عالَم اليوم المتناقض والحاجة الى صياغة جديدة

قبسات من فكر الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: حين يقول بعضهم أن عالمنا يسير الى نهايته، هل ينطلق في قوله هذا من رؤية قنوط لا تستند الى الدلائل الساندة لمثل هذا الرأي؟ وهل ثمة مغالاة في آراء كهذه تحاول أن تؤشر الخلل البشري في إدارة حركة الحياة وفق ما تقتضيه مصلحة الانسان قبل غيره من الكائنات؟.

إن من يلقي نظرة متفحصة تتسم بالاخلاص والجدية على حركة عالم اليوم فإنه لا ريب سيرى الكثير من نقاط الخطر والضعف في هذا المجال، بل لعله يستطيع أن يثبت بأن الكثير من الانشطة البشرية تتسم بالطيش والعشوائية والتوغل في إيذاء النفس والجماعة مع سبق الإصرار بسبب ضعف الانسان ازاء رغائبه وغرائزه التي تحثه لفرض السلطة على الجميع والاستحواذ على حقوق غيره من دون وجه حق، بمعنى أكثر وضوحا أن ثمة الكثير من أعمال الانسان ما يشير الى ضآلة العقل وتحجيمه مقابل الجنون والطيش وضعف الارادة البشرية، وهنا يتساءل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):

(هل العالم في عصرنا هذا عالم عقلاء أم عالم مجانين؟ ولعلّ هذا السؤال يثير الاستغراب، إذ واضح أن العالم عالم العقلاء، وان المجانين هم أفراد قلائل يعيشون في دور المجانين ومستشفيات الأعصاب).

ولعلنا نتفق جميعا على هذا القول، بيد أن ما خفي كان أعظم، فليس جوهر الاشياء والاحداث ما تراه العين، ولا ما يشعر به الانسان او يتعامل معه بصورة ظاهرية او مباشرة، فهذا هو السطح كما يقول الامام الشيرازي ويضيف في كتابه نفسه:

(ولعل التعمّق في الأمر يفيد غير ذلك. ولنتساءل: المجنون من هو؟ حتى نعرف أن العالم بمجموعه مجنون أو عاقل، والعاقل من هو؟ حتى نعرف هل أن العالم بمجموعه عاقل، أم لا؟! إن المجنون: هو الذي يمارس الأعمال الاعتباطية، مما يضرّ نفسه ويضرّ الآخرين، والعاقل: هو الذي يمارس الأعمال بحكمة مما ينفع نفسه وينفع الآخرين، أليس كذلك؟! فإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل العالم يقوم بالأعمال المفيدة لنفسه ولغيره أو يقوم بالأعمال الضارة؟ واضح أن كل فرد يجيب عن هذا السؤال بقوله: أنا عاقل! وكذا كل شركة شركة، وكل حكومة حكومة.

ولكن: إذا كان العالم عالم العقلاء، فلماذا قتل الملايين خلال نصف قرن في حربين عالميتين، تركت العالم شظايا ورماداً ودماء ودموعاً وأشلاء ومعوقين وما إلى ذلك).

إذاً يمكننا أن نتلمس حيادية هذه الرؤية الى جوهر العالم كونها تستمد فحواها من الوقائع التي تؤثث مشهد النشاط العالمي في مختلف مجالات الحياة، ولعل سمة الطغيان والشراهة وحب التسلط على مصائر الآخرين (أمما كانت او شعوبا او أفرادا) هي العامل الأكثر وضوحا في طبيعة توجهات الانسان وهو يرسم لوحة الحياة بأفعاله وأفكاره التي لا تنم عن عقل سوي يعرف نتائج أفعاله وأفكاره التي ذهبت به بعيدا في ظلم الآخرين والعبث بمقدراتهم، ولهذا نعيش اليوم مستويات متباينة من أنماط العيش على سطح المعمورة الواحدة، ولعل أوضح الامثلة يمكن أن نأخذه على سبيل المثال في المقارنة بين شخصين أحدهما من الغرب معافى ومكتنز الجسد والآخر من أفريقيا يعاني الجوع والتخلف والمرض، مع أنهما يعيشان على كوكب أرضي واحد، وهنا يتساءل الامام الشيرازي (رحمه الله) في كتابه نفسه:

(لماذا يتكدّس المال حتى يملك بعض الأفراد مليارات، بينما الملايين جائعون، وبينما الملايين من الأطفال يموتون جوعاً، وهل هذا من التعقّل؟ فلو كان والد عائلة يعطي لولد من أولاده عشرة أقراص من الخبز ويترك عشرة آخرين من أولاده جائعين إلى حد الموت، فهل يعد هذا الوالد عاقلاً، وإن كان هذا الوالد يعدّ عاقلاً، فمن هو المجنون؟!!).

إن سلوك أغنياء عالم اليوم لا يختلف عن سلوك هذا الأب الذي تحدث عنه الامام الشيرازي، حين يُشبع بعض أولاده ويجوِّع بعضهم الآخر، ولعلنا لا نحتاج الى براهين لكي نثبت جنون مثل هؤلاء (الآباء) الأغنياء الذين يتحكمون اليوم بمصير العالم، فلقد تغلبت على عقولهم غريزة حب المال والنفوذ والسلطة فظلموا بني البشر الآخرين كثيرا ونسوا أو تناسوا بأنهم يركبون معهم في سفينة واحدة هي (سفينة الحياة) وإن العطب الذي يصيب هذه السفينة لا يضر بالفقراء فقط بل سيطول الاغنياء أيضا، وهذا تحديدا ما يوجب عليهم مراجعة عقولهم ونفوسهم وأعمالهم والسيطرة على شهواتهم وغرائزهم والنظر الى العالم بعين ثاقبة تقرأ ما وراء الاحداث والنتائج، وهنا يشير الامام الشيرازي في كتابه نفسه الى المستقبل فيقول:

(أما المستقبل فالاجتماع آخذ في طريق الوصول إلى نقطة النهاية والتحطم، حيث تفنى الحضارة التي وصل إليها الإنسان منذ قرون وقرون.. أليس ذلك دليلاً على انحراف الاجتماع وعدم تعقله، أليس هذا الواقع يلحُّ على عقلاء العالم للتفكير في كيفية العلاج والخلاص لكل العالم، لا لأمة خاصة أو مدينة خاصة أو جماعة خاصة أو ما أشبه؟)..

لذا ينبغي أن تكون هناك صياغة جديدة للعالم، قائمة على الشراكة والتعاون والاحتكام الى العقل السوي ونبذ الرغائب الضارة والحد من سيطرة الغرائز على قيادة أنشطة الانسان الفكرية والعملية، وذلك لخلق مجتمع بشري يمكن أن نطلق عليه بـ (عالم العقلاء).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 19/كانون الثاني/2010 - 3/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م