
شبكة النبأ: إن مفهوم قيام رأي عام في
السعودية، التي تتبع سرية تامة في العديد من قراراتها، يكاد يشكل
تناقضاً لفظياً. فمن الصعب الوصول إلى بيانات ثابتة، وحتى أكثر ندرة
الحصول على معلومات حول القضايا الخلافية الراهنة والحساسة
استراتيجياً، والتي تشمل، وجهات نظر حول القيام بعمل عسكري ضد إيران،
والفساد وحالة الحريات المدنية داخل المملكة، والتطرف الديني وتنظيم
القاعدة، وجمع التبرعات لمنظمات جهادية أخرى.
وفي هذا الشأن الغامض كتبَ ديفيد بولوك، مؤلف نشرة المجهر السياسي
باللغة الانكليزية مقالاً في فورين بوليسي.كوم، قال فيه: تمكنتُ من
الحصول بالضبط على أنواع حساسة وشبه سرية من البيانات من خلال العمل مع
"مؤسسة پيختر لاستطلاعات الرأي في الشرق الأوسط"، وهي مؤسسة أبحاث
مقرها في مدينة پرينستون في ولاية نيوجرسي الأمريكية، وكذلك مع فريق
مسح إقليمي معترف به.
ويضيف الكاتب، كانت النتائج فاتحة للعيون، حيث سيوافق ثلث الرأي
العام في المملكة على توجيه ضربة عسكرية أمريكية ضد البرنامج النووي
الإيراني، وحتى ربع الرأي العام، هو على استعداد للقول بأنه سيؤيد قيام
عملية [عسكرية] إسرائيلية. وترغب غالبية كبيرة من السعوديين إجراء
انتخابات محلية، التي تم تأجيلها لمدة عامين. وتقول أيضاً أغلبيات
محكمة من السعوديين أن الفساد والتطرف الديني تشكل مشاكل خطيرة في
بلدهم. وفي الوقت نفسه، يقول 36 في المائة من المستطلعين إن التبرع
بأموال لـ "المجاهدين المسلحين الذين يقاتلون في أماكن مختلفة في جميع
أنحاء العالم" هو "واجب شرعي"، ولكن نحو نصف هذه النسبة المئوية فقط
عبرت عن أصوات مؤيدة لتنظيم «القاعدة».
ويتابع، مع ذلك فإن النتائج الأكثر إثارة في هذا الإستطلاع، هي عدم
تصنيف أياً من هذه القضايا الساخنة في مرتبة عالية جداً في جدول أعمال
الجمهور مقارنة بالقلق الإقتصادي. وفي الواقع، حددت الغالبية العظمى من
المواطنين في المناطق الحضرية في هذا البلد الغني بالنفط، التضخم أو
البطالة أو الفقر، كأهم الأولويات الوطنية في المملكة العربية السعودية.
ويبيّن، لقد مثلت عملية جمع البيانات لاستخلاص هذه الاستنتاجات
تحدياً فريداً من نوعه، ولكنها لم تكن مستعصية وبعيدة المنال. وهناك
مجموعتان من الصعوبات العملية التي تحد من [قابلية] المستطلعين الذين
يعملون في هذا البلد المحافظ الذي يخضع لرقابة متشددة، وهي: قيود
سياسية أو ثقافية، وتحديات معينة عند اختيار العينة المناسبة لإجراء
الدراسة. ولحسن الحظ، فبعد أن عملتُ مدة 25 عاماً في هذا المجال، تمكنتُ
من وضع بعض الحيل من أجل جمع المعلومات في مثل هذه المجتمعات. إن إحدى
الأدوات القيمة للغاية، التي ابتكرتها في المنطقة خلال الأزمة بين
العراق والكويت عام 1990-1991، هو "تحميل" بعض المسائل السياسية "على
ظهر" مسح لمنتجات تجارية -- تتعلق بالسيارات، وغسيل شعر الرأس -
الشامبو، وجماهير وسائل الأعلام، وشركات الطيران،.... كل شيء تقريباً.
لقد أصبحت الآن هذه الدراسات الإستقصائية عادية في معظم البلدان
العربية؛ وتتمتع تقنية الإقتراع هذه، التي هي "سلاح ذو حدين"، بسجل قوي.
إن هذه الاستراتيجية نافعة حيث أنها تحد بصورة كبيرة من احتمالات تدخل
السلطات المحلية، وفي الوقت نفسه، تتمتع بمزية إضافية حيث تضع
المشاركين في مواقف أكثر سهولة تتعلق بتساؤلات "تؤدي إلى قيام المشارك
في الإستبيان بالإجابة على الأسئلة الصعبة" قبل التطرق إلى القضايا
الإجتماعية أو السياسية الحساسة.
ويستدرك الكاتب، أحياناً يمكن أن يكون الإنتقال من موضوع إلى آخر
محرجاً بعض الشيء، لكنه ينتهي بسلاسة. فخلال منتصف التسعينيات من القرن
الماضي، وبينما كنتُ أرصد دراسة استقصائية في إحدى القرى العربية،
ألحقنا عدداً كبيراً جداً من المسائل السياسية المباشرة مع دراسة طويلة
حول تسويق -- من بين كل الخيارات المتاحة -- اللعبة البلاستيكية لصنع
النماذج الميكانيكية للأطفال ("ليغو"). وقد كان أحد المشاركين في
الإستبيان على اقتناع بأنه يجب أن تكون هناك صلة من نوع ما بين السياسة
ولعبة "الليغو"، واستمر مصراً يطلب مني أن أشرح له كيف أن الموضوعين
مرتبطان. لست متأكداً من أنني كنت قادراً على إقناعه بأنه لا توجد هناك
حقاً علاقة بين الإثنين، باستثناء الفرصة المناسبة للجمع بين موضوعين
ليس لهما صلة الواحد مع الآخر بالإضافة إلى التوفير في التكاليف في
استطلاع واحد. ومع ذلك، فحتى تلك المقابلة قد أسفرت عن أجوبة واضحة،
ومدروسة، وعلى ما يبدو أيضاً ردود صريحة تماماً على جميع الأسئلة
الواردة في استمارة الإستبيان، سواءاً كانت عن لعبة "الليغو" أو
السياسة.
ويضيف، في الشرق الأوسط يُنظر إلى استطلاعات الرأي التي تُجرى عن
طريق الهاتف، بعين الشك بالرغم من أنها مغرية ومن السهل تنظيمها. لذلك
تعتبر رديئة بصورة متميزة مقارنة بالمقابلات الشخصية، وخاصة فيما يتعلق
بأي شيء مثير للجدل. فيجب اختيار الأشخاص الذين يقومون بإجراء
الإستطلاع من سكان المنطقة، مما يتيح لهم الإنخراط بسهولة في المجتمع،
ولكي يضمنوا أيضاً مشاركة المواطنين السعوديين فقط في اختيار العينات
المناسبة لإجراء الدراسة، وليس الملايين من العمال الضيوف الناطقين
بالعربية – كما لا يجب مشاركة المحليين [الساكنين والعاملين في المنطقة]،
لأنهم معروفين شخصياً في الحي. كما أن المراعاة التامة للتفريق بين
الجنسين هي أمر حيوي أيضاً: النساء يجرون مقابلات مع النساء؛ والرجال
يجرون مقابلات مع الرجال.
ويوضح، كما أن الظاهرة الثقافية المشتركة الأخرى هي الرفض الواسع
الإنتشار للإعتراف بالجهل، حتى عن أشياء غامضة أو تافهة. لذلك، عندما
تُطرح أسئلة حول ما إذا كان المجيبون مطلعون على مختلف المواضيع أو
القضايا، قد يكون من المفيد إدخال مصطلح وهمي تماماً ليكون مشمولاً ضمن
قائمة الأسئلة، كوسيلة للتحقق من الواقع. وقال 70 في المائة -- وهي
نسبة ملحوظة -- من الجمهور في هذا الإستطلاع السعودي الذي جرى في
المناطق الحضرية بأنه كان على علم بـ "مجلس الشورى"، الذي هو مجلس
استشاري بحت معين من قبل الملك، والذي نادراً ما يُذكر في الأخبار من
ناحية تحقيقه إنجازات حقيقية على أرض الواقع. وعندما أعود وأتأمل في
الماضي، كنت أتمنى لو سألتُ أيضاً "سؤال تحكم" للتحقق من صحة هذا الرقم.
ويقول الكاتب، في استطلاع تجاري أجريته مؤخراً في مصر والأردن، على
سبيل المثال، سألتُ عما إذا كانت بعض الأسماء التجارية أمريكية أم لا –
فقد "اخترعتُ" علامة تجارية "من لا شئ" أسميتها «جورج – ملابس رياضية»،
ووضعتها على قائمة الإستطلاع جنباً إلى جنب مع علامات تجارية حقيقية
مثل معجون الأسنان «كريست»، و «زيروكس»، و «نسكافيه». وكما توقعت، فقد
أجاب ما يقرب من نصف المصريين والأردنيين عن رأي ما، حول ما إذا كانت «جورج
– ملابس رياضية» هي علامة تجارية أمريكية أو غير أمريكية – على الرغم
من أن الحقيقة هي أن لا وجود لها على الإطلاق. وفي إسرائيل أيضاً حصلتُ
على نتائج مماثلة على أسئلة وهمية من هذا القبيل. والدرس المستفاد هو
أنه يجب اتخاذ الإستنتاجات حول أسئلة مماثلة في هذه البلدان بتشكك.
إنني فعلاً لست متأكداً لماذا يبدو أن المشاركين في إستطلاع كهذا في
الولايات المتحدة وأوروبا هم أكثر استعداداً ليقروا بأنهم لم يسمعوا عن
شئ ما؛ ولكن إذا تم متابعة السؤال بسؤال آخر يتعلق بنفس الموضوع، غالباً
ما يعبر هؤلاء عن رأي حوله على أية حال!
ويمكن أيضاً أن تظهر إلى حيز الوجود قضايا تتعلق بالترجمة، وتنطوي
أحياناً على استنتاجات كبيرة. فعلى سبيل المثال، كانت إحدى الأسئلة في
الإستطلاع السعودي الحالي، والتي طُرحت أصلاً باللغة الإنكليزية تتعلق
بدعم "المجاهدين المسلحين". وقبل الموافقة على نسخته النهائية، عاد هذا
السؤال [من الطباعة] وهو يشير إلى زلة صغيرة في الحرف السادس من الكلمة
الثانية حيث أشار إلى -- "المجاهدين المسلمين"، وكان لا بد من تصحيح
الكلمة على عجل قبل أن يتم طبع الإستبيانات بصورة نهائية.
وعندما يتعلق الأمر بالتحديات الفريدة حول اختيار عينة مناسبة
لإجراء الدراسة تكون ممثلة للسكان في المملكة العربية السعودية، كان
يتوجب تكييف الأساليب المثالية للتعامل مع الواقع المحلي. ففي مثل هذا
المجتمع التقليدي، حيث أن استطلاعات الرأي العام هي نادرة للغاية، هناك
فقط قلة من الناس الذين اختيروا بصورة عشوائية ويكونون على استعداد
لدعوة أشخاص غرباء تماماً إلى منازلهم، لكي يقوموا بالإجابة على
أسئلتهم الفضولية -- بل وحتى هناك عدد أقل سيوافق على القيام بذلك إن
كان هؤلاء من النساء. وستكون النتيجة بمثابة مسح ناقص ومتخلف باعتراف
الجميع، ولكنه مع ذلك يمثل المراكز السكانية الرئيسية -- وهو أفضل
بكثير من التخمينات، والنوادر، والمفاهيم التقليدية التي غالباً ما
تؤخذ بعين الإعتبار لتحليل آراء الرأي العام السعودي.
ويوضح الكاتب، إن الطريقة الأساسية المطبقة في المملكة العربية
السعودية هي استخدام عينات "مختلطة" لإجراء الدراسة. ولتحقيق ذلك،
اختير حوالي 100 موقع بصورة عشوائية، وتم توزيعها وفقاً لحجم السكان.
ولو كان ذلك استطلاع مثالي لكانت قد اختيرت الأسر بصورة عشوائية مطلقة،
ولكننا اضطررنا إلى استقصاء المشاركين في الإستبيان وفقاً لـ "توصية"
أو عينة مرجعية (كرة الثلج). وفي كل موقع، قام أحد المشاركين في
الإستبيان، بإحالة الشخص الذي أجرى المقابلة إلى أسرة أخرى، التي لم
تجرى معها مقابلة – وقد اتخذت هذه الخطوة لكي لا "يوصي" الناس على
آخرين يعتقدون بأنهم سيعطون الأجوبة "الحقيقية". وبدلاً من ذلك، قام
شخص من المنزل الثاني بإحالة الشخص الذي أجرى المقابلة إلى منزل ثالث.
وهكذا تم اختيار المشارك المقبل في هذا الإستبيان، وكما في السابق أخذت
العينات هذه المرة أيضاً على نحو عشوائي. إن هذا هو السبيل العملي
الوحيد للشخص الغريب لكي يصل (بالضبط) إلى ما وراء الجدران المنزلية
العالية في المجتمع السعودي من أجل القيام بإجراء مسح ما.
ويتابع الكاتب، عندما قمنا بإجراء الإستطلاع الأخير، ضاعفنا عدد
المقابلات إلى 1000 -- مقارنة بالرقم العياري الذي هو عادة نصف هذا
العدد في الكثير من الدراسات الإستقصائية -- وذلك لكي نضمن أن تكون
لدينا عينة ممثلة. ولكي نحصل على المزيد من التأكيدات، فحصنا العينة
الديموغرافية المناسبة لإجراء الدراسة (الجنس، العمر، التعليم، الطبقة
الاجتماعية، والمهنة) مقابل الإحصاءات بالنسبة لمجموع عدد السكان، وإذا
لزم الأمر قمنا بتعديل أرقامنا. وقد تم استخلاص هذه الإحصائيات في
أعقاب إجراء مئات الدراسات الإستقصائية السابقة لأن المملكة العربية
السعودية لا تنشر بيانات تعداد تفصيلية.
بالإضافة إلى ذلك، ولأسباب لوجستية وغيرها من الأسباب العملية،
أُخذت العينة في المناطق الحضرية فقط بدلاً من جميع أنحاء البلاد. وقد
شملت ثلاث مناطق حضرية رئيسية هي جدة والرياض والدمام/الخبر، التي تمتد
من غرب البلاد، عبوراً بوسطها، وإلى المناطق الشرقية. وهذا يعني أنه لم
تؤخذ في الحسبان بعض المناطق الحضرية الكبيرة نسبياً، بما في ذلك
المعاقل الإصولية السنية في مكة المكرمة والمدينة المنورة في الغرب
والقصيم في وسط السعودية. كما لم تشمل العينات مراكز الشيعة في القطيف
والمناطق المجاورة لها في شرق البلاد، والتي لا تسير علاقاتها -- في
أغلب الأوقات -- بصورة سلسة مع الأغلبية السنية. إذاً، ما لدينا هنا هي
دراسة استقصائية عن الرأي العام السعودي في مناطق "المترو الرئيسية".
والسؤال هو: أي من كل هذا مهم حقاً، نظراً لأن المملكة العربية
السعودية لا تكاد تكون ديمقراطية بحيث يتمكن الرأي العام من إسقاط
الحكومة أو حتى التأثير بصورة مباشرة على السياسة العامة؟ إن الحقيقة
العملية هي أن العديد من الحكومات الإستبدادية العربية تشعر بالقلق،
وبدرجات متفاوتة، من المواقف الشعبية الرائجة في مجتمعاتها. وفي الواقع،
ولهذا السبب بالذات، تحافظ بعضها، مثل مصر والأردن، على استطلاعات
رسمية مقبولة ومرضية للغاية.
ويضيف الكاتب، هناك صورة إيضاحية انعكست في الآونة الأخيرة: في
أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2009، وفي سياق تصاعد التوترات بين العرب
والإيرانيين، أظهر هذا الإستطلاع بأن معظم السعوديين والمصريين لا
يريدون أن تقوم حكوماتهم بتخصيص وقت لقناة "العالم" الإيرانية الناطقة
بالعربية، والتي تبث عن طريق الأقمار الصناعية. وبحلول شهر كانون
الثاني/يناير من هذا العام، قررت إدارتا القمرين الإصطناعيين "نايلسات"
المصرية و"عربسات" السعودية وقف بث برامج قناة "العالم" [دون إيضاح
الاسباب]". وربما لم يكن ذلك من قبيل الصدفة تماماً.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالقضايا الحرجة المتعلقة بأمن الحكومات
العربية الداخلي أو الخارجي، تميل هذه الحكومات إلى تجاوز الرأي العام
عند الضرورة. فعلى مدى العقد الماضي، احتفظت معظم هذه الحكومات بصورة
هادئة بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، حتى عندما أثبتت إستطلاعات
الرأي بأن الحرب في العراق قد حولت المشاعر الشعبية باتجاه معادي
للولايات المتحدة بصورة حادة. وقد أظهرت الحكومة السعودية حتى الآن
حماساً قليلاً تجاه القيام بحملة جادة لمحاربة الفساد، حتى في الوقت
الذي تُظهر فيه استطلاعات الرأي أن معظم الجمهور ينظر إلى الفساد بأنه
يشكل مشكلة خطيرة. وقد اتخذت مصر والأردن مواقف صارمة تجاه «حماس»، على
الرغم من استطلاعات الرأي التي تشير بأن الحركة لا تزال شعبية (وإن
كانت أقل من ذي قبل) في تلك البلدان.
ويختم الكاتب بالقول، بعبارة أخرى تحاول معظم الحكومات العربية
ترتيب الأمور بحيث تتلاعب باستمرار بين التعقل والشعبية. فعندما يكون
الخيار لا مفر منه وواضح المعالم، عادة ما يفوز التعقل. ومع ذلك،
غالباً ما تكون النتائج الدقيقة للسياسات العامة، خليط فوضوي من هذين
الأمرين الضروريين -- فعلى سبيل المثال، قيام تعاون حذر ومتكتم مع
واشنطن، والإختباء وراء وسائل إعلام رسمية وشبه رسمية مناهضة بصورة
حادة للولايات المتحدة. إن تحليل آراء الرأي العام، حتى في هذه الأنظمة
الإستبدادية، هي الخطوة الأولى لمعرفة سمة العزم ودرجة الفوضى التي من
المرجح أن تؤثر على اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة العربية. |