام هو التسليم، وإبليس يقول: أنا أسجد لك يا رب خمسة آلاف سنة الله.. يقول له الرب: كلا.. أريد سجدة واحدة لآدم.[34]

وأضيف توضيحاً: ولعله كانت تكفيه سجدة واحدة من ثانية واحدة، لأن الكلي الطبيعي يصدق وينطبق بتحقق أحد أفراده.

وبذلك يظهر أن المقياس عند الله التسليم لأمره لا (حجم العبادة).

فأنت يجب أن تكون مُطيعاً لله ولرسول(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)[35] وقد قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحبب من يحبه) والذي لا يحبه لا تحبه يا رب حتى لو عبد ألف سنة، حتى لو عبد مليار سنة، المقياس هو أمر الله (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) إبليس عالم، وكان مُعلم الملائكة، وقف مقابل الله وأراد أن يُبيِّن عضلاته العلمية، وكفاءاته الذاتية! (قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي)(وكأن الله لا يدري) (مِن نَّارٍ) (أنا أشرف منه) (وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)..

الله يقرع إبليس بالتعبد قبل الاحتجاج

واللطيف أنني كنت أتأمل في الآية، فالله سبحانه وتعالى لا يجيبه بشكل احتجاج يعني لا يقرِّعه ببرهانٍ مقابل، لأن الطرفين يعلمون الحقيقة ما هي، بل يُقرِّعه بالتعبد، يقول له: مَنْ أنت حتى تتكلم، أنت عبدي، أنت يجب أن تسمع كلامي فقط، لا حاجة لنا للبرهان، وإن كان البرهان موجوداً، بل قال: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لاحظوا (التعبد): (إِذْ أَمَرْتُكَ) فإذا كان الله هو الآمر، فعليك بالإطاعة دون تردد أو تأمل أو نقاش واستفهام فكيف بالاعتراض؟ (قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (الله ماذا يقول له) (قال: فأهبط منها) أنت عبد يجب أن تسمع الكلام، وانتهى الكلام، فلا يحق لك أن تستدل أصلاً، لأنه قال: (فأهبط منها) وبعد ذلك يعّلمه الله بالتعبد، وإن كان الدليل العقلي و(التعقل) أيضاً، موجوداً (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ) بل إن (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ) تعبدي أيضاً في مقابل (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(.

وجوابه غير التعبدي هو: أن آدم (بروحه) والروح من (أمر الله) ومن (النور) و(النور) خير من النار.. فكيف بما كان من أمر الله.

وجوابه الآخر أن آدم كان يحمل في صلبه أنوار المعصومين وهم مَن خلق الله الكون لأجلهم.. فمن إبليس عندئذ؟ (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (تتكبر في الجنة على ربك)؟ الله يقول لك أسجد لآدم، فأنت ماذا تقول؟ إنه تعالى لا يريد منك ولا تريليون سنة عبادة.. إذ إنه ليس بحاجة إلى عبادة العابدين وسجدة الساجدين.. بل كله اختبار وابتلاء وامتحان الله يقوم باختبار عبده، يمتحنه، يبتليه(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)[36]..

(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) هذا (المقياس) هو (المقياس)؛ ولا غير... إنه (إطاعة الله) سبحانه وتعالى، وليس عبادة مليون سنة.. أو أكثر أو أقل..

وبذلك يظهر أنه يمكن أن نعد هذه الرواية من البديهيات، إذا لاحظناها بهذا المنظار الموضوعي - الإلهي.. إنها جداً واضحة وليست شيئاً عجيباً.. إن عبادة مليون سنة مثلاً ليست هي المقياس، ولا المناط لرضى الله وقبوله ومثوبته، وليس عليها (المدار) ولا عليها (المعوّل).. بل المقياس هو: إن الله تعالى ماذا أراد منك؟ وإلا فلأحدهم أن يصلي صلاة الظهر عشرة ركعات، ويقول مستدلاً: عشر ركعات أفضل من أربع ركعات!! فالمقياس أن تطيع أمر الله كما قال: (فأهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها).

إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يختبر عبيده، فإذا نجح الإنسان في هذا الامتحان (امتحان المودّة في القربى)، حيث قال تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، إذا دفعنا الأجر فكل عملنا مقبول من صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، وخمس، وغيرها، وإذا لم ندفع هذا الأجر فذلك هو حال الغاصب، وكل هذا العمل غير مقبول.. فالرواية جداً واضحة، لذا نجد النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذيل هذه الرواية، يستدل بهذه الآية الشريفة، بل أن الآيات الدالة على ذلك ليست بالقليلة.. - ولتفصيل ذلك مجال آخر-.

لمحة من عبادة الإمام السجاد  (عليه السلام)

والإمام السجاد (عليه الصلاة وأزكى السلام) وهذه الليلة ليلة شهادته (عليه الصلاة وأزكى السلام) وكي نعرف بعض عظمة القربى الذين دعانا الله سبحانه وتعالى، إلى مودتهم نكتفي برواية واحدة نظراً لضيق الوقت إلا أن بها كل الدلالة وأعظم الفائدة، والرواية تقول:

إن الإمام السجاد (عليه الصلاة وأزكى السلام)، كان ينتخب عندما يريد أن يسجد، (الحجارة الخشنة)، ونحن نسجد على تربة صافية ما فيها ألم، ومع ذلك نحس بالإرهاق والتعب والضغط لو طال السجود دقائق، أو تكررت الصلوات والسجدات لكن أن يسجد الإنسان على حجارةً خشنة، ألف ركعة في اليوم يعني ذلك ألفين من السجدات فلذا كان صلوات الله عليه يلقب بـ(ذي الثفنات)،[37] (عليه الصلاة وأزكى السلام).

بل الرواية تقول بأن الإمام (عليه الصلاة وأزكى السلام) خرج إلى جبل من جبال المدينة، صعد فوق الجبل، وأنتخب الحجارة الخشنة المحرقة نص الرواية (المحرقة) تصوروا: كم السجود على الحجارة المحرقة مؤلم؟ ولعل ذلك كان في النهار.. وإذا كان كذلك.. فأضف إلى حرارة الحجارة المحرقة، حرارة الشمس الحارقة حجارةً خشنةً محرقة وهناك سجد سجدة طويلة وعندما رفع رأسه من السجود كان وجهه المبارك قد أبتّل من الدموع كأنه غمس في الماء..[38] هكذا كان الإمام السجاد (عليه الصلاة وأزكى السلام) وهذا غيض من فيض، وهؤلاء الأطهار هم الذين طلب الله سبحانه وتعالى، منّا أن نودّهم.

جعلنا الله وإياكم من الذين يودّون بجوانحهم وجوارحهم أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) إنه سميع الدعاء..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد الطاهرين.

.............................................

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

......................................................

[1] (الشورى:23)

[2] الشن والشنه، بهاء: القربة الخلقة الصغيرة.. وقيل: الشن الخلق من كل آنية صنعت من جلد، ج؛ شنان، بالكسر..(تاج العروس؛ للزبيدي:ج18 ص327) المحقق.

[3] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج42، ص65، شواهد التنـزيل للحاكم الحسكاني: ج2، ص203، البحار للشيخ المجلسي:ج23 ص 230.

[4] لأنهما يفسران بالمأثور عن أهل البيت  (عليهم السلام) خاصة، مع تعليقات علمية موفقة من المؤلفين (رحمهما الله) المحقق.

[5] (النساء:78)

 [6] راجع تفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج4، ص373، والبرهان في تفسير القرآن للمحقق البحراني ج4ص823

 [7] التوبة: 80

 [8] (الشعراء: 105 109)

 [9] (الفرقان: 56 57)

 [10] (ص:8687)

 [11] وهي السور المباركة الأربعة التي تبدأ (بقل)، وهي: الإخلاص، والكافرون، والفلق، والناس..

 [12] ولدى التأمل يظهر أن هذا الجواب في الحقيقة جوابان.

 [13] (سبأ:47)

 [14] الذاريات: 57 58.

 [15] (الروم:21)

 [16] (الفاتحة:2)

 [17] البحار للشيخ المجلسي:ج46 ص290،عن كشف الغمة..

 [18] التكاثر: 8.

 [19] المقصود: الاتحاد من حيث المآل والنتيجة فتدبر.

 [20] وقد أشرنا نحن إلى التحليل المعنوي لذلك كما أشار هو.

 [21] راجع مفردات الراغب الأصفهاني..مادة (ود)..

 [22] الكافي: ج2، ص77، ح9.

 [23] لأن خوارج القرون المتأخرة، أو من يسمون أنفسهم بالوهابية، ابتعاداً عن الإسلام، هدموا قبور أئمة البقيع، في الثامن من شوال عام 1344 للهجرة، الموافق 21/4/1925 للميلاد.. فيا ويلهم مما كسبت أيديهم.. المحقق.

 [24] آل عمران: 31.

 [25] هو المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي ثار في الكوفة، وقتل كل مَنْ اشترك في معركة كربلاء، لاسيما الرؤوس والقادة.. راجع أحواله وظروف ثورته التي مدحها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كثيراً، البحار للشيخ المجلسي:ج45 ص343 وما بعدها.. المحقق.

 [26] التاريخ الكبير للبخاري: ج7، ص400 وفيه (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، بحار الأنوار: ج9، ص294، ح5.

 [27] وهي (الرسالة) حيث لم يؤد حقها وأجرها.

 [28] الحديث: 2227، الباب 106، بابا إثم من باع حراً.

 [29] (الأنعام:160)

 [30] (المائدة:27)

 [31] النور: 39.

 [32] الفرقان: 23.

 [33] (الأعراف:13)

 [34] راجع البحار للشيخ المجلسي:ج27 ص 175،فيه تفصيل جميل..

 [35] النساء: 65.

 [36] (الإنسان:2)

 [37] راجع البحار للشيخ المجلسي: ج 46 ص 6..

[38] البحار للشيخ المجلسي:ج46 ص108..

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 31/آذار/2010 - 14/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م