السجون في العراق: أماكن للتأهيل أم بؤَر لإعادة التجنيد

العلاقة بين العفو عن الإرهابيين والظهور الجديد لتنظيم القاعدة

 

شبكة النبأ: على مدى العامين الماضيين، أُفرج عن آلاف المعتقلين العراقيين من السجون وفقاً لقانون العفو العام في العراق من عام 2008، والإتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني 2009. وفي أعقاب انسحاب القوات الأمريكية المقاتلة من المدن العراقية في حزيران المنصرم، وتصاعد وتيرة العنف في عدة محافظات، وخاصة في بغداد ونينوى وديالى، ادّعتْ الحكومة العراقية بأن خطوة الإفراج عن السجناء كانت السبب الذي وفّرَ فرص جديدة لتنظيم «القاعدة» في العراق لكي يقوم بشن هجمات على مستوى عال.

وحول تداعيات هذه المسألة كتبت مريم بن رعد، الباحثة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى مقالاً قالت فيه:

في 8 كانون الأول 2009، قُتل 127 شخصاً في سلسلة من الهجمات المنسقة التي ضربت مواقع الحكومة في بغداد. وقد أيدت "دولة العراق الإسلامية" التابعة لتنظيم «القاعدة» في العراق («التنظيم») تلك الهجمات. كما أعلن «التنظيم»، مسؤوليته عن العديد من العمليات الأخرى القاتلة، بما فيها الهجوم الإنتحاري في 25 تشرين الأول/أكتوبر الذي استهدف وزارة العدل ومجلس المحافظة في العاصمة العراقية، وإعدام 13 من أفراد العشائر السنية في أبو غريب في تشرين الثاني/نوفمبر والهجمات الانتحارية ضد وزارتي الخارجية والمالية في بغداد التي قتل فيها أكثر من 100 شخص في آب/أغسطس المنصرم. كما أن تصاعد التوتر في مدن مثل الموصل ومحافظة الأنبار، التي انخفضت فيها أعمال العنف بشكل كبير منذ "زيادة" عدد قوات الولايات المتحدة في عام 2007، يشير إلى العودة إلى الجهاد المسلح في العراق، ويثير شكوك حول مدى استدامة ومتانة عملية تحقيق الاستقرار.

وتوضّح بن رعد قائلة، من بين الـ 73 رجلاً الذين اعتُقلوا من قبل الشرطة العراقية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، واتُهموا بالتورط في الهجمات الانتحارية في آب/أغسطس في بغداد، أقر عدداً منهم بأنهم أقاموا علاقات مع تنظيم «القاعدة» في العراق وجماعات متشددة أخرى أثناء فترة حبسهم. وفي سياق عدم اليقين الإقتصادي وتفشي الفساد والرشوة التي توفر تربة خصبة للمتمردين، يبدو الآن أن السجون أصبحت البوتقة الرئيسية للعقيدة الجهادية والتطرف الإسلامي في العراق؛ ويثير ذلك مخاوف أمنية جديدة ويلقي شكوكاً حول قدرة الحكومة العراقية على الحفاظ على الأمن قبل الانتخابات القادمة المقرر إجراؤها فى 7 آذار/مارس 2010.

العملية الحساسة في الإفراج عن السجناء

وتُبيِّن بن رعد، دخل قانون العفو العام في العراق حيز التنفيذ في شباط/فبراير 2008. وفي زمن اعتماده، كان القانون جزءاً من جهود المصالحة الوطنية التي قام بها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والتي استهدفت استهواء العرب السنة المبتعدين ثانية إلى العملية السياسية وإقناع الجهاديين السابقين على نبذ العنف. وطوال عام 2008، أفرج عن أكثر من نصف مجموع المعتقلين، الذين بلغ عددهم 17800 سجيناً من أصل ما مجموعه 33600. ومنذ كانون الثاني/يناير 2009، شهدت الخطوات الأولى في تنفيذ الإتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق نقل الآلاف من السجناء الجدد من المرافق التي تديرها الولايات المتحدة إلى السلطات العراقية، بما في ذلك الافراج عن اكثر من 5000 سجيناً.

وفي الأصل، كان الإفراج عن المعتقلين يتم "بطريقة آمنة ومنظمة" بحيث يتم التأكد من أنهم لم يرتكبوا جرائم خطيرة لا يشملها العفو، مثل الإرهاب والقتل الطائفي.

وتتابع بن رعد قائلة، في حين تجادل "القوة المتعددة الجنسيات في العراق" بأن معدلات العودة إلى الأعمال الإرهابية بين المعتقلين المفرج عنهم كانت منخفضة، وقعت معظم الإفراجات حتى الآن في أجواء تتمثل بعدم قدرة الشرطة العراقية والقوات العسكرية على الحفاظ على الأمن، وضعف سيادة القانون وعدم تجهيز السلطات القضائية بالأدوات اللازمة لمراقبة السجناء السابقين بصورة صحيحة. إن الثغرات القانونية القائمة، والإهمال الملموس في تطبيق القانون وغيرها من أوجه القصور قد سمحت بالفعل بإصدار قرارات العفو وإطلاق سراح عدد من المتطرفين، الذين عاد بعضهم وانضم من جديد إلى التمرد المسلح.

وتضيف الكاتبة، كما أن الفساد والرشوة المزمنة يلعبان أيضاً دوراً هاماً. وفي هذا الصدد، كان مسؤولون عراقيون من وزارة الداخلية قد ذكروا بأنه تم إعطاء ما يقرب من 10.000 دولار كرشاوى لمختلف المتواطئين لتسهيل حركة الإنتحاريين من تنظيم «القاعدة» في العراق خلال نقاط التفتيش الأمنية خلال تفجيرات آب/أغسطس 2009. هذا ويقال بأن بعض أولئك الإنتحاريين كانوا أعضاء سابقين في حزب البعث. ومرة أخرى، ووفقاً لوزارة الداخلية، كثيراً ما يقوم السجناء من تنظيم «القاعدة» في العراق برشوة حراس السجن للحصول على الهواتف المحمولة من أجل الإتصال مع متمردين خارج السجن. وفي حالات أخرى، يقوم حراس السجن مباشرة بمساعدة السجناء المتطرفين على الفرار. وكما أفاد مسؤولون من محافظة صلاح الدين، تمكن أعضاء من تنظيم «القاعدة» في العراق من الهرب من سجن في تكريت في 16 أيلول/سبتمبر 2009، بسبب تواطؤ حراسه. ومن بين السجناء الهاربين معمر عبد السلام مهدي، الذي اعتقل بتهمة قتل ضباط شرطة عراقيين.

وتتابع الكاتبة، كما يستفيد أيضاً تنظيم «القاعدة» في العراق وفصائل متمردة راديكالية أخرى من الأعضاء الفاسدين داخل السلطة القضائية العراقية -- من المحققين والمحامين والمدعين العامين والقضاة -- الذين تتم رشوتهم للإفراج عن الأعضاء التابعين لـ «التنظيم» من خلال إصدار أوامر غير مشروعة وتزوير الهويات وشطب السجلات الجنائية. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2009، اعتقلت قوات الأمن العراقية محام من مدينة الموصل لقيامه برشوة الحراس للإفراج عن أفراد من تنظيم «القاعدة» في العراق. وأصبح هذا التواطؤ على ما يبدو شائعاً جداً إلى درجة أن "المجلس الأعلى للقضاء" في العراق أمر باجراء تحقيق في حزيران/يونيو من هذا العام وقدم طلباً رسمياً إلى المجتمع الدولي للمساعدة.

أحد العوامل لظهور تنظيم القاعدة من جديد

وتوضّح بن رعد، لقد تم التأكيد من قبل العديد من المصادر الرسمية العراقية عن وجود علاقة سببية بين الإفراجات الكبيرة عن المعتقلين العراقيين والظهور الجديد لتنظيم «القاعدة» في العراق مؤخراً. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2009، ذكر عدة ممثلين رفيعي المستوى من وزارة الداخلية بأن بعض الانتحاريين وشركائهم في هجومي 19 آب/أغسطس و 25 تشرين الاول/أكتوبر، من المحتمل أنهم كانوا معتقلين سابقين، انكشفوا إلى حيثية تنظيم «القاعدة» في العراق أثناء فترة حبسهم. ووفقاً للشرطة العراقية أيضاً، إن أغلبيتهم كانوا قد احتُجزوا في القواعد العسكرية الأمريكية السابقة مثل معسكر بوكا، الذي أغلق في أيلول/سبتمبر المنصرم والذي أصبح مرتعاً لإيديلوجية تنظيم «القاعدة» في العراق.

ويثير الوضع الحالي تساؤلات حول نظام السجون في العراق كمهد جديد للدعاية الجهادية وآثارها على الأمن إذا ما تم الإفراج عن معتقلين إضافيين في ظروف مماثلة. لقد كانت السجون معاقل تقوم بصورة دائمية بحضن الفكر المتطرف. فمرشد الحركة الإسلامية المعاصرة، سيد قطب، كان قد كتب كتابه "معالم في الطريق" في أحد السجون المصرية، والأردني الجهادي أبو مصعب الزرقاوي قام بتجنيد أتباعه الرئيسيين أثناء احتجازه. إن تطرف القلوب والعقول وعمليات التجنيد من قبل الإسلاميين داخل السجن هي أسهل من كل شئ حيث غالباً ما تكون السجون مثقلة بالأعباء، والظروف اليومية محفوفة بالمخاطر.

وتتابع الباحثة بالقول، على الرغم من هذه المشاكل بذلت القوات الأمريكية جهوداً لا يمكن إنكارها للحد من التطرف داخل السجون العراقية، وحتى سعت من أجل إدخال برامج مناهضة للتطرف. ويشار إلى هذه البرامج بـ "التنوير الديني"، وقد قام قائد المعتقلات الأمريكية في العراق، الجنرال دوغلاس ستون، بإدخال أول مبادرة كهذه في عام 2007. وكانت تلك البرامج تهدف إلى "اصلاح" المعتقلين العراقيين الذين كانوا محتجزين لفترة زادت عن عام، وتوفير الفرص لهم لكي يحصلوا على التعليم والإستشارة مع رجال دين مسلمين وأطباء نفسيين لكي يتم غرس نهج معتدل للإسلام في نفوسهم وتجنب انتشار العقيدة الجهادية. وفي أيلول/سبتمبر 2007، افتُتِح سجن للأحداث في معسكر فيكتوري، يُعرف باسم "دار الحكمة"، لتوفير فرص للتعليم والعمل للمعتقلين العراقيين الصغيري السن، الذين غالباً ما يكونون راديكاليين بصورة أكثر جذرية. إن الهدف من فتح هذا المرفق هو إحباط مساعي تجنيدهم إلى تنظيم «القاعدة» في العراق بعد أن يتم الإفراج عنهم.

وبعد نقل مرافق السجون التي تديرها الولايات المتحدة إلى الحكومة العراقية هذا العام، تم الحفاظ على البرامج المناهضة للتطرف التي تم إدخالها من قبل. وتستمر هذه البرامج في التركيز على إعادة تأهيل السجناء العراقيين قبل إطلاق سراحهم، وخاصة أولئك الأكثر ميلاً إلى أيديولوجية تنظيم «القاعدة» في العراق. وفي حين أنه قد تم بنجاح تثقيف عدد من السجناء على مناهضة التطرف، وقاموا بالتوقيع على مذكرة تتضمن تأدية القسم بعدم حمل السلاح فور الإفراج عنهم ودمجهم في الحياة المدنية، إلا أن الجهود التي بذلت لتجسيد المواقف بين المحتجزين (وخصوصاً بين المتمردين السابقين) لاقت حدوداً واضحة، كما اتضح من خلال نجاح تنظيم «القاعدة» في العراق في الظهور من جديد في الآونة الأخيرة.

وتوضَّح بن رعد، هناك عدة عوامل تفسر لماذا أسفرت البرامج المناهضة للتطرف في العراق عن نتائج متباينة. أولاً، وضع السجون يجعل من الصعب على الأئمة الذين يقومون بواجباتهم في المؤسسات الإصلاحية تمييز المعتقلين المتطرفين الذين لا يمكن أن يصبحوا معتدلين، وبالتالي ينبغي أن يكونوا معزولين عن بقية السجناء. ومن المرجح أن يكون هذا الغموض قد أدى إلى الإفراج عن العناصر المتطرفة. ثانياً، في حين أن تنظيم «القاعدة» في العراق ممقوت من قبل معظم العراقيين خارج نطاق السجون، إلا أن رسالته الراديكالية تحتفظ ببعض الصدى داخل السجون، وتؤثر على السجناء الأميين والخائبين على وجه الخصوص. ويستخدم «التنظيم» "حيثية الإحتلال" كوسيلة لتجنيد محاربين جدد غير نظاميين. ويقوم التنظيم الجهادي بتصوير السجون في البلاد باعتبارها رمزاً للقمع الذي يقوم به "الكفار"، ويعرِّف "المحتلين" بأنهم القوات الأمريكية والعراقية على حد سواء. فعلى سبيل المثال، في أيلول/سبتمبر 2009، وقعت أعمال شغب في سجن أبو غريب الذي أعيد فتحه حديثاً بإسم "السجن المركزي في بغداد"، عندما حاول عدة معتقلين تابعين لتنظيم «القاعدة» في العراق التغلب والسيطرة على حراس الأمن.

وتختتم بن رعد مقالها بنتيجة مفادها، على الرغم من أن هناك العديد من العوامل المختلفة التي تؤخذ في الحسبان حول أسباب نجاح تنظيم «القاعدة» في العراق إلى الظهور من جديد، إلا أن الإفراج عن آلاف المعتقلين العراقيين منذ عام 2008 قد يكون إحدى أهم هذه العوامل. كما أن انسحاب القوات الأمريكية المقاتلة من المدن العراقية في الصيف الماضي وفر أيضاً للمحاربين غير النظاميين من تنظيم «القاعدة» في العراق مساحة جديدة للعمل. فبعد أن هُزم بشكل مؤقت من خلال زيادة عدد القوات الأمريكية وتأثيرها الإيجابي على الأمن، يبدو أن «التنظيم» قد أعاد تشكيل نفسه داخل السجون. وقد اعترف عدد من المعتقلين المفرج عنهم بأنهم قد أصبحوا متطرفين أثناء احتجازهم، وأجروا اتصالات مع «القاعدة»، وشاركوا في عدة هجمات انتحارية.

وتخلُص الكاتبة الى، إن تعزيز التحسينات الأمنية التي تحققت في العراق منذ عام 2007 وإبقاء تنظيم «القاعدة» في العراق على الهامش، ينبغي أن تكون من أولويات اهتمامات كلا الحكومتين الأمريكية والعراقية. وفي هذا الصدد، هناك عدداً من الخطوات الملموسة الواجب اتخاذها. يجب أن يجرى تقييم شامل وتعديل على الإطار القانوني الذي سمح بإطلاق سراح الجهاديين الخطرين، وقانون العفو على وجه الخصوص، بحيث لا تمنح المزيد من الحماية لهؤلاء الجهاديين. كما أن تعزيز سيادة القانون ومكافحة الفساد هي أيضاً من العوامل الأساسية لإعادة بناء مؤسسات فعالة في العراق.

وفي النهاية، يجب تعزيز عمليات الرصد والعمل بصورة صارمة -- ضمن نظام السجون الذي يوفر بيئة مثالية لنشر الفكر الجهادي المتطرف -- من أجل فصل السجناء الإسلاميين "من دعاة الوحدوية"، من المعتقلين المعتدلين الذين من المرجح أن تتم إعادة تأهيلهم بصورة أكثر نجاحاً.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 10/كانون الثاني/2010 - 24/محرم/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م