رغم الشبهات التي رافقت نشاطات المستشرقين في البلاد الإسلامية
عامة،والبلاد العربية خاصة،ورغم الأهداف والأغراض الإستعمارية –الخفية
والعلنية-التي قدموا من أجلها إلى هذه البلدان في محاولة منهم لفهم
العقلية الإسلامية، وبالتالي تمرير مخططاتهم على ضوء ذلك الفهم،إلا أن
هؤلاء المستشرقين كان لهم –من حيث شعروا أو لم يشعروا-فضل في لا يمكن
أن ننكره في تطوير الدراسات والبحوث الأدبية وخاصة في مجال النقد
والتحليل الأدبيين، حيث شرعوا يدرسون الأدب العربي القديم ويبحثونه بل
إن دراساتهم وبحوثهم هذه شملت حتى الأدب العربي المعاصر على ضوء
المناهج التي درسوا من خلالها تراثهم الأدبي.
تطوير مناهج الدراسة الأدبية
وبطبيعة الحال فقد تأثر نقّادنا وباحثونا في مجال الأدب والدراسات
الأدبية بتلك المناهج الحديثة فعمدوا إلى تطبيقها بحذافيرها أو مع
إيجاد بعض التغييرات فيها والأخذ بها في دراساتهم حيث أخضعوا الأدب
العربي قديمه وحديثه لها، ةهنا بالضبط يكمن دور هؤلاء المستشرقين في
تطوير مناهج دراساتنا الأدبية الحديثة وتحديثها.
ولقد نشر المستشرقون في هذا المجال الكثير من الدراسات التحليلية
حول تراثنا الأدبي، كما وقاموا بنشر الكثير من عيون هذا التراث وترجمته
وتحقيقه، نذكر منها على سبيل المثال (دائرة المعارف الإسلامية) باللغة
الإنجليزية،ونشر كتاب (كليلة ودمنة) و(مقامات الحريري) من قبل المستشرق
الفرنسي "سلفستر دي ساسي" وكتاب (وفيات الأعيان) لإبن خلكان الذي نشره
المستشرق الألماني " وستنفيلد "، و(رسائل أبي العلاء) المنشور مع
ترجمته الإنجليزية على يد المستشرق الإنجليزي " مرجليوث".
وفي مجال تاريخ الأدب العربي، ألف المستشرقون في لغاتهم الكثير من
الكتب التي يعد البعض منها قيّماً ومعتمداً في مجاله من مثل (تاريخ
الآداب العربية) لكارل بروكلمان الألماني،و(التاريخ الأدبي للعرب)
لنيكلسون الإنجليزي،و(تاريخ آداب اللغة العربية) للمستشرق نالينو
الإيطالي.[1]
وفي ميدان الترجمة، نقل الكثير من مصادر الأدب العربي القديم إلى
اللغات الأوروبية من قبل علماء الإستشراق مثل (ديوان الحماسة) وبعض من
أشعار كتاب الأغاني إلى اللاتينية، وديوان كل من امرىء
القيس،والنابغة،وطرفة بن العبد إلى الفرنسية، و(أدب الكاتب) و(تاج
العروس)إلى الإنجليزية، والكتاب لسيبويه و(أطواق الذهب) للزمخشري إلى
الألمانية.
طه حسين في طليعة المتأثرين
كان الدكتور طه حسين في طليعة المتأثرين بهذا المنهج الجديد في
الدراسات الأدبية وكان تأثره هذا عميقاً إلى درجة أنه كان كثيراً ما
يأخذ بآراء المستشرقين ويتحمس في الدفاع عنها في مجال إصدار الأحكام
حول الأدب العربي القديم وخاصة الجاهلي منه، بل إننا نستطيع أن نقرر
هنا دون أدنى مبالغة أن طه حسين لم يكن في الحقيقة –في هذا المجال-سوى
ثمرة من ثمرات الإستشراق، ومبشر بالمبادىء والأصول التي دعا اليها
المستشرقون في مجال دراسة الأدب، وعلى صعيد الرؤية العامة للأدب العربي
الكلاسيكي في عصوره المختلفة.
ومن جملة الآراء التي أبداها الدكتور طه حسين حول الأدب العربي
القديم من واقع تأثره بآراء المستشرقين، القول بأن الجزء الأكبر من
الشعر الجاهلي إنما هو في الحقيقة شعر منتحل، وقد أطلق هذه الفكرة قبله
المستشرق الإنجليزي مرجليوث قائلاً:" بدا المسلمون في حوالي نهاية
العصر الأموي يدعون وجود شعر جاهلي عربي،ولم يكتفوا بذلك حتى زعموا
أنهم جمعوا الجزء الأعظم منه..."[2].
وبوحي من هذا الرأي نفى الدكتور طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي
أن يكون هذا الشعر الذي وصلنا من ذلك العصر موثوقاً به، ومطمأناً إلى
صحته فزعم أن الغالبية العظمى من هذا الشعر منتحلة ومجعولة في العصور
التي تلت ذلك العصر.
وقد بلغ من تحمس طه حسين لمناهج المستشرقين في البحث
الأدبي،والإستنتاجات التي توصلوا اليها في هذا المجال، أنه قال في
الكتاب السابق ما نصه:" وكيف نتصور أستاذاً للأدب العربي لا يلم ولا
ينتظر أن يلم بما انتهى اليه الفرنج من النتائج العلمية حين درسوا
تاريخ الشرق وآدابه ولغاته المختلفة؟ وإنما يُلْتَمَس العلمُ الآن عند
هؤلاء الناس، ولابد من التماسه عندهم حتى يتاح لنا نخن أن ننهض على
أقدامنا، ونطير بأجنحتنا، ونسترد ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومنا
وآدابنا وتاريخنا..."[3].
موقف معتدل
وبعيداً عن الدكتور طه حسين ومغالاته في الدعوة إلى الأخذ بالنتائج
التي توصل اليها المستشرقون،والمبادىء التي استندوا اليها وانطلقوا
منها في استنباط هذه النتائج،نرى في المقابل أن هناك طائفة أخرى من
النقاد والباحثين الأدبيين والتاريخيين وقفوا موقفاً معتدلاً من ظاهرة
الإستشراق، فأبرزوا ما كان فيها من عيوب ونقاط ضعف،ولم ينكروا في نفس
الوقت الدور الذي لعبته في تطوير مناهج البحث الأدبي والتاريخي لدى
النقاد والمؤرخين والباحثين العرب.
ومن هؤلاء الباحثين الأمير (شكيب أرسلان) الذي كتب في هذا المجال في
معرض تقديمه لكتاب(النقد التحليلي لكتاب "في الأدب الجاهلي") لمحمد
الغمراوي، قائلاً:" وعلى كل الأحوال لايقدر أحد أن يقول إن الشرقيين
ليسوا أدرى من الغربيين بآداب الشرق ولغات الشرقيين، ولا يقدر أحد أن
يدعي فرعليوث (مرجليوث السابق الذكر) وغيره من المستشرقين يستطيعون أن
يفهموا الكلام العربي أكثر من علماء العرب أهل اللسان الذي نشؤوا
فيه،وإن من أحمق الحمق أن أن يظن فرعليوث، لكونه إفرنجياً،صار يميز
الشعر المصنوع على لسان الجاهلية من الشعر الأصلي،وأنه صار يظهر له
فيهما ما يخفى على مثل سيبويه والخليل والفراء والأخفش والمبرّد وأبي
علي الفارسي وابن جني والزمخشري... إننا نعرف كثيراً من هؤلاء
المستشرقين، وحادثناهم ونفضنا ما عندهم، ومنهم من يُعَدّ في الطبقة
الأولى من هذا الجنس،ولاننكر ماعندهم من علوم واسعة،وآراء صائبة،ونظرات
دقيقة،ولمحات عامة،وطرق في البحث جليلة،وإن منهم مؤلفين عظاماً،
ومنقبين دهاة،ولكننا لا نتردد في القول إننا لم نجد منهم واحداً إذا
رجعت المسألة إلى العربية، نقدر أن نعدّه عالماً، وأن نقرنه إلى علماء
هذه الأمة الحاضرين فضلاً عن الغابرين،وأتذكر أني لقيت أشهرهم وسمعت
منه الخطأ في الشعر العربي،ولكننا نظراً لكونهم أجانب عن اللسان نرى
قليلهم كثيراً،ونغضي على ضعفهم..."[4].
ولاريب في أن ماقرره (شكيب أرسلان)بشأن عدم قدرة الناطقين بلغة
أخرى غير العربية على فهم النصوص الأدبية العربية وتذوّقها بنفس مستوى
فهم أهل هذه اللغة وتذوقهم أنفسهم،صحيح وجرّب إلى حد كبير وخصوصاً فيما
يتعلق بالمصطلحات والتعبيرات والتراكيب التي لا يمكن فهمها بشكل كامل
أو كلية من خلال الرجوع إلى كتب اللغة ومعاجمها بل هي بحاجة إلى (ذوق
عربي) لفهمها وإدراكها بالشكل الصحيح نظراً إلى طبيعة تلك التعبيرات
الإصطلاحية. ولذلك ليس من المنطقي والمعقول –كما أشار إلى ذلك أرسلان –
أن نستند بشكل كامل إلى آراء هؤلاء المستشرقين فيما يتعلق بإصدار
الأحكام حول النصوص الأدبية القديمة وكونا منتحلة أم غير منتحلة.
نموذج من الخطأ في فهم النصوص
ولذلك فقد وقع بعض من المستشرقين في بعض الأخطاء عند شرحهم وترجمتم
لتلك النصوص[5]، نذكر منها على سبيل المثال الخطأ الذي وقع فيه
المستشرق البولوني (كازميرسكي) في شرح للبيت التالي:
بأبي أنت وأمي من مليكٍ قلَّ عدلُه وبخيلٍ بالهوى لو كان
يُغني عنه بخلُه
فلقد ترجم كلمة (الهوى) إلى (الهواء)،فقال إن المذموم بخيل إلى درجة
أنه يبخل بإعطاء الهواء!
وفيما عدا ذلك فإن أهمية الأنشطة التي قام بها المستشرقون فيما
يتعلق بالأدب والتاريخ تكمن في الطابع العلمي الدقيق الذي تميزت به
بحوثهم ودراساتهم، باستثناء البعض منهم والذين كانوا يعمدون إلى تشويه
بعض الجوانب من التاريخ الإسلامي لأسباب سيسية وعنصرية ومذهبية مختلفة
من مثل المستشرق (ارنست رينان)، وقد ساعدهم على ذلك الإمكانيات الهائلة
التي يتمتعون با وتخصيص نفقات غير محدودة من قبل حكوماتهم لأعمالهم،
وتوفر المخطوطات في مكتباتهم لأمهات المصادر الأدبية والتاريخية التي
تسرّبت إلى أوروبا بفعل الظروف المختلفة التي تعرض لها المسلمون في
تاريخهم إلى درجة أنهم عمدوا إلى تنظيم فهارس دقيقة وخاصة لتلك
المخطوطات لتسهل عملية مراجعتها والإستناد إليها.
وفضلاً عن ذلك فقد كان هؤلاء المستشرقون يبادرون إلى عقد المؤتمرات
بشكل منظم، وتشكيل الجمعيات المختلفة، وإصدار المجلات والدوريات
المختلفة التي كانوا ينشرون فيها ما توصلوا اليه في المجالات التي
تخصصوا فيها، كما وقاموا بإنشاء معاهد للدراسات الشرقية في لندن وباريس
وبرلين وغيرها من العواصم الغربية، حيث تحتوي هذه المعاهد على مكتبات
ضخمة تيسّر سبل الدراسة والبحث إلى درجة أن الطلبة الشرقيين أخذوا
يتوافدون على هذه المعاهد لتعلم مناهج الدراسة الغربية للأدب والتاريخ.
كل تلك الإمكانيات والظروف المواتية التي توفرت لعلماء لإستشراق،
أضف إلى ذلك الحرية الواسعة التي كانوا يتمتعون بها في إبداء الآراء،
وعرض النتائج،وتشجيع حكوماتهم لجهودهم، كان لها الأثر الأكبر في تلك
الدقة التي اتسمت بها دراساتهم، والطابع العلمي الذي تمتعت به، وتعويل
الباحثين والمحققين الشرقيين عليها والأخذ بها.
الحذر واجب
ومع ذلك فإننا لانؤيد بشكل مطلق جميع التحليلات والاستنتاجات التي
نشرها المستشرقون خاصة فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي، فنحن ننظر بعين
الشك والارتياب الى تلك التحليلات وخاصة المتعلقة بالنقاط الحرجة
والمتأزمة من هذا التاريخ، فإن البعض من هؤلاء المستشرقين حاولوا وبسبب
روحهم المتجردة من المشاعر الإسلامية أن يكرّسوا عوامل التفرقة بين
المسلمين من خلال استغلال تلك المنعطفات الخطيرة، وأن يتعاملوا مع
المسلمين ومع الدين الإسلامي من دافع كونهم –أي المستشرقين-منتمين إلى
عقيدة أخرى، ومحرَّكين بدوافع سياسية ووطنية وقومية مختلفة، كتعاملهم
مع أية عقيدة أخرى غريبة عليهم.
وعلى هذا فإن علينا أن نكون على حذر وتيقظ شديدين ونحن نستند إلى
كتبم ودراساتهم في مجال التاريخ الإسلامي، وأن لا نعتمد على هذه
المؤلفات بنفس المستوى الذي نعتمد في على كتاب ألفه باحث أو مؤرخ
إسلامي.
وعلى أية حال،فنحن لا ننكر أن البعض من المستشرقين كانوا منصفين
إلى حد ما في استنتاجاتهم وآرائهم، ولكن وجود مثل هذه الأقلية لايبرر
أن نثق ونطمئن بشكل مطلق إلى النتائج التي عرضوها، فحتى هؤلاء العلماء
لم يكونوا منصفين بنسب متساوية في جميع الموضوعات التي تطرقوا اليها.
وبشكل عام يمكننا القول إن عملية الإستناد إلى مؤلفات المستشرقين
ينبغي أن تتم من قبل أخصائيين بإمكانهم الفصل بين ماهو مدسوس مغرض،وبين
ما هو مرتكز على الروح العلمية الموضوعية البعيدة عن النوازع المختلفة.
Saadi-omran@live.com
................................................
[1] للتوسع في هذا المجال:يراجع كتاب(تاريخ آداب
اللغة العربية) لجرجي زيدان،و(المستشرقون) لنجيب العقيقي،و(المنتقى من
آثار المستشرقين) لصلاح الدين المنجد.
[2] انظر: نشأة الشعر العربي ديفيد صمويل مرجوليوث:
ضمن كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: ترجمة عبد الرحمن
بدوي دار العلم للملايين لبنان ط1/ 1979 ص: 90، 91.
[3] في الأدب الجاهلي، لطه حسين، لجنة التأليف
والترجمة والنشر،القاهرة،مطبعة فاروق،الطبعة الثالثة،1352هـ-1933م،،ص11
[4] محمد أحمد الغمراوي: النقد التحليلي لكتاب في
الأدب الجاهلي-دار السلفية- مصر – 1929، من مقدمة الكتاب(الشعر الجاهلي
أمنحول أم صحيح النسبة) لشكيب أرسلان، وقد طبعت هذه المقدمة بشكل مستقل
سنة 1980 عن دار الثقافة للجميع،
[5] انظر: نجيب العقيقي. المستشرقون: موسوعة في تراث
العرب, مع تراجم المستشرقين ودراساتهم عنه منذ ألف عام حتَّى اليوم. ـ
3 مج. ـ ط 4. ـ القاهرة: دار المعارف, 1980م. ـ 2: 47. |