من ينظر إلى الحراك المجتمعي في البحرين، سوف يجد أن هذا المجتمع
الصغير يتمتع بكاريزما خاصة، ممزوجة بالحيوية والنشاط والتفاعل، هذه
الديناميكية قد لا نجد نظيرًا لها في المنطقة الخليجية.
إن ما أذكره هنا ليس من باب المبالغة؛ ذلك لأن المبالغات في القضايا
المجتمعية كثيراً ما تغطي الوجه الحقيقي للمجتمع، وتؤدي إلى إبراز وجه
مغاير للواقع.
هذه الحيوية بالطبع لها أسبابها وعواملها، ومن هذه الأسباب: التركيب
الديموغرافي، والتنوع المذهبي والعرقي والثقافي، والموقع الجغرافي
الفريد، والصيرورة التاريخية التي صاغت هذا المجتمع، وأما العوامل فهي:
النهضة الثقافية، والحراك السياسي والاجتماعي، وبروز حركات سياسية
معارضة، إضافة إلى التفاعل المجتمعي مع القضايا الدينية والقومية
والثقافية.
مرحلة أمن الدولة التي دامت 27 عاماً شهدت انتهاكات فاضحة لحقوق
الإنسان، فكان يجب أن تخرج البلاد من ذلك المأزق السياسي، ويحدث انفراج
حقيقي عبر الاعتراف بالحقوق الأساسية، وإطلاق الحريات، والإفراج عن
المعتقلين، وعودة المنفيين، والعمل على بناء دولة المؤسسات.
الخطوة الإصلاحية الجريئة التي أقدم عليها جلالة الملك كانت كافية
لطيّ صفحة الماضي الأليم، التي بموجبها نقلت البحرين إلى مرحلة من
الاستقرار والانفتاح السياسي، فأطلقت الحريات، وأفرج عن المعتقلين،
وعاد المنفيون، وتوقف التعذيب في السجون. وزارة الداخلية سعت للتكييف
مع الواقع الجديد، فعملت على نشر ثقافة حقوق الإنسان في أوساط رجال
الأمن.
كوادر المعارضة التي تعاملت مع المنظمات الحقوقية في العالم، سعت
بدورها إلى نقل تجاربها إلى الداخل، وساهمت بشكل فعال في نشر ثقافة
حقوق الإنسان. ومنذ التوقيع على الميثاق، شهدت البلاد حراكاً سياسياً
وحقوقياً وإعلاميًا ونقابياً كبيراً مما أحدث ديناميكية في المجتمع،
وهذا الاستحقاق يعتبر أمراً طبيعياً لشعب قرّر العيش بكرامة بعد سنين
من المعاناة.
في الأسبوع قبل الماضي كنا على موعد مع مشاهد مهمة للحراك الحقوقي
في البحرين، يتطلب منا الوقوف وقفة تحليلية بعيداً عن الانفعال
والاصطفاف السياسي؛ لأن المطلب الحقوقي يعتبر هو الأصل، بل هو أم
المطالب؛ ذلك لأن حقوق الإنسان تعتبر القاعدة الأساسية لعملية التنمية.
المشهد الأول: نائب مدير قسم الشرق الأوسط بمنظمة “هيومن رايتس ووتش”
جو ستورك يحضر إلى البحرين، ويلتقي بالمسؤولين والحقوقيين، وقد التقيت
به شخصياً في ليلة الأربعين أثناء تفقده لمواكب العزاء في المنامة،
صافحته ورحبت به في البحرين.
وفي اليوم التالي (8 فبراير) أطلق تقرير منظمته حول البحرين بعنوان
“التعذيب يُبعث من جديد”، وقد أشار إلى بعض النماذج، وطالب الحكومة
بالتحقيق في مزاعم التعذيب. والمشهد الثاني: وكيل وزارة الداخلية ورئيس
لجنة حقوق الإنسان بالوزارة العميد طارق بن دينة أكد “أن التقرير افتقر
إلى الموضوعية والحيادية وانحاز إلى وجهة نظر أحادية”.
وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة أكد بدوره
التزام البحرين بحقوق الإنسان وبمواصلة التعاون مع المنظمة، وأضاف أن
الحكومة ستنظر في الادعاءات التي أثارها التقرير. والمشهد الثالث:
الأمين العام للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان عبدالله الدرازي –المستقيل-
أصدر بياناً في اليوم التالي، نفى وجود أي علاقة لأسماء الضباط الذين
وردت أسماؤهم في التقرير واتهامهم بأنهم مارسوا التعذيب.
البيان أحدث بلبلة في أوساط الجمعية، وعلى إثره قدم الدرازي
استقالته من الأمانة، ووعد بالاستمرار في الجمعية. والمشهد الرابع:
معظم الصحف العالمية والقنوات الفضائية الغربية أشارت إلى التقرير، أما
في الداخل فقد تصدر الخبر حديث الصحف والمجالس والمنابر، والمؤسف أن
بعض الأقلام والشخصيات كعادتها توترت وانفعلت أكثر من الحكومة نفسها.
والمشهد الخامس: العميد بن دينة ثمن موقف الجمعية البحرينية لحقوق
الإنسان بعد البيان الذي أصدره الدرازي قبل أن يستقيل، وأكد “أن
المرحلة القادمة سوف تشهد مزيدًا من التعاون والتواصل بين الداخلية
والجمعية من أجل تطوير العمل الحقوقي في المملكة”.
والمشهد السادس: وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة
يجتمع بأعضاء البرلمان ويعلن: “لا يوجد تعذيب ممنهج في البحرين، ونحن
أولى بإنصاف هذا البلد وأهله ونرفض مبدأ التعذيب، ولا ولن يتم التغاضي
عمن يسيء المعاملة إلى أي مواطن أو مقيم في المملكة”... المشاهد الست
تبرز مدى تنامي الوعي الحقوقي في البلاد على المستويين الرسمي والشعبي
على رغم بعض الخروقات والتجاوزات، وكذلك بعض التعديات على الممتلكات
العامة والخاصة.
إن تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع يعتبر مسؤولية الجميع،
والمسؤولية الأكبر تقع على عاتق الحقوقيين والسياسيين والإعلاميين
وأصحاب القرار. باعتقادي، الحراك الحقوقي الأخير سوف يترك تأثيراً
إيجابياً في المجتمع، وفي موقف الحكومة تجاه ملف حقوق الإنسان. |