سيكولوجية التمذهب في الخليج

أحمد شهاب

النزوع نحو الطائفية يعد أحد أبرز سمات العصر الثقافية، وهي سمة تتعدى «اختصاصها» بدول الخليج إلى أجزاء واسعة من دول العالم، وتحديدا العالمين العربي والإسلامي، لكنها تتضخم في مجتمعات الخليج بصورة أكثر من سواها، نظرا لانعدام الفعل الثقافي المقابل، بل حتى ما نطلق عليه المحاولات والإسهامات الثقافية المتواضعة، لا نكاد نجد لها أثرا فعالا في الحياة العامة لدول مجلس التعاون، والتي يغلب عليها في السنوات الأخيرة الانكماش على الذات، والرغبة في الإبقاء على الأوضاع على ما هي عليه، من ضمن ثقافة الجود من الموجود.

يقابل ذلك تراجع المعاني الثقافية الكبرى من قبيل فكرة الحرية والوحدة والحقوق العامة، والعزوف عن الإسهام في الفعل الإنساني والحضاري المشترك، لمصلحة ثقافة الانتصار للطائفة، أو القبيلة، أو حتى لمصلحة المدرسة الفكرية داخل هذه الجماعة أو تلك.

وهي تراجعات وتحولات ثقافية واجتماعية تحتاج إلى كثير رصد وتحليل، للتعرف من خلالها إلى طبيعة مجتمعاتنا، وأسباب تحولها الملفت إلى الهويات الفرعية على حساب الهويات الكبرى.

خلال السنوات العشرين الماضية، طرأت تحولات هائلة على نظرة المسلمين بصفة عامة إلى ذاتهم. قبل هذه السنوات كان المسلمون ينظرون إلى أنفسهم كتعبير عن بيئة واحدة، أو متقاربة إلى درجة كبيرة، وحتى الاختلافات المذهبية والإنتماءات الضيقة، التي كان يصدح بها البعض معربا عن توجهات طائفية، فإنها كانت مخترقة من قبل أصحاب أطروحات الوحدة والتعايش والإسلام الواحد..

والقضايا الدينية والوطنية كانت قادرة على لملمة المختلفين حولها، ففي ظل ارتفاع الدعوات الطائفية والتصادمية كانت ترتفع الأصوات العقلانية، المرنة والتقاربية.

تركز الهم الأساس للمصلحين والناشطين في ذلك الوقت على مواجهة مشروع التخلف، وما سبقه ولحقه من استعمار واستبداد وحرمان وهزال ثقافي عام. لذا فعلى الرغم من ارتفاع الأصوات الطائفية التي كانت تدفع نحو مزيد من التصادم بين الفرقاء على الساحة، إلا أن مواجهتها تتم بشكل تلقائي عبر التوجه العام نحو القضية الأكبر، من حيث أولوياتها وأهميتها.. فمن يحمل هم وحدة الأمة، لا ينزلق في منحدرات الطائفية والمذهبية، والذي يحمل مشروع تحرير الأمة من ربقة التخلف، لا يتوقف عند خصومات داخلية تشغل أبناء الطائفة في قضايا ثانوية.

لكن تراجع الأطروحات الحضارية، والتمييع الثقافي الذي ضرب عقل الأمة من أدناها إلى أقصاها، دمر تلك الأولويات، ووضع المجتمعات الإسلامية والعربية في مهب ريح النزاعات الداخلية.

وبينما بقيت بعض البلدان العربية والإسلامية في حالة مقاومة لهذا العبث في المشهد الفكري، فتسقط مرة وتنهض أخرى، وقعت دول الخليج في دوامة السقوط الحر، لأن بنيتها الداخلية لم تختزن بتراكم فعل المقاومة الثقافية، بل ظلت مُتلقية ومُستقبلة، في وقت كانت المرحلة تستدعي منها أن تكون مبدعة ومتوثبة.

توارى إذا الفعل الثقافي بكل أشكاله وألوانه، وتحول التوجيه الديني في بعض دول الخليج من يد نخبة علمائية تتصف بالكثير من الاتزان والموضوعية، والقدرة على تحديد الأولويات وتنظيم الجهود، إلى يد نخبة علمائية غارقة في قضاياها واهتماماتها الهامشية، وتفتقر إلى أبسط المقومات النفسانية والفكرية التي تؤهلها للقيادة والإرشاد الديني، وبرزت «ظاهرة الخرافة» والتي أعتقد أنها أحد أهم الظواهر السلبية التي تداخلت في نسيج الثقافة المحلية، وكان لها الفضل في بناء وفشو العديد من الأساطير داخل كل منظومة مذهبية على حدة.

وتُعتبر ظاهرة الخرافة السبب الرئيس الذي يقف وراء بروز النزعة الطائفية بصورتها الحدية الراهنة. ولو أردنا تفسير العلة التي تقف خلف تفشي هذه الظاهرة، فيمكن الإشارة تحديدا إلى حال القلق التي سيطرت على المجتمعات البشرية خلال السنوات الأخيرة، وهو قلق متشعب ومتعدد الأوجه.

 القلق من الحروب، فكرة نهاية الكون، انتشار المجاعة العالمية، وتفشي الأمراض الوبائية، هذه الأفكار السلبية، التي يشملها عنوان الخوف من الموت والدمار دفعت الناس للبحث عن فُرص نجاة وسفن أمان.

سيكولوجيا، فإن الشعور بالخوف يدفع الإنسان إلى النكوص عن الواقع القائم، والبحث في ما وراء الطبيعة عن واحات أمان افتراضية، يلعب الخطاب الديني التقليدي خلالها دورا أساسيا في إيجاد تلك الواحات للمتعطشين والمحتاجين. ويُصر هذا الخطاب في العادة على تمييز نفسه عن الخطابات الأخرى.

فكل مدرسة دينية تُقدم خطابا ليس مختلفا فقط، وإنما معزولا عن المدارس الأخرى، بل ومناكفا لها، بحيث لا يمكن أن نتصور منتميا لا يحمل حالة عدائية ضد الآخر، تتحول في وقت لاحق إلى حالة عدوانية ضد الهويات الدينية الأخرى.

هذا التوصيف ينطبق على معظم الدول العربية والإسلامية، غير أنه يتعاظم داخل بلدان الخليج بصفة خاصة. فغياب الفعل الثقافي، وانتشار الفكر الوعظي والإرشادي، بما يقارب فكر الزوايا والتكايا، الذي كان منتشرا في بلدان المغرب العربي، عمق من حالة المذهبية داخل هذه الدول، حتى تعدت في أهميتها ما سواها من أولويات وقضايا، وأصبح لدينا عشرات المقتدرين ممن لديهم كامل الاستعداد لضخ أموالهم لتدشين ودعم مشاريع دينية وإعلامية واجتماعية مذهبية بغيضة، فيما لا يكاد واحد منهم يتبنى مشاريع تدعم أفكار الوحدة، وتنشر ثقافة المحبة، ورؤية التوحد لمواجهة الأخطار المباشرة والمهددة للجميع دونما استثناء.

* كاتب من الكويت

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 21/تشرين الثاني/2009 - 23/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م