الغواية الطائفية في الخليج

أحمد شهاب

خلال المقالات السابقة، حاولت قدر المستطاع التفريق بين الانتماء للطائفة، والنزوع الطائفي، أو الطائفية التي تبدو كسياق ارتفاع عصبوي داخلي موجه في أقصى حالاته، واعتبرت أن الانتماء للطائفة هو أمر طبيعي، وهو في أغلب الأوقات ليس بيد الإنسان، ولا من اختياراته، وإنما مفروض عليه بقوة الوجود الأسري والاجتماعي. فالفرد الذي يولد في أسرة سنّية يكون في الغالب سنّي المذهب، كما أن من يولد في أسرة شيعية يكون شيعيا بالأصالة.

إضافة لذلك، فإن مسألة الانتماء إلى دين، أو طائفة، هو في النهاية حق مكفول لكل إنسان على وجه الأرض، كفلته الأديان السماوية، واعتبرته أحد الشروط الأساسية في قبول العبادة، أو ردها حسب الآية (256) من سورة البقرة «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي»، وكذلك من قبل القوانين والمواثيق الدولية التي تكفل حق كل إنسان في أن ينتخب طريقه الفكرية والعقدية من دون فرض أو قيد أو وصاية من أحد.

إن مجرد الانتماء إلى طائفة، أو مذهب، ليس سببا للأزمات كما يعتقد البعض، ولا يمكن أن نحمّله علة نشوء الخلافات والمشكلات في المجتمعات المعاصرة. فالمشكلات والأزمات الإنسانية موجودة قبل وجود الطوائف وبعدها. نعم تستغل بعض الأطراف الطوائف لدعم الصراعات والخلافات لتحاول أن تمنحها بُعدا دينيا، لكن لو لم توجد الطوائف لبحث أرباب الأزمات عن دوافع أخرى للصراع والتصادم.. فعقلية التصادم تسبق وجود الطوائف، بل هي التي تعمل على تغذيتها بأسباب الصراع وتدفعها نحو الاقتتال.

فهناك من يريد أن يؤسس للطائفية والعنصرية ويستغل الانتماءات الفرعية لتحقيق أغراض سياسية، أو اجتماعية محددة سلفا. ولذا فإن الطائفية، وعلى الرغم من ظاهرها الديني المتشدد في كثير من الأوقات، فإن أبطالها أو محركي فتنتها ليسوا متدينين في كل الأحوال، وقد وجدنا العديد من البعثيين والاشتراكيين والعلمانيين متلبسين بالطائفية، ويتحدثون عن الجهاد والشهادة وعن ثواب المضحين والمضحيات بأموالهم وأنفسهم، ولا يستطيعون في الوقت عينه النظر إلى المجتمع إلا من خلال الخُرم الطائفي، وهذه الحال تتضاعف في المجتمعات الخليجية بصورة مثيرة للتأمل.

على ما يبدو، فإن المنطق السائد في المجتمعات الخليجية، هو المنطق القائم على قول الشاعر: «وما أنا إلا من غزية إن غوت.. غويت وإن ترشد غزية أرشد!»، وغزية ليست فقط قبيلة «أمية ابن أبي الصلت» الشاعر الجاهلي المتحمس لقوميته وقبليته حد اتباعها عند الغواية إن غوت، وإنما هي ايضا «غواية القيمة» التي نقلت المثقف الخليجي من مرحلة نقد الذات بوصفها من الملكات الحسنة التي يتميز بها الفرد الحر، الى مرحلة تبرير الأخطاء والتجاوزات طالما صدرت من الجماعة والطائفة، أو أحد أفرادها.

فهو منطق ما قبل الجاهلية، وما بعد الحداثة، بدرجة واحدة، وإلا بماذا نفسر انحياز العلماني الخليجي إلى طائفيته عند اشتداد الصراع، وكأنه مهووس بالطائفية في أبشع تجلياتها؟ ولماذا تختفي القيم الليبرالية عند حامليها ودعاتها وتتقدم العصبيات الطائفية بمجرد نشوب صراع سياسي، أو فكري طارئ؟ ولماذا لا يتجرد العلماني من نزعته الطائفية والعصبوية طالما هو رفع شعارات المساواة والمواطنة والحرية العقدية؟ وأخيرا لماذا لا يتسم أداؤه بالهدوء الفكري والسياسي عند الخلاف، وتكون ردات فعله مساوقة، إن لم تكن أكثر خشونة من نظيره المتدين الطائفي؟

حيث سيلاحظ المتتبع للحراك الفكري والسياسي في الخليج أننا مازلنا نتحدث عن ليبرالي سني، وآخر شيعي، وعن علماني ينتمي للتشيع، وآخر ينتمي للتسنن، وهو ليس مجرد انتماء شكلاني وتصنيفي عابر.. اجتماعي أو تاريخي، فلو كان كذلك لهان الأمر، وإنما هو انتماء عصبوي مُغرق في طائفيته وعزلته على ذاته، ويتسلح في مواجهة الآخرين بلغة طائفية صرفة، وكأنه فارس من فرسان الطائفة والمذهب.. لغةٌ مُغلفة بالليبرالية، لكنها خالية تماما من القيم الليبرالية.

هذه المفارقة ليست عابرة، ولا ينبغي المرور عندها من دون توقف ودراسة وتأمل، لأنها تُشير من جهة، إلى عدم قدرة العديد من المثقفين في الخليج على التَّكيف مع الثقافة المعاصرة، بوصفها ثقافة تعارف وتعايش وتداخل فوق طائفي ومذهبي، ومن جهة أخرى تؤكد على استمرار بقائهم أسرى غواية الثقافة القبلية العصبوية، فكأنما هم يُعيدون إنتاجها من جديد، سواء في شكلها الديني أم مظهرها الحداثوي لأسباب وعلل مختلفة، وتحقيقا لغايات ملتبسة بالمصالح القبلية الخاصة.

فالمثقف الإسلامي في الخليج يُعيد إنتاج الثقافة القبلية في قالب ديني مُتشدد ليظهر الدِّين في ثوب الإنسان المتزمت الذي لا يتقبل الحوار مع الآخرين، وينغلق على ذاته الطائفية، وكأنه يحقق انتصارات دينية بوكالة الحروب التاريخية، في الوقت الذي يُعيد العلماني الخليجي إنتاج ثقافة القبلية في قالب حداثوي ليُنتج لنا حداثة طائفية جديدة، لا تختلف عن طائفية الإسلامي المتزمت إلا في بعض مظاهرها، وهي ثقافة لا تعمل على توسعة الخيارات وتحرير الإنسان بقدر ما تعمل على تأطير خياراته وتقييد إرادته الحرة.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12/كانون الاول/2009 - 24/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م