بين الفتنة والاصلاح

نزار حيدر

اولا؛ دعونا نثبت الحقائق التالية:

الف: ان الديمقراطية، التي تعني النظام السياسي الذي يصون حقوق الانسان من الهدر، وكرامته من السحق، وحريته من المصادرة، ورأيه من القمع، فلا يكمم الافواه ولا يطارد الاحرار ولا يعتقل الحرائر، ولا يمنع حرية التعبير، ان هذه الديمقراطية لا تستقيم الا بالرقابة الصارمة، والتي تعني النقد والمساءلة.

باء: ان النظام السياسي، لا يمارس الرقابة الذاتية ابدا، ولذلك لا ننتظر منه ان يمارسها طوعا في يوم من الايام، وانما الذي يمارسها هو المعارضة.

ولو ان النظام السياسي، مهما كان ديمقراطيا، ترك، بضم التاء، وشأنه، من دون رقابة صارمة، لتحول شيئا فشيئا، وبمرور الوقت، الى نظام استبدادي بوليسي قمعي، والى هذا المعنى يشير القران الكريم بقوله {ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى}.

جيم: كما ان النظام السياسي لا يعترف بخطأ او تقصير او فشل، من تلقاء نفسه، وانما يضطر لها عندما تؤشر المعارضة على هذا الخطأ او ذاك الفشل، ثم تظل تلح عليه بلا هوادة وبثبات، من دون خوف او وجل.

حتى اعرق الانظمة الديمقراطية في العالم، تراها تتستر على الخطأ ما اسعفتها الحجة، حتى اذا كشف عنه الاعلام، اذا بها تخرج على الملا لتعتذر مثلا او تستقيل اذا كان الخطأ كبيرا لا تقدر على تبريره، ولهذا السبب ترى الديمقراطيات، التي ما كانت لتنبني لولا الاعلام الحر، تخشى وسائله وترتعد فرائصها منه، لدرجة انهم يسمونها بالسلطة الرابعة، وان كنت شخصيا اسميها بالسلطة الاولى.

ولذلك نلاحظ ان الزعماء لا يتحدثون عن فشلهم عندما يكونوا في السلطة، فيما لا يقصروا بجلد الذات عندما يخسرونها ويلتحقوا بالمعارضة، تحت قبة البرلمان او خارجها، لا فرق.

هذه الحقائق لا تخص نظام دون آخر، فهي تسري على كل الانظمة سواء في الدول الديمقراطية او في الدول المتخلفة او حتى في الدول حديثة العهد بالانظمة الديمقراطية، كالعراق اليوم مثلا.

وبعودة سريعة الى مذكرات الزعماء والسياسيين من الذين كانوا في يوم من الايام في السلطة، سنكتشف هذه الحقائق بشكل واضح وجلي.

فالحاكم، عادة، لا يمارس النقد الذاتي، وفي نفس الوقت يمنع المعارضة من ممارسة الرقابة والكشف عن نتائجها، ما امكنه الى ذلك سبيلا، لانه لا يتحمل النقد، فهو يريد الرعية قطيع من المؤيدين والطبالين والمداحين فقط، على طريقة المثل المشهور الذي يشبههم بعنزة المدعو (أخفش) في قصته المعروفة.

وكلنا يتذكر كيف ان اكبر الكتل البرلمانية الحاكمة الان في العراق، ظلت تتلفع بصمت اهل القبور ازاء الفشل والفساد والخطا، لازالت هي في السلطة، اقصد الحكومة، الا انها راحت تجلد ذاتها وتكشف عن قصص الفساد الواحدة تلو الاخرى، بمجرد انها، او بعضها، ابتعد قليلا عن السلطة التنفيذية.

هناك مجموعة ثانية من الحقائق الموازية للمجموعة الاولى، والتي يمكن ادراجها بالشكل التالي؛

الف: ان اي نظام سياسي يحاول بكل جهده ان يمنع الرقابة، وتاليا النقد والمحاسبة والمساءلة، بكل ما اوتي من قدرة، مستخدما كل الوسائل المتاحة والخفية، فتراه تارة يطعن بالناقد، فيشكك في نواياه ويطعن باجنداته التي يسميها بالخفية او المشبوهة، واخرى يطعن بالنقد، حتى اذا انهارت ادواته ووسائله امام ضغط النقد، تراه يعترف مرغما عن انفه.

وهو يعتمد، في كل ذلك، على نظرية (الزعيم الاوحد) و (القائد الضرورة) لحماية نفسه من النقد، تاسيسا على مبدا شخصنة الدولة ومؤسساتها وعبادة الشخصية، فيظل يضع العصي في دواليب الدولة للحيلولة دون بنائها على اساس الدستور والقانون والمؤسسة، وان كنت تراه احيانا يرفع شعارات براقة تستهوي القلوب.

لقد نقل لنا القران الكريم الكثير من القصص التي تتحدث عن نوعية الخطاب السلطوي الذي تواجه، بفتح الجيم، به دعوات التغيير والاصلاح، وكيف انه يوجه التهم الباطلة لمثل هذه الدعوات واصحابها، لاسقاطها وتشويه حقيقتها وانهاء محاولات القائمين عليها.

فنقرا مثلا قول الله عز وجل:

وما كان جواب قومه الا ان قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم اناس يتطهرون.

فما كان جواب قومه الا ان قالوا اخرجوا آل لوط من قريتكم انهم اناس يتطهرون.

قال اراغب انت عن آلهتي يا ابراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا.

قالوا لان لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين.

قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين.

قالوا انا تطرينا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب اليم.

ما يدلل على مدى خوف وهلك الحاكم من النقد والمحاسبة والمساءلة، لانه يعتبر كل ذلك، محاولات يبذلها (المهرجون) و (الهمج الرعاع) و (الغوغاء) لايقاض الراي العام من سباته او غفوته، وكل ذلك يشكل خطرا على سلطته التي لا تدوم الا بنوم الرعية، وغفوتها، فبانعدام النقد يستاثر الحاكم بالسلطة.

ولذلك، ما ان تنطلق اول محاولة للنقد، حتى تدور ماكينة الدعاية السوداء التي يمتلكها الحاكم، باقصى سرعتها لتسقيط الناقد وايقافه عند حده، بالتهم الباطلة واثارة الدعايات ونشر الاكاذيب، والتشهير الاعلامي، حتى اذا كان نبيا.

لقد اتهم زعماء الامم السالفة الانبياء والرسل بشتى التهم، فوصفوهم مثلا بانهم (مثيروا الفتنة) كما ان قريش اتهمت الرسول الكريم (ص) بانه (يثير الفتنة).

ولقد مارست السلطات الاموية اسوأ عملية تضليل للراي العام، وشنت ابشع حملة دعائية لتشويه سمعة السبط عليه السلام وتسقيط منزلة اهل البيت عليهم السلام عند المسلمين، فوصفته بانه يريد اثارة الفتنة في صفوف المسلمين، ولذلك اشاعت بانه عليه السلام قتل بسيف جده، وكل ذلك قبل ان ترتكب جريمتها النكراء في كربلاء في عاشوراء عام 61 للهجرة، لتستعد النفوس لتقبل نبا الجريمة البشعة، بعد ان نجحت السلطات الاموية في غسل عقول الناس، وكأن ما تفعله السلطة الحاكمة باهل بيت الرسالة والنبوة فعل صحيح حسن.

والملفت للنظر في كل قصص الغابرين والى يومنا هذا، هو انه عادة ما يكون (الناقد)  في نظر الحاكم رجلا طيبا وصالحا، قبل ذلك، ولكنه، يتحول الى مروج للفتن في لحظة انتقاده له ولسلطته، او لم يطلق زعماء قريش على رسول الله (ص) صفة (الصادق الامين)؟ اذا بهم ينعتونه بكل التهم بمجرد انه اعلن عن دعوته الاصلاحية الكبرى، فهو (الشاعر) وهو (المجنون) والعياذ بالله، وغير ذلك. 

باء: ان الحاكم عادة ما يسعى لاقناع الراي العام بان موقفه هو الصحيح وموقف غيره هو الخطا بعينه، يساعده في ذلك جوقة المطبلين والمنتفعين والمداحين والمستفيدين واجهزة الدعاية المدعومة بالمال وسياسات التضليل والخداع والجهلة من اصحاب الاقلام، من الذين لا يعرفون الا نصف الحقيقة او اقل من ذلك بكثير.

يحدثنا القران الكريم عن نموذج لحاكم يتكرر كل يوم بقوله عز وجل:

قال فرعون ما اريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد.

فالحاكم وحده على حق، وغيره على باطل، فلماذا ننتقده اذن؟ خاصة اذا كان يرى نفسه ظل الله في الارض؟ وان الخلافة قميص البسه الله تعالى؟ فكيف يجوز لكائن من كان ان ينتقده؟.

جيم: عندما يرى الحاكم انه اصبح قاب قوسين او ادنى من الهزيمة تحت ضربات النقد، تراه يتوسل بادوات القمع وربما يلجا الى القتل والاغتيال وما الى ذلك، لانقاذ نفسه، او على الاقل لتاجيل الهزيمة يوما او بعض يوم.

يقول عز وجل {وقال الملا من قوم فرعون اتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك قال سنقتل ابناءهم ونستحيي نساءهم وانا فوقهم قاهرون}.

دال: وان الحاكم لا يقبل من احد ان يعلن عن تغيير في الموقف قبله ابدا، جراء شدة النقد الذي يمارسه الناقدون، لان مثل هذه الخطوة تحرض الراي العام على سلطانه، فهو وحده، برايه، الذي يمتلك الحق في التغيير عندما يضطر اليه، من اجل ان يمنح نفسه الفرصة الكافية لتبرير الخطا اولا والتغيير ثانيا، ليضبط ايقاع الامور لصالحه كيف وانى يشاء، فلا يدعها تفلت من بين يديه ومن قبضته الحديدية.

انه يحاول اقناع الراي العام بانه وحده رجل الموقف مهما تغيرت الظروف.

نعود الى القران الكريم، لنقرا تتمة صورة الحاكم الظالم:

قال فرعون آمنتم به قبل ان آذن لكم ان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها اهلها فسوف تعلمون* فلاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم اجمعين.

قال آمنتم له قبل ان آذن لكم انه لكبيركم الذي علمكم السحر فلاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن اينا اشد عذابا وابقى.

انظروا الى التهمة التي يوجهها الحاكم للناقد، انها تهمة (الفتنة) ليسهل عليه تحشيد الناس خلف قراره القاضي بذبح الناقد، او على الاقل لتسقيطه واغتياله سياسيا، اذا اخفق في الوصول اليه لاغتياله جسديا.

السؤال المهم، هو؛

متى يكون النقد فتنة ومتى يكون اصلاحا؟.

اثير هذا السؤال لاننا امام حملة تسقيطية يمارسها اعوان الحاكم كلما نبس احد ببنت شفة، فانتقد قرارا او كشف خطا او اماط اللثام عن انحراف.

هنالك عدة فروق بين الفتنة والاصلاح، منها:

اولا: ان النقد يكون فتنة اذا كان موجها ضد امر صحيح، اما اذا كان النقد موجها ضد خطا، فهو اصلاح او محاولة الى ذلك، وان صحة او خطا امر ما لا يحدده الحاكم، لانه كصاحب اللبن لا يمكن ان يقول يوما بان لبنه حامضا، انما الذي يحدد ذلك، هو الراي العام، والنتائج التي تخلفها المشاريع والاعمال.

فاذا كان في منهج التربية والتعليم اخطاء فاحشة، ودعا احد الى اصلاحها وتغييرها من اجل ان لا تفسد عقول اولادنا، فان كلامه هذا اصلاحا وليس فتنة، وهو مهما انتقد وتكلم فان ذلك لا يعتبر فتنة ابدا، بل ان سكوته عن النقد في هذه الحالة هي الفتنة بعينها.

اما اذا كان النقد موجها ضد فعل صحيح، وامر سليم، فيكون في هذه الحالة فتنة، كما يفعل اليوم (الحزب الوهابي) الذي يحرض على القتل والتدمير بالاعتماد على فتاوى التكفير التي يصدرها وعاظ السلاطين وفقهاء بلاط آل سعود الذين افسدوا في البلاد وغيروا دين الله تعالى.

ثانيا: كما ان النقد يكون فتنة اذا قصد الاثارة فقط، اما اذا قصد التغيير نحو الافضل، فهو اصلاح.

يقول عزوجل بهذا الصدد {قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب}.

ثالثا: ويكون النقد فتنة اذا مورس بطريقة التسقيط والتشهير، اما اذا مورس بلغة المنطق والادلة العلمية والاثباتات والبراهين والحجج الدامغة، فهو اصلاح.

رابعا: ويكون فتنة اذ عنى شخصا من دون دليل، اما اذا عنى حالة او موقفا او رايا او مشروعا، فهو اصلاح.

خامسا: كما انه يكون فتنة اذا لم يكن في محله او في وقته، والا فهو اصلاح.

السؤال الاخر، هو:

في ظل النظام الديمقراطي، من الذي له الحق في النقد ومن الذي لا يمتلك مثل هذا الحق؟.

الجواب: هو ان النقد من حق اي مواطن بغض النظر عن عمره او جنسه او لونه او مستوى ثقافته او دينه او اتجاهه السياسي، اولم يقل الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته} اولم يقل امير المؤمنين (ع) {ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه}؟.

ان الذي يمارس النقد عادة ما يكون في أحد حالتين:

الاولى؛ ان نقده صحيحا، يتمتع بكل المواصفات التي ذكرناها للتو، فبذلك يجب الاهتمام بنقده على قاعدة (لا تنظر الى من قال وانظر الى ما قال) وان المسؤولية تقع على المعني بالنقد ليصحح او يعتذر فيقلع.

الثانية؛ ان يكون نقده خطا بعيد عن الصواب، فعندها اما ان يطالب بدليل لاثبات ما يقول، او ان يضرب نقده عرض الحائط.

والان...

هناك البعض ممن يتحجج بما يلي لقمع النقد مهما كان شكله، منها على سبيل الفرض لا الحصر:

اولا: الان ليس وقت النقد، فالمؤامرات تحيط بنا من كل جانب.

اذا اردنا ان نصدق هذه الحجة فعلينا ان نقبلها من الانظمة الشمولية الاستبدادية التي تحكم بلادنا كما هو الحال في مصر والاردن والمملكة العربية السعودية وغيرها، فان مثل هذه الانظمة ترد على كل نقد او دعوة للاصلاح، بان الظرف الزمني غير ملائم، لاننا لا زلنا في حرب مع (اسرائيل) وهي التي تحولت الى شماعة او خاروعة لا فرق.

ثانيا: وما يفهم هذا الناقد لينتقد هذا الزعيم او ذاك القائد؟ وما يحسن من العلم والمعرفة لينتقد الحكومة؟.

انها، كذلك، الحجة التي يسوقها كل الزعماء والحكام، فلماذا لا نقبل منهم حجتهم؟.

ثالثا: لننتظر بعض الوقت لنرى ما اذا كان هذا القرار او تلك الخطة صحيحة ام لا؟.

انها الحجة التي قصمت ظهر البعير، فكلنا نتذكر او على الاقل سمع، ما جرى في تموز عام 1968، فعندما نزى على السلطة زمرة من قطاع الطرق واللصوص المسلحين يحملون اسم (حزب البعث) قال قائل من الناس، دعوهم بعض الوقت لنرى ما يصنعون، قبل ان نعارضهم او ننقدهم او نواجههم، وهم (الزمرة) الذين خبرهم العراقيون جيدا وخبروا نواياهم السيئة واعمالهم المشينة، فلماذا نمهلهم لتكرار التجربة؟ وماذا نريد ان نكتشف عنهم اكثر من الذي نعرفه منهم؟.

بعضهم خطا اكثر من ذلك، فقبل ان يشكل معهم جبهة (وطنية) كالشيوعيين، ليكتشفوا بعد مدة انهم وقعوا في فخ كبير عندما خدعوا باستشارة الرفاق في خارج الحدود، من الذين ظنوا بهم خيرا وانهم يفهمون في السياسة، اذا بهم (الشيوعيون العراقيون) يرون انفسهم ضحية مصالح اجنبية فرطت بهم.

رابعا: يقول بعضهم، ان الظروف الصعبة التي نمر بها تستدعي ان يكون النقد سرا وليس بالعلن.

هذه منهجية الاحزاب السرية، وهي منهجية المنظمة السرية، او ان يكون الناقد يتحدث عن شان خاص، فعليه ان يوجهه الى صاحب العلاقة، اما الشان العام، الذي يستفيد منه او يتضرر جراءه الشعب، فلا ينبغي ان يكون النقد سريا بل يجب ان يكون علنيا، ليطلع عليه كل من يتاثر بالقرار المعني بالنقد، والا فما هي فائدة الاعلام الحر؟ وما هي فائدة وسائله التي تتطور يوما بعد آخر؟ واساسا، هل يمكن اخفاء شئ؟.

ثم، لماذا يوجه الحاكم نقده للاخرين علنا، ولا يحق للاخرين نقده بالعلن؟ ولماذا يخاف الحاكم النقد بالعلن اذا كان متيقنا من برنامجه ومشروعه وصحة ما يقول ويفعل؟ انها حجة الخائفين.

خامسا: اما الحجة المضحكة المبكية التي يسوقها البعض، فقولهم ان النقد يستفيد منه الاعداء، ويوظفه ضدنا المتصيدون بالماء العكر.

على ذلك، يجب ان نخفي القران الكريم، ففيه الكثير من النقد الذي وجهه الله تعالى للكثير من الصحابة، كما هو الحال في سورتي الجمعة والمنافقون، كما يلزم ان نخفي السنة النبوية وحديث رسول الله وكتب التاريخ الاسلامي، ففيها الكثير جدا من النقد اللاذع الذي وجهه رسول الله (ص) للصحابة، كما ان فيها الكثير من النقد الذي وجهه الصحابة بعضهم للبعض الاخر.

وعلى هذا الاساس فان علينا ان نسكت ابد الدهر فلا نتحدث عن جرائم الانظمة (العربية والاسلامية) التي تحكم اليوم بلاد العرب والمسلمين، لان العدو يستفيد من كل ذلك، وهكذا.

ما رايكم ان نضع لاصقا على افواهنا واعيننا وآذاننا حتى لا نرى ولا نسمع ولا نتحدث فنكون {صم بكم عمي فهم لا يعقلون}؟ ليعطف علينا الحاكم فيرضى عنا، ولينام هو بهدوء وسكينة، اما الشعب فالى جهنم وبئس المصير؟.

ان النقد يمكن ان ينتهي الى الاصلاح المدني والسلمي، بعيد عن الدم، اذا:

اولا: قبل به الحاكم ولم تاخذه العزة بالاثم.

ثانيا: اذا شارك فيه الجميع فلم يقتصر الامر على ثلة من المجتمع دون الاخرين.

يجب ان لا يتلفع الناس بالصمت خوفا من سوط الحاكم او طمعا في دنياه الزائلة، كما فعل القوم في عهد الحسين السبط عليه السلام، والا فالثمن سيغلى كلما مر زمن على الخطا من دون نقد لتصحيح او تغيير.

ثالثا: اذا مارسه المجتمع مع بداية الخطأ ولم يسكتوا عنه مدة ليستفحل ويتحول الى انحراف خطير.

بغير هذه الحالة، فسيكون الاصلاح دمويا، كما هو الحال مع الحسين السبط عليه السلام، او كما كان حال الشهيدين الصدرين الاول والثاني، لان المصلح لا يسكت الا اذا عادت الامور الى نصابها الصحيح.

ان حركة المجتمع كاية حركة اخرى في هذا الكون، يسلم من الخطا اذا عالجه الانسان ابتداءا، اما اذا استرسل معه لاي سبب كان، فانه يتحول الى خطيئة.

ان الخطين المتوازيين لا يلتقيان لا زالا يحتفظان بنفس المسافة بينهما، اما اذا تغير مسارهما قيد انملة، فانهما سيلتقيان مهما طال الزمن.

كما ان البناء يحتفظ باستقامته لا زالت قواعده الاولى سليمة، اما اذا تغيرت قاعدته ولو بمقدار راس دبوس، فان نتيجته الميلان وتاليا السقوط مهما تم تثبيته بدعامات اضافية.

وان الجريمة النكراء التي يرتكبها المجرم لا تولد عنده في لحظة واحدة، وانما تاخذ زمنا لتستقر في شخصيته، ولذلك فاذا بادر الى اصلاحها وهي بعد خطأ صغير في المهد، تمكن من الوقوف بوجه الجريمة، اما اذا تماهل واسترسل وسوف، بتشديد الواو، فانها ستتحول الى جزء من شخصيته، يقول يائسا عندما يرتكب جريمته {افانت تنقذ من في النار} كما رد الملعون ابن ملجم عندما ساله الامام امير المؤمنين عليه السلام عن سبب فعلته النكراء والدافع الذي دعاه لضربه بالسيف المسموم.

لذلك، جاء في الحديث عن الرسول الكريم (ص) {اياكم ومحقرات الذنوب} اي صغارها، لانها اسباب تؤدي الى ارتكاب كبارها، فهي تجر بعضها الى بعضن او كالسيل الذي يتشكل من قطرات صغيرة.

تعالوا، اذن، ونحن نبذل كل جهدنا لبناء نظام سياسي جديد في العراق قائم على اساس المواطنة واحترام حقوق الانسان والكرامة والحرية والمشاركة الحقيقية والمساواة وتكافؤ الفرص، ليشد بعضنا بعضا، فنهب هبة رجل واحد كلما اكتشفنا خطا او اطلعنا على انحراف لننتقد ونحاسب ونراقب، واذا اقتضت الضرورة لنسقط عن عرشه من يتمادى في خطئه او يرفض الاصغاء الينا، فهو ما كان ليجلس على عرشه لولا صوت الناخب ودماء الشهداء وانين الضحايا والفقراء والجياع ودموع الارامل والايتام، ولذلك يجب ان لا ندعه يتمتع بعرشه اذا انحرف او خان الامانة، وهذه مسؤولية الجميع فهي لا تقتصر على فئة دون اخرى، لان السفينة اذا ثقبها مجنون فان كل العقلاء سيغرقون اذا لم ياخذوا على يديه، والله ياخذ بايدينا الى ما فيه الصلاح والاصلاح، فهو نعم المولى ونعم النصير، وصدق العلي العظيم الذي قال في محكم كتابه الكريم {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون} فبالاصلاح نتقي الهلاك بعد غضب الله تعالى.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 18/كانون الثاني/2010 - 2/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م