السماحة في الدين

أديب عبدالقادر أبو المكارم

إن الوضع الذي عاشه المسلمون لاسيما في العهد الذي أصبح الحكم عندهم ملكًا عضوضًا كان وضعًا حافلاً بسجلاّت الظلم والجور بشتى أنواعه. والعهد الذي نعيشه نحن المسلمين اليوم ابتلت فيه الأمّة بجماعة لا تعرف إلا الإرهاب والتفجير والقتل هنا وهناك، والانتهاك لحقوق الأبرياء، والنشر لثقافة التمييز والعنصرية، والتضييع لحقوق الأقليات الدينية، وغيرها من الأمور.

 لقد صبغت هذه الجماعة الدين الإسلامي بصبغة الإرهاب والعنف، وهو بريء من كل ذلك، ورسوله الذي بشّر به بالمؤمنين رؤوف رحيم، بل هو رحمة للعالمين جميعًا. لو أظهرنا للناس سماحة الدين، وسماحة سيد المرسلين (ص) التي يحفل بها سجله التاريخي، وتغيب عن تطبيق كثير من المسلمين، لو أظهرنا كل ذلك وطبقناه لرأينا الناس تدخل في دين الله أفواجًا، كيف لا، وهو الدين الذي وعد الله بأن يظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.

 لذا فموضوعنا حول هذا الأمر وهو السماحة في الدين والذي سوف نتناوله في عدة نقاط.

النقطة الأولى: معنى السماحة

السماحة لغة بمعنى الجود. وسَمَحَ أي جاد، وصار من أهل السماحة أي من أهل العطاء والجود(1). الجواد هو من يعطي قبل السؤال أو هو كثير العطاء وهو السخي. ولهذا يقول الشاعر أبو نواس:

رأيت لفضلٍ في السماحة همة              أطالت لعمري غيظَ كلِّ جوادِ(2)

أي أنّ كرم الممدوح فاق كل كريم وسخي.

وتقول: اسْمَحْ لي. أي جد عليّ وتفضل، كقول الشاعر الأثاري:

فالمح بعينك ثم اسمح بها كرمًا             واستخدم العيش في الدنيا بخيرهم(3)

وتقول: سأسمحُ لك بذلك. أي سأجود لك بذلك، كقول الشاعر السيد حيدر الحلي:

ولولا أنت كنتُ بهِ شحيحًا              ولم أسمحْ بجوهرةِ الأنيقِ(4)

هذا المعنى الأول لكلمة السماحة، وهي: الكرم والجود. وكما في الحديث عن رسول الله (ص): «آفة السماحة الْمَنّ».

والمعنى الآخر لها هو: السهولة في الشيء ولينه، وتعني تيسير الأمور وتسهيلها. فالمسامحة تعني: المساهلة. وتقول: تسامحوا أي تساهلوا. وسَمحَ أي فعل شيئًا فسهّل فيه، كقول ابن عباس (رض): «اسْمَحْ يُسْمَحْ لك». قال الأصمعي: «أي سَهِّلْ يُسهل لك وعليك». ويقال الحنفية السمحة: «أي ليس فيها ضيق ولا شدة»(5). والتسامح في الشيء أي التساهل فيه.

إذًا فلمفردة السماحة معنيان هما: الجود والتساهل. وكلا الأمرين نحن بحاجة لهما. فحين نقرأ في دعاء كميل مثلًا: «أن تسامحني وترحمني»، أي: أن تتساهل معي يا رب وتخفف عليّ حسابك وترحمني، وكذلك أن تجود عليّ بالعفو والمغفرة فأنت العفو الغفور.

وكذلك حين تذكر شخصًا وتقول: سامحه الله، هنا دعاء بأن يتساهل الله معه وأن يجود عليه بالعفو والرضا.

النقطة الثانية: سماحة الإسلام

إن كلا المعنيين يرتبطان بالإسلام ارتباطًا وثيقًا، تجسدا فيه، وكانا من أسمى صفاته وغاياته، وحبّب ورغّب أتباعه للالتزام بهما. فحين يقال: سماحة الإسلام، فذاك لأن الإسلام جمع هاتين الصفتين: صفة التساهل واللِّين، وصفة الكرم والجود.

الدين يسر:

أمور كثيرة في الشريعة الإسلامية تدل على يسر الدين، واهتمامه بتيسير الأمور للناس، والدعوة إلى ذلك. وقد صرّح سيد المرسلين والمبشر بهذا الدين القويم نبينا محمد (ص): «يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا». ولهذا نجد عنوانًا بارزًا في الفقه، وهو: التساهل في أحكم السنن، وهو يعني التساهل في الأحكام الشرعية عدا الواجب والمحرم مثل المستحبات والمكروهات. بمعنى أنه لو ورد استحباب عمل شيء وأن ثواب هذا العمل هو كذا، ولم يكن هذا الأمر قد صدر عن رسول الله (ص) أو المعصوم، فإن من يعمل به سوف يحصل على ذلك الأجر. كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): «من بلغه عن النبي (ص) شيء من الثواب فعمل به، كان أجرُ ذلك له، وإن كان رسول الله (ص) لم يقله».

من جانب آخر كان تعامل رسول الله (ص) باللين واللطف مع الناس لم يكن شديدًا فظًا قاسيًا، ولهذا استطاع أن يدخل الكثيرين في الدين الإسلامي الحنيف، وقد أكدّ رب العالمين على توفر هذه الصفة في نبيه الكريم (ص)، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾(6). ما كان رسول الله (ص) يتعامل مع الناس بالقسوة والتوبيخ في مجتمع كان قد أَلِفَ القسوة والشدة، وكثير من الأحاديث والمواقف في تاريخ رسول الله (ص) نرى فيها كيف أن بعض من معه من الصحابة حين يغتاظ من تصرف شخصٍ ما، يقول: «يا رسول الله، دعني أقطع عنقه». ولكن رسول الله (ص) ما كان يقبل بذلك.

في الحديث المروي في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «أتى رجل رسول الله (ص) بالجعرانة، منصرفه من حنين. وفي ثوب بلال فضة. ورسول الله (ص) يقبض منها، يعطي الناس. فقال: يا محمد اعدل!! قال (ص): «ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن اعدلُ».

فقال عمر بن الخطاب: دعني ـ يا رسول الله ـ فأقتل هذا المنافق.

فقال (ص): «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي»(7).

ويأتي شاب إلى رسول الله (ص) ويقول: «يا رسول الله، ائذن لي في الزنا! فأقبل له القوم وزجروه وقالوا: «مه، مه!»، لكن رسول الله (ص) لم ينفعل مثلهم بل أدنى ذلك الشاب منه وصار يتحاور معه: «أتحبه لأمك؟»، قال: «لا والله جعلني الله فداك». قال (ص): «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم». وهكذا، صار يسأله: «أتحبه لأختك؟ لابنتك، لخالتك؟»، والشاب يجيب: «لا»، وهو يقول له: «ولا الناس يحبونه لأنفسهم». ثم مسح على قلب الشاب ودعى له وأصلحه.

لا عنف في الإسلام:

من سماحة الدين أنه لم يُكرِه أحدًا على الدخول فيه، والآية الكريمة صريحة في ذلك: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(8). حتى حروب النبي (ص) وغزواته لم تكن لإجبار الناس على اعتناق الدين الإسلامي وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، وإنما كانت حروبًا دفاعية، ضد المعتدي وضد من ظَلَم، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾(9). ومع ذلك فإن رسول الله (ص) كان يوجه أصحابه بألا يعتدوا على النساء ولا على الصبيان، بل حتى إنه يمنعهم من الاعتداء على الطبيعة كقلع الشجر. ومن مقاصد الحروب الإسلامية أيضًا الدفاع عن المستضعفين والمظلومين، وحماية العقيدة الإسلامية وغيرها من المقاصد السامية التي هي دفاعية وليست تعدٍ على الغير.

ومِن يُسر الإسلام أنه لم يعتبر غير المسلمين أعداء ولم ينهَ عن معاشرتهم والتعامل معهم كما تشير الآية الكريمة: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(10). ما دام هؤلاء الناس لم يعتدوا عليكم فعاشروهم بالخير، واعدلوا في الحكم والتعامل معهم. هل هناك أكثر سماحة من هذه السماحة؟ هكذا هي تعاليم الدين الحنيف، وهذا ما سار عليه رسول الله (ص) وأهل بيته الكرام.

واقع المسلمين:

لكن المسلمين ـ مع الأسف ـ حادوا عن هذا النهج القويم، النهج السماوي الذي علمهم ورباهم رسول الله (ص) عليه، حتى فتكوا ببعضهم، وطالت أيديهم حتى عترته وأهل بيته (ع) الذين خلّفهم فيهم وأمرهم بمودتهم واعتبر مودتهم لهم أجرًا للرسالة التي أدّاها: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(11). ولماذا يطلب رسول الله (ص) أجراً مع أن جميع الأنبياء (ع) لم يطلبوا أجراً على رسالتهم: ﴿اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا﴾(12)؟ يجيب رسول الله (ص) في آية أخرى: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ﴾(13) يعني هذا الأجر الذي ستدفعونه فيه خيرٌ وصلاحُ لكم فجودوا به. وهذا من تجليات سماحة رسول الله (ص) على أمته.

ولا يزال النهج التعسفي الظالم قائمًا بين المسلمين باللسان، وباليد، وبالسلاح، وغيرها. سواء كان هذا الظلم موجّهٌ ضد بعضهم البعض، أو حتى ضد من لم يحاربهم، وفي ذلك تشويه لصورة الإسلام السمح. نفوس كثيرة من المسلمين تخلّت من روح السماحة التي بثها فيهم الدين القويم، فلا تزال الحروب قائمة بينهم، ولا يزال التمييز بين فئة وأخرى، تنابزٌ بالألقاب، وشتم، وتكفير، وانتهاك للحقوق! كل ذلك بسبب اختلاف في الرأي، واختلاف في الانتماء. أعادوا حالة التمييز التي نبذها الإسلام، وتعاليم رسول الله التي تنص على أن لا فرق بين عربي ولا أعجمي، كلكم لآدم وآدم من تراب. إذا كنّا لا نستطيع أن نعالج أوضاعنا الداخلية كمسلمين فكيف نبرز للعالم وجه الإسلام المشرق؟ وعجيب الأمر، أنه إذا دعى المصلحون لرص الصف والتوحّد والتعايش الأخوي والنداء بالمساواة ـ وكلها أمور دعا لها الإسلام ورسخها في نفوس المسلمين ـ تسمع أصواتًا معترضة وكأنهم ناسون بأن هذه مبادئ إسلامية يجب تطبيقها؟

النقطة الثالثة: سماحة أهل العلم.

إن مفردة السماحة مفردة تزامنت وتلازمت مع الدين الحنيف، فهي أجلى وأبرز سماته، وقد جسدها رسول الله (ص) في سيرته ونهجه، وكذلك كان الأئمة من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ثم أصبحت هذه المفردة ملازمة لأهل العلم فتقول: سماحة الشيخ، وصاحب السماحة، وهكذا.

لا أعرف متى أطلق هذا اللقب على علماء الدين، ولكن قيل إنها كلمة أخذت من اللغة التركية، حيث تلفظ: سماحتلو. واللاحقة (لو) تعني: صاحب. أي صاحب السماحة، وكذلك فضيلتلو، وسعادتلو، فصار الناس يستعملون الترجمة(14). ولكن لماذا أطلق على رجل الدين هذا اللقب؟

إذا رجعنا إلى المعنى الأول لمفردة السماحة فإنها تعني الجود والكرم، فهل كان الناس يتوقعون من رجل الدين أن يسمح لهم بالمال والعطاء؟ لا يبدو ذلك، فالناس عادة ما تنظر إلى أهل العلم على أنهم زُهّاد، وليس عندهم ثروة حتى يجودوا بها، ولو كان مقصدهم المال، لأطلقوا اللقب على التجار والأثرياء. ولكن ليس بغريب لو كان الأمر كذلك، فكثير من رجال العلم مَن تُصبُّ عندهم أموال الزكاة والصدقات، والخمس وغيرها، فأهل الحاجة يقصدونهم ليبذلوا لهم من هذا المال.

لذا يبدو لي أن هذا اللقب أطلق على رجال الدين لتضمنه للمعنيين اللغويين وهما:

التساهل: حيث يتوقعون من رجل الدين أن يكون سهلاً مع الناس، رحب الصدر، يشملهم بعطفه وحنانه، يُسِّهل لهم تعاليم الدين، وييسر لهم أمورهم الدينية، وهكذا.

الجود: ربما يكون بالمال كما أسلفنا، ولكن ليس هذا مطلب الناس فقط. فالناس ليسوا كلهم فقراء ومحتاجون للمال، بل إن الناس تحتاج من عالم الدين ما هو أهم من المال، وهو الجود والكرم بالكلمة الطيبة، بالعطف، بالرعاية الشاملة، بأن يكون واحدًا منهم، لا يستعلي عليهم، يحنو على صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويكون لهم قدوة ومنهاجًا. الجود بالتوجيه والتعليم والتربية، فزكاة العلم تعليمه، يسمع أسئلتهم واستفساراتهم الدينية ويجيب عليها برحابة صدر لا بانزعاج وزجر.

قصة طريفة سمعتها من سماحة الشيخ حسن الصفار يقول: ينقل عن أحد علماء الدين أن سائلاً أتاه وسأله عن مسألة ما، فأجابه عنها. بعد يوم جاءه شخص آخر وسأله نفس السؤال، فانزعج وقال: ألم أجبك عن هذا السؤال أمس؟ قال له السائل: أنا للمرة الأولى أطرح عليك هذا السؤال. فأجابه ذلك الشيخ: عفوًا إنّ البقر تشابه علينا!

الناس يحتاجون إلى عالم الدين الذي يتحملهم حتى لو كثرت أسئلة الشخص نفسه، فعلى عالم الدين أن يجيبه بكل أريحية. كذلك يطلب الناس من عالم الدين الجود بالجاه، بأن يبذل جاهه في حل مشاكلهم وإصلاح ذات بينهم، أن يطالب بحقوق المستضعفين. أمور كثيرة يطلبها الناس من عالم الدين، فجوده وكرمه لا ينحصران في بذل المال فقط، فالناس بحاجة إلى ما هو أغلى من المال.

رجل السماحة:

هناك من العلماء من هو أهل لأن يُسمى بهذا اللقب، وهناك من لا يستحقه لأنه يحمل علمًا دون تطبيق. لا أريد أن أذكر أسماء شخصيات هم مثال للسماحة والفضل حتى لا يحسب البعض أني أحصر الأمر في شخصيات معينة، فأهل السماحة كثير ولله الحمد، ولكني أريد أن أذكر رجلاً فقدته الساحة العلمية في الأيام الماضية، وهو سماحة العلامة الشيخ علي المرهون (قدس الله نفسه الزكية). في حفل التكريم الذي أقيم له في منطقة القطيف عام 1425ﻫ، رأى القائمون على الحفل أن يطلقوا عليه لقب رجل السماحة.

إن من يقرأ سيرة هذا الرجل، ومن عاشره كذلك يرى تجلي هذه المفردة فيه بكل ما للكلمة من معنى. كان مثالاً للعالم المتواضع، والأب الحاني الذي يحنو على الجميع. لم يحصر نفسه لفئة معينة، بل كان منفتحًا على الجميع، ومحبًا للجميع. لم يكن يحب أن يسمع كلمة نابية عن شخص غائب، فلا يرضى بأن يجلس في مجلس يغتاب فيه كائنًا من كان، ولا يقبل بأن يبقى في مجلسه من يغتاب الناس. كان يشجع على العلم، وقد سعى مع والده الشيخ منصور المرهون لتأسيس حوزة علمية، ولكنه واجه السجن إثر ذلك. وكان يحث الناس على الكتابة ويشجع على طباعة كتبهم، بل يباشر هو أمر مراجعة الكتاب وطباعته، وقد ألف كتابه المشهور (شعراء القطيف من الماضين والحاضرين) وقد حفظ بذلك تاريخًا وأدبًا للمنطقة. ويعد المؤسس الأول لجمعية القطيف الخيرية. آثاره كثيرة، ومحاسنه جمة. كان نموذجًا صافيًا لسماحة رجل الدين، ولذا أحبه الناس، وكان تشييعه حاشدًا بالمحبين. رحمه الله وأسكنه الفسيح من جنته، وخلف على الأمة الإسلامية بمثله وأفضل إن شاء الله.

النقطة الرابعة: سماحة الإمام الحسن المجتبى (ع).

عند الحديث عن رسول ا لله (ص) وعن أهل بيته المعصومين (ع) نجد تجسد كلمة السماحة فيهم، بل هم السماحة بعينها. فمن لم يعرف معنى السماحة لغة، فسيعرفها من خلال قراءة سيرة ومنهج أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وعند الحديث عن سبط رسول الله الأول وحبيبه وريحانته المجتبى الحسن بن علي (ع) نجد بروزًا وتجلٍ واضح لهذه الصفة السامية فيه.

جود الإمام الحسن وكرمه:

فمن حيث الجود والكرم فقد كان عليه السلام مثالاً لذلك، وقد كان كرمه واضحًا للعيان حتى تعجبوا منه. كما روى الشبلنجي في نور الابصار، وابن خلكان في وفيات الأعيان: أن الإمام الحسن سئل: لأي شيء نراك لا ترد سائلاً، وان كنت على فاقة؟ فقال: «إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي من أن أكون سائلاً، وأردُّ سائلاً، وأن الله تعالى عودني أن يفيض نعمه عليّ، وعودته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت عادتي، أن يمنعني عادته».

وذكروا أن الحسن رأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلبًا هناك لقمة، فقال له:« ما حملك على هذا؟» فقال: إني استحي أن آكل ولا أطعمه. فقال له الحسن: «لا تبرح من مكانك حتى آتيك». فذهب إلى سيّده فاشتراه واشترى الحائط (البستان) الذي هو فيه، فأعتقه وملّكه الحائط.

وقد روي أنه (رضي الله عنه) اشترى بستاناً من الأنصار بأربعمائة ألف، ثم بلغه بعد ذلك أنهم قد احتاجوا إلى ما في أيدي الناس، فرده إليهم.

وجاءه إعرابي سائلاً فقال (ع): «أعطوه ما في الخزانة»، وكان فيها عشرة الآف درهم. فقال له الإعرابي: يا سيدي، هلا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي؟ فأجابه الإمام:

نحن أناس نوالنا خضلُ       يرتع فيه الرجاء والأملُ

تجود قبل السؤال أنفسنا     خوفاً على ماء وجه من يسل (15)

سماحة النفس:

هكذا كان كرم الإمام الحسن وجوده، وأما نفسه الزكية فكانت سامية نقية، كنفس جده رسول الله (ص) خير البشر، وهو أشبه الناس به. وقد اشتهر كذلك بحلمه وصبره الذي لا توازيه الجبال، حتى شهد له أعداؤه بذلك فهذا مروان بن الحكم يأتي مشاركًا في جنازة الإمام الحسن (ع) فيسأله الإمام الحسين (ع): «تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعّه الغيظ؟» قال مروان: «نعم، كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال» (16).

ومما يدل على حلمه واستيعابه لمخالفيه ما روى المبرد وابن عائشة : أن شاميًا رآه راكبًا فجعل يلعنه والحسن لا يردّ. فلما فرغ أقبل الحسن (ع) فسلّم عليه وضحك .. فقال:

«أيها الشيخ !.. أظنك غريبًا، ولعلك شبّهت. فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانًا كسوناك، وإن كنت محتاجًا أغنياك، وإن كنت طريدًا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك. فلو حركت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعًا رحبًا وجاهًا عريضًا ومالًا كثيرًا».

فلما سمع الرجل كلامه، بكى ثم قال: «أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته .. وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ»، وحوّل إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدًا لمحبتهم(17).

حتى أصحابه وأشياعه ناله منهم أذى، وهو أشد وأفظع من ظلم الأعداء، كما يقول الشاعر طرفة بن العبد:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة            على المرء من وقع الحسام المهند

حين رأى (ع) أن يتنازل عن الحكم لمعاوية، ويحقن بذلك دماء المسلمين. لم يتقبل كثير من أصحابه وشيعته هذه الفكرة، فكانوا يأتونه غاضبين: «السلام عليك يا عار المسلمين». فيقول: «العار خير من النار». حجر بن عدي الصحابي الشهيد يأتيه منزعجًا: «والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك». وعدي بن حاتم يقول: «أخرجتنا من العدل إلى الجور» (18). لكن الإمام (ع) كان يتحمل ذلك ويتحاور معهم ويوضح لهم الأمر فيمضون عنه مقتنعين.

هل يتصور من يقرأ سيرة الإمام الحسن أن يرى سماحة أبلغ من هذه السماحة؟ أ وليس حري بنا كمسلمين وكمحبين لهذا الإمام العظيم أن نقتدي به، سيما العلماء وأصحاب السماحة الذين هم محل ثقة الناس وآمالهم.

* أستراليا ـ نيوكاسل

...................................................

(1) راجع لسان العرب، مادة (سمح).

 (2) الموسوعة الشعرية.

 (3) نفس المصدر.

 (4) نفس المصدر.

 (5) راجع لسان العرب.

 (6) سورة آل عمران، 159.

 (7) السياسة النبوية ودولة اللا عنف، الشيخ حسن الصفار. من موقعه على الإنترنت.

 (8) سورة البقرة: آية

 (9) سورة البقرة، آية 190.

 (10) سورة الممتحنة.

 (11) سورة الشورى، آية:23.

 (12) سورة يس، آية: 21.

 (13) سورة سبأ، آية: 47.

 (14) استعمالات تركية في العامية المصرية، للدكتور عبدالصبور شاهين. موقع وطني على الإنترنت.

 (15) الروايات السابقة نقلًا من موضوع لسماحة الشيخ حسن الصفار: الإمام الحسن ورعاية الفقراء. من موقعه على الإنترنت.

 (16) من محاضرة لسماحة الشيخ حسن الصفار، حلم الإمام الحسن منهج للتسامح الاجتماعي.

 (17) المناقب، ص344. نقلًا من شبكة السراج في الطريق إلى الله.

 (18) من محاضرة لسماحة الشيخ حسن الصفار، حلم الإمام الحسن منهج للتسامح الاجتماعي. نقلًا عن كتاب الشيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 24/كانون الثاني/2010 - 8/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م