حدث وتحليل: لا تصالح..

 مأزق العراق السياسي والثقافي

كتب: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: عنوان قصيدة شهيرة للشاعر المصري أمل دنقل واعتبرها النقاد من أروع ما كتبه هذا الشاعر.  

لا تصالح، هي الجامع بين قانون اجتثاث البعث الذي سنه بول بريمر وهو ينظر إلى رفات ضحايا المقابر الجماعية على امتداد مساحة العراق، وقانون المساءلة والعدالة الذي ضمنه سدنة التشريع البرلماني في الدستور العراقي والذي جاء بعد مخاضات عسيرة..

لا تصالح، شعار المقهورين والمظلومين في دولة العراق منذ تأسيسها في عشرينيات القرن الماضي وحتى سقوط صنم الاستبداد الاكبر وتعليقه على اعواد المشانق بعد العام 2003..

لا تصالح، ليست لازمة عراقية شاذة في تاريخ الشعوب بل سبقتها التجربة الالمانية بعد الحرب العالمية الثانية حين عملت على اجتثاث النازية التي قادت الى الويلات والكوارث وعمت بمصائبها العالم بشرقه وغربه شماله وجنوبه..

التشابه موجود في التجربتين الألمانية والعراقية.. وقد يرد اعتراض حول تجربة جنوب أفريقيا ذات التاريخ الطويل من العنصرية وإبادة السكان الأصليين.. وقد يبدو التناقض واضحا للوهلة الأولى إلا أن ما حدث في جنوب أفريقيا جاء عبر نضال طويل ومستمر ومتراكم صنع في النهاية ضميرا أخلاقيا محليا وعالميا أدى إلى تنازل الأقلية البيضاء عن احتكارها للسلطة وتسليمها إلى الأكثرية السوداء والاعتراف بالأخطاء المرتكبة بحقهم طيلة عقود ماضية..

في التجربة العراقية فر من فر من قيادات البعث الأولى والوسطية وبقي من بقي منهم متنقلا من مكان الى اخر بحثا عن ملاذ امن.. وقد تداركت العديد من مرجعيات المظلومين والمضطهدين مايمكن ان تؤول اليه تقاليد الثار العشائرية وحرموا دمهم ومنحوا القضاء سلطة الملاحقة والمحاكمة وانزال العقاب بمن تلوثت يداه بدماء الابرياء..

وقد حاولت سلطات الاحتلال الامريكي وعبر ممثلها بول بريمر ان تزيل اي عائق امام ماتحاول ان تؤسس له من تجربة ديمقراطية تكون منطلقا الى تغيير شامل يعبر الى الجوار العراقي فسنت قانون الاجتثاث بعد حل اجهزة الجيش والشرطة والمخابرات وجميع الاجهزة الامنية الاخرى لاقترانها بصور القمع والاضطهاد التي عانى منها العراقيون..

في الدستور العراقي الذي سنه برلمان منتخب ولاول مرة في تاريخ العراق تم سن قانون المساءلة والعدالة وتاسيس هيئة حملت نفس الاسم تختص مهامها في عدم عودة البعثيين الى مقاعد السلطة وخصوصا التشريعية، اذ يوجد العديد منهم في السلطة التنفيذية..

القرارات الاخيرة لهيئة المساءلة والعدالة اعترض عليها المستبعدون الذين يتنافسون في ظل الدستور واعطوا هذه القرارات مسحة واسعة من النفس المذهبي رغم وجود اعداد من هؤلاء المستبعدين من مذهب اخر وطوائف اخرى..

احتج الهاشمي – ملك الطعون والاحتجاجات – معترضا حول قانونية قرارات الاستبعاد، واحتج المستبعدون ايضا واضافوا اليها الهوية الطائفية لبعض اعضاء هيئة المساءلة والعدالة.. وتدخلت امريكا عبر نائب الرئيس وسفيرها في بغداد (تحظر امريكا الترويج للنازية وتحاكم عليه) وقدمت الامم المتحدة عبر ممثلها الاممي مقترحاتها.. ولسان الجميع يتحدث بلغة دستورية قانونية..

لم يعتذر المستبعدون عن انتماءهم السابق لحزب البعث ولم يطلبوا الغفران من ابناء شعبهم عن جميع الويلات والمحن التي عاشوها وبالمقابل لم يسامح المضطهدون هؤلاء..

ثمة حقيقتان غائبتان في هذا المشهد:

الحقيقة الاولى: ان هيئة المساءلة والعدالة باستبعادها تلك الاسماء قد نظرت بعدسة لاتميز الا لونين من الوان الطيف السبعة هما الابيض والاسود وعميت عن لون اخر بين اللونين وهو اللون الرمادي والذي توجد في ظله الالاف من كوادر البعث والذين كانوا ايضا وقودا لطواحين النظام السابق..

الحقيقة الثانية: كان الانتماء الى حزب البعث في العراق وخلال ثلاثة عقود طريقة حياة تضمن اكمال الدراسة الجامعية والدراسات العليا وتضمن التوظيف في دوائر الدولة وعددا اخر من الامتيازات..

هاتان الحقيقتان يكشفها قول للرئيس المخلوع صدام حسين في نهاية السبعينات من القرن المنصرم في احد لقاءاته العديدة (العراقيون جميعا بعثيون وان لم ينتموا) وهو انتماء قسري في غالبيته العظمى نتيجة سياسة التبعيث التي اتبعها النظام السابق في بنية الدولة العراقية من رياض الاطفال وحتى اكبر مؤسسة فيها..حتى اصبحت الزوجة تشي بزوجها والابن يشي بابيه واخيه والجار يشي بجاره عبر تقارير يومية ترفع الى مكاتب الحزب في الاحياء السكنية او دوائر الدولة وثكنات الجيش..

وهو طريقة للعيش ارتضاها الالاف من العراقيين خوفا من مغرم او شهوة لمغنم واصبح حال لسانهم يردد المقولة الديكارتية الشهيرة مع بعض التحوير (انا بعثي اذا انا موجود).. اصبحت طريقة الحياة هذه ثقافة وسلوكا ارتضاها المجتمع العراقي عبر الكثير من افراده الا من رحم ربي ولم تكن سبة او عيبا او عارا ان تكون بعثيا فالحواضن الاجتماعية (المنزل – المدرسة – الجامعة – الشارع – الدائرة الحكومية) تدفع الى هذا الانتماء والمزايدة في الولاءات عليه..

وقد تغيرت الكثير من اخلاقيات المجتمع العراقي طيلة تلك العقود الثلاثة، وهو تغير حتمي يلحق بجميع القيم والاخلاقيات في المجتمعات المقموعة، وهو مايمكن تسميته بـ (الاخلاق المقموعة)..

يقول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد: الاستبداد يضطر الناس الى اباحة الكذب والتحايل والخداع والتذلل ومراغمة الحس واماتة النفس)، ويبتكر جورج اورويل كلمة تصبح جزءا من المفردات العلمية الحديثة وهي (التفكير المزدوج) ويقصد بها القدرة على الامساك بمعتقدين متناقضين في عقل المرء في وقت واحد والقبول بكليهما..

ويقول احمد صالح في كتاب (اليمين واليسار في الاسلام) حين يحكم السيف تضيع الكرامة ويستسلم الناس ويستدعون من انفسهم كل الكوامن الخبيثة ليعايشوا السلطة القاهرة باسلحة من طباعها )..وهو ماحدث طيلة سنوات طويلة من سيادة حكم البعث في العراق ومايمكن تلمس اثاره العديدة في الشارع العراقي وفي جميع مرافق الحياة الاخرى..

الحقيقتان السابقتان بحاجة الى وقفة من رجال التشريع والقانون، والهيئات الدينية والروحية في المجتمع العراقي، وكذلك الهيئات التعليمية الرسمية والاهلية للعمل على تقويض تلك الثقافة الحياتية والسلوكية واعادة تأسيس ثقافة جديدة تليق بالمتغير السياسي الذي حصل في العراق.. المهمة قد تكون عسيرة وشاقة الا انها ليست مستحيلة..

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 10/شباط/2010 - 25/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م