الجغرافيا العالمية للإبداع وجذور الإبتكار

 

شبكة النبأ: عندما تمكّنَ مموّل بارز في ولاية كاليفورنيا الامريكية من أن يجمع بصورة مدهشة مبلغ بليون دولار، في صيف عام 2009، لاستثمارات في (تكنولوجيات خضراء) محفوفة بالمخاطر، فإن سيليكون فالي ذكّرتْ العالم من جديد أن الجغرافيا، في ميدان الابتكار على الاقل، هي القدر المكتوب والمدّ القادم.

وقال جي باسكال زكري، صحفي ومؤلف ومعلِّم، في مقال له حول مدّ الإبتكار القادم بعيداً عن وادي السليكون: يجسّد فينود خوسلا الرأسمالي المغامر الذي جمع ذلك المبلغ من المال، الدور الحاسم الذي يلعبه الموقع الجغرافي في حقل الابتكار والتغيير التكنولوجي. هاجر خوسلا قبل ثلاثين سنة من موطنه الأصلي في الهند للدراسة في جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا حيث درس إدارة الأعمال. وعندما تخرج عام 1981 ساعد في تأسيس شركة صنّ مايكرو سيستمز، وهي شركة نافذة لصنع أجهزة الكمبيوتر. وفي وقت أحدث، احتضن خوسلا فكرة البحث عن الطاقة البديلة، حيث طبق المهارات والاتصالات المتوفرة في وطنه الجديد لحل مجموعة جديدة من المشاكل.

واضاف باسكال، من المؤكد أن أجزاء أخرى من العالم تسعى لتحقيق ابتكارات في حقل الطاقة البديلة، وبذلك تحقق عدم احتكار أي مكان واحد لمثل هذه التكنولوجيات الناشئة. مع ذلك فإن قدرة سيليكون فالي على التوسع لتطوير تكنولوجيات طاقة رؤيوية تُذكرنا بقوة الموقع الجغرافي: لا تحدث الابتكارات في أي مكان، بل تبرز في معظم الأحيان من تجمعات جغرافية تتكون من مستثمرين، جامعات رئيسية للأبحاث، شركات قائمة للتكنولوجيا، والعديد من المهندسين والعلماء الراغبين في تجريب أشياء جديدة.

ويقول خوسلا حول صندوق التمويل الجديد الذي يديره: "الهدف في ذلك يماثل إلى حدٍ كبير ركوب مخاطر لا يغامر أي إنسان آخر باتخاذها".

إن ركوب المخاطر وإعادة الاختراع هما أمران مركزيان في سيليكون فالي. كانت المنطقة في واجهة الابتكار لمدة نصف قرن تقريباً، أولاً في صناعة أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات ومن ثم في حقل برامج الكمبيوتر، والإنترنت، ووسائل الإعلام، والاتصالات. وفي كل مرة كانت سيليكون فالي تبدو على وشك الاضمحلال نتيجة تفوق مراكز ابتكار عليها في مكان آخر من العالم، كانت تبرز موجة جديدة من الاختراقات التي ساعدت المنطقة في الحفاظ على مركزها الأرفع عالمياً.

ويذكّر باسكال، في التسعينات من القرن العشرين، ازدهرت التكنولوجيا البيولوجية في شمال كاليفورنيا، جزئياً بسبب الدور الذي لعبته أجهزة الكمبيوتر في الهندسة الجزيئية والأبحاث الصيدلانية. وفي وقت مبكر من هذا العقد، جعل ظهور غوغل هذه المنطقة الرائدة العالمية في محركات البحث على الإنترنت. وفي وقت أحدث، ولّدت سيليكون فالي الكثير من شركات الشبكات الاجتماعية، مثل تويتر وفيسبوك، كما محركات المحتويات ذات المصدر المفتوح مثل ويكيبيديا. وأحدثت برامج آيبود وآيفون، التي صممتها وهندستها شركة آبل في مختبراتها في سيليكون فالي، ثورة في الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية عبر العالم.

تفسر الاختراقات التي حققها مبتكرون في شمال كاليفورنيا سبب تلقّي المنطقة نسبة تصل إلى 40 بالمئة من الرأسمال المغامر المستثمر في الولايات المتحدة بكاملها. وإذا تمّ شمل منطقتي لوس أنجلوس وسان دييغو، فإن ولاية كاليفورنيا تتلقى حوالي نصف كافة الرساميل المغامرة في بعض السنوات. الحصول على هذا القدر من المال يعزز تفوق المنطقة، جزئياً لأن المال يعمل كمغناطيس في جذب المواهب من حول العالم.

ربط التجمعات

ويبيّن باسكال، تمارس جاذبية الجغرافيا نفوذاً قوياً حتى عندما تعود الموهبة الفنية إلى موطنها. لقد  أظهرت أنالي ساكسينيان، الخبيرة في الابتكارات الإقليمية في جامعة بيركلي في كاليفورنيا، ان بإمكان المبتكرين أن ينتقلوا بفعالية ذهاباً وإياباً بين كاليفورنيا وتجمعات ابتكار أخرى، بعضها بعيد جدا كالهند وتايوان. يستغل ما تسميهم ساكسينيان "المغامرون الجدد" بصورة أساسية الهرمية الجغرافية التي تربط بين مناطق الإنتاج المتدنية الكلفة في آسيا والنشاطات الأعلى قيمة في الولايات المتحدة وأوروبا.

ولدى التجمع الجغرافي منطقة ذاتية التعزيز. فعندما يتم كسب تفوق، فإن من الصعب بصورة مدهشة فقدانه. قام عالم التاريخ البريطاني، بيتر هول، بتأريخ نشوء المدن العظيمة في تاريخ العالم وهو يعزو استمرار بقائها، جزئياً، إلى الفوائد التي يحققها أن تكون الأولى في إرساء سيطرتها كما واجتذاب الهجرة الداخلية للمواهب اليها. فتماماً كما يستمر نادي مانشستر يونايتد او نادي ريال مدريد في جمع اقوى فرق كرة القدم سنة بعد الأخرى، كذلك تستطيع المدن أو التجمعات الإقليمية المسيطرة ان تحافظ على تفوقها. ترغب المواهب المتفوقة، في نهاية المطاف، في الانضمام إلى الفائز، ومن خلال القيام بذلك فإنها تؤمن بقاء المدن او المنظمات القائمة قوية.

ومغزى ذلك واضح: ينظر المستثمرون إلى عنوان إقامة أي مبتكر بقدر ما ينظرون إلى تكنولوجياته أو سيرته الذاتية. قد يعتبر أمراً حكيماً قيام مواطن برازيلي لديه فكرة افضل لصنع بطاريات لسيارات كهربائية ان يشمل اليابان وألمانيا في خطة إنشاء أعماله التجارية. كما يكون على مصمم قطارات هندي تخصيص موازنة لتغطية نفقات رحلاته المتكررة إلى أوروبا. فمن غير المحتمل لمصمم لامع لجهاز معالجة مصغر جديد ان يحصل على تمويل على الإطلاق إذا كان يصر على العيش في روسيا. أما إذا انتقل إلى سيليكون فالي فصندوق النقد لديه سيمتلئ بسرعة.

ويوضح باسكال، لحسن حظ الناس في العالم، ان تجمعات الابتكار تتوزع بصورة ديمقراطية إلى حدٍ كبير. تملك فرنسا تجمعات مهمة في حقل الطيران، تكنولوجيا القطارات، الطب، والطاقة النووية. ظلت ألمانيا رائدة عالمية في تكنولوجيا السيارات لمدة مئة عام. بنغالور، في الهند، هي مركز لبرامج الكمبيوتر الجديدة. وتتصدر كوريا صناعة تصميم الأجهزة الإلكترونية "الذكية" بدءاً بالهواتف المحمولة ووصولاً إلى غسالات الملابس التي تشعر بحجم الحمولة والكمية الدنيا من المياه الواجب استعمالها. كما يتفوق مهندسو البرازيل في تصميم طائرات لنقل الركاب بين المدن، وتقود إسرائيل في أنظمة الأمن لشبكات الكمبيوتر.

يفسر الإرث التاريخي أحياناً لماذا تملك جغرافيا معينة أفضلية جوهرية في حقل عمل محدد. بعد انقضاء حوالي 20 سنة على انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، تظل روسيا رائدة العالم في تكنولوجيا إطلاق الرحلات الفضائية ومركز صناعة "سياحة الفضاء". وحتى وكالة الفضاء الأميركية تعتمد أحياناً على الصواريخ الروسية لإرسال أميركيين إلى الفضاء.

وتلعب الحكومات أيضاً دوراً مهماً في خريطة الابتكار. فقد استثمرت الحكومة الفرنسية بكثافة في تكنولوجيا القطارات والطاقة النووية ومن خلال اتخاذ قرارات مركزية خفضت المخاطر وأزالت حالات عدم اليقين من أمام المبتكرين، محسنة بذلك قدرتهم على المنافسة العالمية. وأدّى إنفاق الحكومة الأميركية على الأنظمة الإلكترونية المتقدمة، التي حدثت بسبب التطبيقات العسكرية في أحيان كثيرة، إلى حثّ المبتكرين المدنيين، كما أن هذا الإنفاق يفسر جزئيا لماذا احتفظت شركة انتل لمدة عقود طويلة بالمركز الأول بين منتجي أجهزة المعالجة الصغيرة. وكذلك، فإن السياسات الحكومية التي فضّلت المنتجين المحليين خلقت البيئة المطلوبة للابتكارات الصناعية في الهند كما الابتكارات في حقل الطيران في البرازيل.

ليس إلى الأبد

ويتابع باسكال، في حين أن الموقع الجغرافي يضفي أفضليات مهمة على الابتكارات، فإن الجغرافيا المؤاتية لا تشكل ضمانة ضد الفشل. يتساءل المؤرخ هول في بحثه الإبداعي "المدن في الحضارة"، "ما الذي يجعل مدينة معينة، في وقت معيّن، تصبح فجأة مدينة خلاقة بدرجة هائلة ومدينة ابتكارية بدرجة استثنائية؟ ولماذا تزدهر هذه الروح لبضع سنوات، وعادة لمدة عقد أو عقدين من الزمن على الأكثر، ومن ثم تختفي فجأة كما جاءت فجأة؟"

عندما تفقد مدينة او منطقة تفوقها التكنولوجي، لا يمكن أن تصبح الأسباب واضحة إلاّ عند استعادة الأحداث السابقة. اضمحلال تفوق ديترويت في صناعة السيارات يمكن عزوه إلى قرارات تقنية، واقتصادية، كما في الأعمال التجارية تمتد على مدى عقود ولم يتم فهمها حتى الآن إلاّ قليلاً. استعادة التفوق المفقود قد تكون صعبة جداً، جزئياً  لأن المراكز الجغرافية الجديدة للامتياز التكنولوجي قد تبرز، وهي برزت بالفعل، على المسرح العالمي، من لا مكان على ما يبدو.

ربما كان المثال الأكثر دراماتيكية في السنوات الأخيرة هو نهوض هلسنكي، عاصمة فنلندا، كمركز عالمي لتكنولوجيا الهاتف المحمول. رفع نجاح شركة واحدة، وهي شركة نوكيا، فنلندا إلى الصفوف الأولى في هذا المجال وحولت شمال أوروبا، ولا سيما ستوكهولم وكوبنهاغن القريبتين منها، إلى تجمع أساسي لصناعة الهاتف المحمول. في التسعينات من القرن العشرين، فتح تقريباً كل مبتكر للهاتف المحمول في العالم مكاتب له في هذا التجمع الجغرافي، مستمداً من المواهب المحلية. وكان سبب هذا التجمع أيضاً ظهور لاعبين جدد مهمين في حقل الاتصالات مثل شركة سكايب.

ألهم نجاح نوكيا، الشركة الابتكارية الكبيرة جداً في دولة صغيرة جداً، العديد من الدول الأخرى الصغيرة ودفع المدن لأن تحلم بإيجاد شركات تماثل شركة نوكيا لديها. إلاّ أن الحكومات تواجهها صعوبات في خلق تجمعات من العدم. يمكن ان تصل كلفة التفوق على منطقة اخرى إلى أرقام عالية لأن من المكلف تنمية الجامعات الضرورية وقد لا يكون الرأسمال المغامر اللازم متوفراً.

خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، حاولت عشرات المدن حول العالم إنشاء تجمعات خاصة بها مماثلة لسيليكون فالي. وانتهى معظم هذه الجهود إلي أن تكون محاولات في مجال التجنيد الصناعي: إغراء شركات التكنولوجيا بفتح مصانعها او حتى منشآت الأبحاث لديها في أماكن معينة.

في بعض الأحيان، يمكن ان ينتج تجنيد المواهب الابتكار بمرور الزمن. فالدولة الجزيرة سنغافورة، على سبيل المثال، هي اليوم الرائدة العالمية في صنع أجهزة تخزين الكمبيوترات الصغيرة، بعد ان كانت في بداية الأمر موقعاً منخفض الكلفة للشركات المصنعة لهذه الأجهزة. لكن أيرلندا، وهي دولة جزيرة أخرى جذبت عدداً كبيراً من الشركات لإنتاج الأجهزة الإلكترونية، جزئياً لكون كلفة القوى العاملة فيها أقل بالمقارنة مع المعايير الأوروبية، لم تنتج أي ابتكار.

إعادة تدوير المهارات

ويوضح باسكال، دور آخر قد تقوم به الحكومات او المنظمات المدنية هو اخذ المعرفة والمهارات، التي كثيراً ما تكون محددة بأماكن معينة، وتطبيقها على فرص جديدة ممهدة الطريق أمام منطقة معينة لإعادة اختراع نفسها من الوجهة التكنولوجية. فمثلاً، إحدى نقاط قوة سيليكون فالي تتمثل في إيجاد طرق لإعادة تدوير المجموعات القديمة من المهارات الفنية او القواعد الثقافية: فصناعات السيارات الكهربائية والطاقة المستدامة موجودة في سيليكون فالي لأن الناس هناك يملكون قدراً كبيراً من التجارب في تصميم البطاريات (نظراً لضرورة البطاريات في أجهزة الكمبيوتر) وفي إدارة الكمبيوتر للشبكات الكهربائية.

يظل القطاع الخاص حاسماً، حتى في المواقع التي يبدو احتمال تحقيق القيادة في الابتكار فيها منخفضاً. ولنأخذ مثلاً حالة كينيا التي ساعدت على صعود إحدى تكنولوجيات تحويل الأموال الأكثر ابتكاراً في العالم، المسماة M-PESA. فتكنولوجيا M-PESA التي أوجدتها شركة سافاريكوم، شركة الهاتف المحمول المسيطرة في البلاد، قامت بدمج التكنولوجيا المستعملة في إرسال النصوص مع شبكة الشركة الهائلة لبائعي التجزئة الذين يبيعون "وحدات" إلى الزبائن الذين يشترون هذه الهواتف للدفع عند الاستعمال. من خلال نظام M-PESA، يرسل الناس الأموال الإلكترونية بواسطة هواتفهم ويتسلم المرسل إليهم النقد الفعلي من بائعي التجزئة الذين يحسمون الوحدات من هاتف المرسل اليهم.

وجزئياً بفضل نجاح M-PESA، أصبحت نيروبي المركز الجديد لتجمع المبتكرين في مجال الهاتف المحمول. توظف غوغل، ومايكروسوفت، ونوكيا باحثين في هذه المدينة، وتتشكل شركات جديدة حول كتابة برامج تطبيقية للهواتف المحمولة والإنترنت.

ويختم باسكال مقاله مذكِّراً، لم تصل نيروبي حتى الآن إلى درجة بنغالور او شنغهاي، وهما المدينتان اللتان تنتميان إلى العالم النامي وتدعمان مجتمعات أهلية مزدهرة من المبتكرين. مع ذلك فان واقع إمكانية حدوث الابتكار حتى في أفريقيا، يؤكد ظهور تحول رئيسي تجاه ما اسماه مستشار الأعمال هنري شيسبرو "بالابتكار المفتوح". تنتشر المعرفة بسرعة أكبر من الماضي، وقد نمت بالتأكيد قدرة المناطق المتأخرة في اللحاق، أو حتى تجاوزت الشركات الرائدة التقليدية. لا زالت الجغرافيا ذات أهمية كبيرة، ولكنها بالتأكيد ليست بالأهمية التي كانت عليها في السابق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22/تشرين الثاني/2009 - 24/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م