الثقافة ودورها في بناء المجتمع المعاصر

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: جُبل الإنسان في تفكيره وسلوكه على حالة الاكتساب من الآخر من جهة وعلى ما يورث له من سمات وخصال ومواصفات بايلوجية وغيرها من والديه واجداده، بمعنى أن ثمة نزرعة تسكن الانسان وتحرك تطلعاته تتعلق بحبه لكسب المعرفة من خلال الاحتكاك بالآخر ولا يقتصر الامر على المعرفة النظرية بل تتعداها الى المعرفة العملية ايضا.

وبهذا فإن درجة المعرفة ونوعها يتوقف على المحيط المعرفي الذي يحتوي انشطة الانسان وعلى نوع المتوارَث من السلف، فكلما كان المحيط متميزا بثقافة إنسانية متحضرة كلما كان الانسان الذي ينشط في هذا المحيط أقرب في ثقافته الى هذا الطراز من التفكير والسلوك ايضا، والعكس يصح، وينطبق هذا القول على المواصفات المتوارثة أيضا.

واذا كان الامر محسوما مع الموروث من المواصفات الجسمانية والخصال الاخرى، فإن درجة الحسم هذه لا تنطبق على المحيط المعرفي الذي يؤثر في بناء شخصية الانسان،  وعلى هذا الاساس تتحدد انماط السلوك والافكار لهذا الفرد او ذاك وبالتالي لهذا المجتمع او ذاك، وهنا يتضج بجلاء كبير دور الثقافة الانسانية المعاصرة في بناء المجتمع، كون الثقافة هي النبع المعنوي الذي يسهم الى حد كبير في بناء شخصية الفرد والمجتمع وفقا لتلك الثقافة سموا او نكوصا وتراجعا، وعن أهمية الثقافة ودورها في البناء الايجابي للفرد والمجتمع يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع):

(إنّ مسألة الثقافة من أهمّ المسائل في كلّ أُمّة وحضارة. وقد يصحّ ما يقال بأنّ العالَم يدور على عجلة الاقتصاد والسياسة، ولكن الأصحّ من ذلك هو القول بأنّ الثقافة هي التي توجّه الاقتصاد والسياسة. فبقدر ما يحمل الفرد من ثقافة وعلم في كلا المجالين، فإنّه لا يَخسر ولا يُغلَب).

وهكذا نرى أن الثقافة لا تنحصر في مجالها الذاتي فحسب بل ينتقل تأثيرها الى المجالات الحياتية الاخرى، بمعنى ان الثقافة المعاصرة المتحضرة بمقدورها أن تعكس ايجابياتها على طبيعة الانشطة السياسية كافة من خلال تثقيف السياسيين وتنويرهم وتطوير مهاراتهم التي تتعلق بالادارة وصنع القرار وما شابه، كذلك الحال مع الاقتصاد الذي سيكون قويا منظما ورصينا وفقا للثقافة التي تتدخل ببناء الاشخاص القائمين على ادارة العمليات الاقتصادية المتنوعة.

ولعلنا نلاحظ بوضوح ذلك الاهتمام الكبير الذي تبديه الامم والشعوب في مجالات التثقيف، لأنها تعرف مدى الدور الهام بل والأساسي للثقافة على وجه العموم، لهذا تحاول بعض الشعوب والامم أن تفرض أنماطها الثقافية على الآخرين، لأنها تعرف أن أقصر الطرق للسيطرة على الاخرين هو التأثير الثقافي عليهم من خلال تذويب ثقافاتهم الأصيلة وتوريطهم بثقافات بديلة ليس لها جذور متأصلة في تلك الشعوب، لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على الدور الهام للثقافة الاسلامية في هذا المجال، لأن السياسة تعجز عن مقارعة الثقافة الدخيلة وكذلك الاقتصاد، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه بهذا الصدد:

(إنّ الثقافة الصائبة وحدها القادرة على مواجهة وتصحيح ما نراه من ثقافة ضحلة في عالم اليوم، لأنّ القوّة أو المال أو غير ذلك يعجز عن مواجهة الثقافات وتغييرها، إذ لا يقارع الثقافة إلاّ الثقافة. فقد يهزم التاجر زميله التاجر، والسياسيّ نظيره، ولكن الفكر والثقافة لا يهزمان بالمال أو القوّة السياسية أو العسكرية، بل لابدّ لمن أراد خوض الميدان الثقافي الهادف إلى التغيير أن يكون متسلّحاً بسلاح الفكر والثقافة. ومن هنا كان العمل الثقافي من أهمّ الأعمال في المجتمع، فهو يمثّل البناء التحتيّ لغيره من الأعمال).

إذن بالاضافة الى الدور المحلي للثقافة في تطوير الامة فإن بمقدورها صد الثقافات الدخيلة التي تحاول محوها او تذويبها وبالتالي جعل الامة تابعة لها كما مع الشعوب المتخلفة التي تعرضت الى موجات ثقافية دخيلة حاولت (وتمكنت في بعض الحالات) أن تلغي الثقافات الاصيلة بأخرى وافدة عليها من امم وشعوب أخرى، ناهيك عن دور الثقافة في البناء السليم للبنى التحتية والفوقية للمجتمع ولعموم انشطته الفكرية والعملية في آن.

فالثقافة القائمة على أسس سليمة بإمكانها أن تغير الافراد سلوكا وفمرا الى ما هو افضل وبالتالي صناعة المجتمع المتطور، على أن هذا الامر لا يتم بين ليلة وضحاها، أي أن تغيير القناعات بأخرى أكثر تطورا يحتاج الى صبر وجهد ينبغي أن يُبذل من قبل المعنيين من اجل تغيير الفرد والمجتمع من حال ثقافي متردٍ الى آخر أكثر رفعة وسموّا، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد بكتابه نفسه:

(ولا يعني تغيّر الإنسان بسبب فكرة أو كلمة ضرورة أن يحدث التحوّل المعلن لديه دفعةً واحدة، لأنّ تغيير المواقف والعقائد والإعلان عنه ليس بالأمر الهيّن، فهو يغيّر تاريخه، بل ونوعية وجوده. ولكن الفكرة النيّرة تهزّ الإنسان ـ المنصف الواعي ـ وتدفعه إلى مزيد من البحث؛ وصولاً للحقيقة الكاملة، وإذا اتّضحت له البيّنة آمن، إلاّ أن يكون معانداً، والمعاندون قليلون، أمّا ما نراه في عامّة الناس من عدم الاهتداء إلى نور الحقّ فهو التعصّب الناشئ من الجهل وعدم انكشاف البيّنة، الأمر الذي يحتاج إلى وسائل وفرص كفيلة بذلك ).

من هنا يبدو دور الثقافة أكثر وضوحا في بناء المجتمعات إلاّ أننا يجب أن نضع في حساباتنا بأن الوصول الى هذا الهدف يحتاج الى جهد وصبر ومثابرة متواصلة في هذا الميدان الحيوي.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5/كانون الاول/2009 - 17/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م