مبادئ ومرتكزات العولمة الصحيحة

قبسات من فكر الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: عندما يُذكر مصطلح (العولمة) في دراسة او بحث او كتاب او محفل ما، فإن الشيء الاول الذي يتبادر الى ذهن المتلقي، أنها صنعة غربية، إكتشفتها المخترعات البحثية لمفكري الغرب، وهي كشف من كشوفاتهم الكثيرة كما يظن كثير من الناس، لذا سُجّل هذا الاصطلاح بإسم العلماء الغربيين، ونُسب عمليا الى تلك المجتمعات التي أظهرت العولمة الى الوجود كما يدّعي مفكروها وعلماؤها.

بيد أن الامر الصحيح (تأريخيا) أن الاسلام هو اول دعى لهذا المفهوم وطبقه في آن واحد، بكلمة أخرى أن المبادئ والتعاليم الاسلامية جاءت بمفهوم العولمة (ليس اصطلاحا) وانما فعلا متحركا على الساحة العملية المنتجة للحراك الانساني، وتم ذلك قبل أكثر من 1400 عام، وقد جاء في كتاب (الفقه: العولمة) لمؤلفه الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) بهذا الصدد:

(الإسلام هو أول من طرح فكرة العولمة الصحيحة، وأول من أقام صلبها بنظام اقتصادي سليم، وأول من جاء بمستلزماتها ومقوماتها، وأول من رصّ أسسها وأحكم قواعدها، وقد طبّق الرسول الأعظم –ص- العولمة الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وحقق نظام اقتصادها السليم، وسعى لتبيينها وتحديد مسارها ومعالمها، فجعل بأمر الله تعالى الدين واحداً، والمعبود واحداً، والكتاب واحداً، والاقتصاد واحداً، والتاريخ واحداً، والقبلة واحدة، والسنّة واحدة، والشريعة واحدة، واللغة واحدة ومشتركة بين الجميع، مما يحقق الأسرة الواحدة والبيت الواحد)..

فإذا كانت العولمة المعاصرة التي تُنسب الى الغرب تدعو الى مجتمع عالمي موّحد، فإن الاسلام كما هو واضح دعى الى ذلك منذ زمن طويل، ولم تقتصر هذه الدعوة على التنظير والقول المجرد، بل طُـبِّـقَـتْ على ارض الواقع حين أقدم النبي محمد (ص) على توحيد الناس عموما تحت خيمة مبادئ الفكر الاسلامي الانساني القائم على المصلحة الجمعية المتمثلة بحفظ كرامة الانسان وحقوقه من خلال التشاور والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع، واطلاق الحريات إلاّ ما يضر منها بالآخرين ويتجاوز على حقوقهم أو يحط من كرامتهم.

على العكس من العولمة الغربية الراهنة التي وظّفت كلّ شيء من اجل تحقيق اهدافها بما في ذلك سحق الانسان نفسه من خلال حصر رأس المال العالمي بيد نسبة ضئيلة جدا من الافراد او الشركات او الدول، وقد أشار الامام الشيرازي (رحمه الله) في كتابه نفسه الى هذا الموضوع فقال:

(مع نمو العولمة يزداد تركيز الثروة، وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعاً رهيباً لا مثيل له؛ نلاحظ أن 358 مليارديراً في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان الأرض، أي ما يزيد قليلاً على نصف سكان العالم، وأن هنالك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84% من التجارة العالمية، ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدّخرات العالمية، هذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة، حيث تستأثر قلّة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية، في حين تعيش أغلبية السكان على الهامش).

وبهذا يتضح لنا البون الشاسع بين (عولمة الاسلام) التي تهدف فكرا وتطبيقا الى تحقيق مصلحة الفرد والجماعة في آن، وبين العولمة الغربية التي تكدس المال العالمي بيد أفراد او جماعات، تاركة النسبة العظى من البشر تحت رحمة هؤلاء القلة، وهم غالبا ما يتحكمون بمصائر الأغلبية بالطرائق التي لا تليق بالانسان ولا بكرامته، والمشكلة المتعاظمة التي يعاني منها العالم هي تفرد النظام الرأسمالي العولمي بقيادة دفة الاقتصاد العالمي ومن خلاله يتم التحكم بالنظم السياسة والثقافية وغيرها من مجالات الحياة المتنوعة، مما يتيح او ينتج احتكارا كبيرا ومؤذيا للشعوب الأكثر فقرا وتخلفا في العالم، ولعلنا لا نخطئ حين نقول أن (العولمة الغربية) وتبعاتها الاقتصادية الكارثية على الاغلبية، ناتجة عن تغييب الشرط الانساني وإلغاؤه تماما من حساباتها النظرية وانشطتها العملية، وقد أشّر الامام الشيرازي (رحمه الله) جانبا مهما يتعلق بتزايد البطالة العالمية بين الشعوب الفقيرة لا سيما بعد أن سيطرت الآلة على كل مفاصل الحياة، فنقرأ في مقدمة هذا الكتاب الثمين بهذا الصدد:

(ويرى سماحته قضية على جانب كبير من الأهمية، ولها علاقة وثيقة بالعولمة الغربية والتي تكشف حقائق يتغافل عن إثارتها الكثير من الباحثين الغربيين وأهل السياسة ألا وهي قضية النمو المطرد للبطالة، وما يرتبط بها من تقليص في قدرة المستهلكين واتساع دائرة المحرومين).

إذن فعلماء الغرب يتغاضون عن الجوانب السلبية التي انعكست عن العولمة ويغضّون الطرف عن الاخطاء التي تلحق بالانسانية أضرارا فادحة، ولعل معظم علمائهم ومفكريهم يتبجحون الآن وسابقا على ان العولمة نقلت العالم الى مستوى جديد من نمط العيش والانتاج وغيره، لكنهم لن يتطرقوا الى الملايين التي يسحقها الجوع والحرمان نتيجة (لعولمتهم) التي تضع الخيار الانساني في اسفل اهتماماتهم، ونحن بقولنا هذا لا نريد ان نقف ضد العولمة، بل هو تأشير هام وواجب للسلبيات التي انعكست منها على اكثر الناس فقرا وضعفا وحرمانا، بكلمة اخرى نحن مع العولمة التي تراعي الشروط الانسانية، إذ يقول الامام الشيرازي (رحمه الله) في كتابه هذا:

(إن العولمة الصحيحة هدف إنساني لا غناء عنه إلاّ بنشره وتعميمه، ولا طريق للإنسانية أمامها إلاّ بالدخول فيها والانتماء إليها، علماً بأنّه لم يكن الدخول فيها قد بدأ في هذه الأيام، بل منذ إرسال الأنبياء أولي العزم)..

لذلك نحن مع العولمة التي تقوم على مرتكزات انسانية واضحة في التنظير والتطبيق، وهي العولمة التي تضع المصلحة الانسانية كشرط أساس للمضي قُدُما في تحقيق حياة تليق بالكرامة البشرية وتعكل على تحقيقها الى أقصى حد ممكن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 1/كانون الاول/2009 - 13/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م