سر التقدم

حتى يغيروا(17) قراءة في حلقات

نزار حيدر

ان العراق الجديد الذي يحتاج الى ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد التغيير الذاتي اولا.

هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.

لماذا تتقدم امم وتتخلف اخرى؟.

الجواب؛ وبكل بساطة، لان الاولى مستعدة ابدا لان تنفق، اما الثانية فتخشى الانفاق، ولذلك لا تتقدم، كيف؟.

لقد خلق الله تعالى الحياة وكل شئ من اجل اسعاد الانسان، فقال تعالى وكرر العبارة {وسخر} في العديد من الايات، كقوله عز وجل {الله الذي خلق السماوات والارض وانزل من السماء ماءا فاخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بامره وسخر لكم الانهار} وفي اخرى {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار} وفي ثالثة {وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} الا انه عز وجل وضع قانونا لنيل الانسان السعادة، لخصه في كلمة، هي (الانفاق) والذي هو في جوهره (تضحية) فقال تعالى {وما تنفقوا من خير فلانفسكم} وقوله في آية اخرى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} بمعنى آخر فان الانسان الذي يود ان ينعم بالسعادة عليه ان ينفق، اي يضحي، اما الذي لا يقدم على الانفاق، ويخشاه ويتهرب منه، فلا يمكن ان ينال السعادة ابدا، فلقد وضع الله تعالى لكل شئ ثمن، لا يمكن نيله بالتمني وبالاحلام، وقديما قال الشاعر؛

وما نيل المطالب بالتمني            ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

والحكمة تقول:

من طلب العلى         سهر الليالي

كما ان الشاعر الاخر قال:

ومن يتهيب صعود الجبال          يعش ابد الدهر بين الحفر

وبالمناسبة، فان السعادة لا تعني ان يكثر مالك وولدك، ابدا، فكم من ثري لا يعرف معنى السعادة، وكم من عشيرة تنتمي الى اب واحد لا تعرف معنى السعادة، انما السعادة هي ان تعيش حياتك مطمئن البال، ولقد روي عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام قوله في تفسير الاية المباركة {فلنحيينه حياة طيبة} هي القناعة، لان الانسان يحيا بها مطمئن البال، فينام الليل بلا قلق، ويبدا نهاره ويقضي يومه بلا قلق.

تاسيسا على هذه الحقيقة، فان كل انواع المشاكل التي تمر بالبشرية، ليس سبببها النقص في شئ ما مما خلقه الله تعالى، او انعدامه او قلته، ابدا، فلقد خلق الله تعالى كل شئ ما يكفي لكل البشرية، انما المشكلة في الانسان نفسه، الذي يحتكر الاشياء لنفسه او يمنعها عن الاخرين، فيسعى للتمتع بها لوحده دون غيره، وبطل الطرق التعسفية والظالمة، والا، خذ مثلا، العراق، كيف يمكن ان نتصور وجود الفقر في مجتمعه والعطش وهو البلد الذي يسبح فوق بحيرات البترول، وفيه كل هذه الخيرات من الزراعة والرعي والمواد الاولية الثمينة، وفوق كل ذلك وقبله، النهران العظيمان دجلة والفرات؟.

ان الامم المتقدمة ما كان لها ان تحقق التقدم الا بعد ان عرفت بماذا يجب عليها ان تنفق؟ وكيف؟ ومتى؟.

فبالانفاق تحقق الامم الحد الادنى من المساواة، وبالتالي تحقق به نوعا من التكافل الاجتماعي الذي يمكن اعتباره حجر الزاوية في بناء مجتمع مستقر وآمن، لان الطبقية الاجتماعية، وعلى اي مستوى كانت، هي احد اهم اسباب التوترات الاجتماعية، والطبقية لا يعود سببها الى انعدام امر ما في اي مجتمع من المجتمعات، وانما يعود سببها الى الاحتكار والسطوة والهيمنة الظالمة، وعدم استعداد الاغنياء، سواء بالمال او العلم او اي شئ آخر، للانفاق على من دونهم من الطبقات، فالغني يمتنع عن انفاق ماله على المستحق، والعالم يمتنع عن انفاق علمه الى الجاهل، وهكذا، وعندما تقرر الطبقة صاحبة اليد العليا في المجتمع اطلاق الفائض من حاجاتها فستنطلق بذلك عملية التكافل الاجتماعي التي ستؤدي الى استقرار المجتمع والغاء حالات الطبقية التي تسبب التوتر والتشنج الاجتماعي في اي شعب من شعوب الارض، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بقوله {ما جاع فقير الا بما متع به غني} او في قوله الاخر{ما رايت نعمة موفورة، الا وفي جانبها حق مضيع}.

والسؤال هو، ماذا على الانسان ان ينفق ليحقق أهدافه؟ وكيف؟ ومتى؟.

قد يظن البعض ان المقصود بالانفاق، هو المال فقط، وهذا ظن لا يغني عن الحق شيئا، لان المال ليس كل شئ، ابدا، انما المقصود بالانفاق هو كل ما من شانه ان يدخل كعنصر اساس في تحقيق الهدف، وفي الزمن المعين او المحدد، فتارة يكون المال هو هذا العنصر المطلوب، وتارة يكون الدم، وثالثة يكون العلم ورابعة يكون الجاه وخامسة يكون الوعي، وهكذا.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، يلزم ان يكون الانفاق متزامنا مع الحاجة اليه في الظرف والمكان المحددين، ولذلك، فعندما يشكو بعض الناس من عدم نجاحهم في تحقيق هدف مرحلي معين، بالرغم من انهم انفقوا ما كان يجب عليهم ان ينفقوه من مال مثلا او تضحية او ما اشبه، فان الخلل في مثل هذه الحالات لا يكون في اصل الانفاق، وانما في توقيته، فمثلا، ان على الطالب الذي يتطلع الى النجاح في الامتحان ان يستعد له بشكل صحيح وان عليه ان ينفق من راحته الشئ الكثير من اجل تحقيق الهدف، النجاح هنا، طبعا ليس بعد الامتحان، وبعد ان يمر الوقت، ابدا، وانما عليه ان ينفق وقته في الدراسة قبل الامتحان، وان عليه السهر والتعب وعدم اضاعة الوقت قبل الامتحان، اما اذا مر عليه الوقت ولم يعمل الذي عليه، فعندها لا ينفعه الانفاق ابدا مهما كثر او غلى ثمنه، وهكذا، بالنسبة الى كل الاهداف التي ينوي الانسان تحقيقها، فاذا اردنا ان نحقق اهدافنا، فان علينا ان نزامن انفاق ما هو مطلوب منا في الوقت المحدد، ليس قبله وليس بعده.

الملاحظة الهامة التي يجب ان نستذكرها دائما بهذا الخصوص، هي ان علينا ان نبادر للانفاق طوعا وفي طريق الخير من قبل ان نجبر على ضعفها ربما في طريق الشر، والى هذا المعنى يشير الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام بقوله {من منع ماله من الاخيار اختيارا صرف الله ماله الى الاشرار اضطرارا} وعن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام انه قال {اعلم انه من لم ينفق في طاعة الله ابتلي بان ينفق في معصية الله عز وجل، ومن لم يمش في حاجة ولي الله ابتلي بان يمشي في حاجة عدو الله عز وجل} وعن الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام انه قال {ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضي الله الا ابتلي بان ينفق اضعافها فيما اسخط الله} وعن الصادق عليه السلام كذلك انه قال {ما من رجل يمنع درهما في حقه الا انفق اثنين في غير حقه} وعنه كذلك {من منع حقا لله عز وجل انفق في باطل مثله}.

وكلنا يتذكر قصص اولئك الذين امتنعوا عن دعم المجاهدين المناضلين ضد النظام الشمولي البائد بدرهم، اذا بهم يدفعون دراهم كثيرة وقودا اما في حرب الطاغية ضد الجارة ايران او ضد الجارة الكويت، كما نتذكر قصص الذين رفضوا ان يضحوا بشئ من حياتهم في سبيل تحرير البلد من ربقة الديكتاتورية، الا انهم اضطروا الى ان يدفعوا كل حياتهم ليبقى الطاغية يحكم، وهكذا، هي تجارب الحياة والتاريخ والايام والحاضر، فهل من معتبر؟.

يروي لنا التاريخ ان صحابيا رفض اعطاء البيعة لامير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، عندما آلت اليه الخلافة الرسمية، وظل يتحجج باعذار مختلفة، فتركه الامام ولم يجبره على امر غير مقتنع به.

مرت الامام والسنين حتى آلت السلطة الى الطاغية السفاح الحجاج بن يوسف الثقفي، وذات يوم دخل عليه هذا الصحابي في مجلسه، في وقت متاخر من الليل، وهو مشغول بالطعام، وفي يده فخذ دجاجة، فساله الحجاج مستغربا: ما الذي جاء بك في هذا الوقت ومن دون موعد؟ فاجابه الصحابي (الجليل): حديث رسول الله (ص) فقال له الحجاج: واي حديث هذا الذي لم يدعك تنتظر الصباح لتاتيني؟ قال: لقد سمعت رسول الله يقول {من مات وليس في عنقه بيعة لامام مات ميتة جاهلية} واضاف: وانا اخشى ان اموت ليلتي هذه وليس في عنقي بيعة لك، استغرب الحجاج منه قائلا: الم تتذكر هذا الحديث ايام علي، لتبادر الى بيعته؟ فقال له الصحابي: يا امير المؤمنين، لا تحرجني بكثرة الاسئلة، امدد يدك لابايعك، فمد الحجاج له قدمه قائلا له: ان يدي مشغولة بالطعام، هذه قدمي خذها وبايعني بها.

الامر الاخر المهم جدا، هو، ان نعرف كيف ننفق الشئ المطلوب منا لتحقيق الهدف، فلا يكفي ان تنفقه في الوقت المحدد، اذا لم تكن تعرف كيف على وجه الدقة، فمثلا اذا كان عليك ان تنفق مالا لتشتري عقارا، فان عليك ان تحدد الوقت المعين للاقدام على ذلك، ثم تبحث عن الطريقة او الوسيلة التي عليك ان تتبعها لتنفق المبلغ المطلوب، ليثمر عقارا تملكه.

تاسيسا على ذلك، فاننا في العراق الجديد بحاجة الى ان نعرف على وجه الدقة ماذا علينا ان ننفق في كل مرحلة من مراحل بناء العملية السياسية الجديدة، ومتى، من اجل ان لا نضيع ما ننفقه في الوقت الضائع مثلا او في غير وقته، كما ان علينا ان نعرف على وجه التحديد والدقة كيف ننفق المطلوب منا في الوقت المعين والمحدد، من اجل ان لا يصادر المتربصون جهدنا الذي ننفقه، ولنضع ما ننفقه في مكانه المناسب من الهدف.

 ان العراقيين من اكثر الشعوب تضحية وانفاقا لكل شئ، ولكنهم ربما من اقل الشعوب التي تعيش حياتها باطمئنان وامان وراحة بال، لماذا؟ لا اريد هنا ان ارجم بالغيب واشرق واغرب في الاسباب، ولكنني اريد ان الخص فاقول، لا بد من خلل ما في مكان ما، وان علينا ان نصارح انفسنا ونفكر بصوت عال لنصل الى السبب الحقيقي، اذ لا يعقل ان نظل ننفق كل هذه التضحية الضخمة والمهولة، ازاء نتائج متواضعة جدا جدا، فهناك شعوب تضحي معشار ما يضحيه العراقيون ويحصلوا على نتائج اكبر اضعاف المرات مما يحصل عليه العراقيون، مرة اخرى، لماذا؟ لابد من سبب او اسباب، اتمنى على المفكرين والمثقفين ان يطرقوا ابواب مثل هذه التساؤلات المشروعة، فيفكروا بصوت عال وبتجرد وعلمية، اولا من اجل توفير التضحيات الجسام، وثانيا، من اجل ان نضاعف النتائج، اما ان نبقى هكذا نضحي كثيرا ولا نلمس الا الشئ المتواضع من النتائج فهذا ما لا يرضاه عاقل، انه العبث.

انظروا الى الحروب التي فرضها الطاغية الذليل على العراقيين وعلى مدى اكثر من عقدين من الزمن، وانظروا الى انهار الدماء التي سالت بسببها والى الخراب والدمار الذي اصاب النفوس قبل ان يصيب الحجر والمدر، ثم انظروا الى النتائج؟ فلا ارض محتلة استعيدت، ولا مياه تجاوز عليها آخرون استعاد سيادته العراق عليها، ولا انفس حفظت ولا عدوان دفع، ولا هم يحزنون، لماذا؟ لانها (تضحيات) عبثية ليس لها اي معنى.

ان حالنا اليوم له صور تاريخية مشابهة كثيرة، وللاسف الشديد، وان جل تلك الصور كان مسرحها العراق، لا ادري لماذا؟ ولكنني على يقين من ان هناك خللا ما او خطا في الحسابات يجب ان نكتشفه لتصحيحه، والا فالعواقب لا تسرنا ابدا.

الى ذلك، فان الانفاق بحاجة الى التوفيق، فالبخيل غير موفق ابدا، فكم من عالم بخيل لا ينفق علمه لمن يحتاجه او للامة عندما تحتاجه، حتى انه يموت بعلمه؟ حتى لقد تندر بعضهم بوصف البعض من هؤلاء، بقولهم (ولد في الحوزة ومات في الحوزة) وكم من غني لا ينفق شيئا من ماله لا على الفقراء والمحتاجين ولا على المشاريع والمؤسسات، فيموت بامواله ليرثها من لا يتذكره الا في العام مرة بنثر بعض ورود على جدثه المندرس؟.

ان تصور الانسان بان ما يمتلك من علم ومن مال ومن جاه وغير ذلك، انما حصل عليه بذكائه وشطارته وبكد يده وعرق جبينه، ولذلك تراه يبخل به، ناسيا او متناسيا ان الرزاق العليم هو الله تعالى، فهو الذي يعطي وهو الذي ياخذ، فلماذا البخل؟ ومع ذلك يصف رب العزة والجلال انفاق الانسان في سبيله عز وجل بالاقراض، في عبارة ادبية راقية تحث على التضحية وتطمئن الانسان على العوض، يقول تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط واليه ترجعون} وكما قلنا، مع ان كل ما في الوجود هو من الله تعالى، كما في قوله عز وجل {وما لكم الا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والارض} او في قوله تعالى {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والارض ولكن المنافقين لا يفقهون}.

ان الله تعالى هو المالك الحقيقي لكل شئ {قل اللهم مالك الملك} {وله الملك} {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك} {فتعالى الله الملك الحق} {ذلكم الله ربكم له الملك} الا انه تعالى استخلف عباده على ما يشاء من هذا الملك، ثم دعاهم الى الانفاق، فقال تعالى {وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم اجر كبير} وفي اخرى {يا ايها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم}.

علينا ان لا نتصور بان ما نمتلك من شئ انما هو من عند انفسنا، ولنتذكر قصة من ذكره الله تعالى في كتابه العزيز ليكون عبرة لمن اعتبر من امثاله، بقوله عز وجل {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا* كلتا الجنتين اتت اكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا* وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره انا اكثر منك مالا واعز نفرا* ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما اظن ان تبيد هذه ابدا* وما اظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا* قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا* لكنا هو الله ربي ولا اشرك بربي احدا* ولولا اذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله ان ترن انا اقل منك مالا وولدا* فعسى ربي ان يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا* او يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا* واحيط بثمره فاصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم اشرك بربي احدا* ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا* هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا}.

الملاحظة الاخرى، هي ان نعلم على وجه التحديد نوعية التضحية (الانفاق) في الزمن والظرف المحدد، فاذا احتاج الظرف الى التضحية بالمال لا تنفع عندها التضحية بالنفس، والعكس هو الصحيح، فعندما يتطلب الظرف تضحية بالنفس والروح لا تنفع التضحية بكل اموال الدنيا، لان نوعية الانفاق يجب ان تنسجم والحاجة، كما لو ان مريضا احتاج الى دم من فصيلة معينة، يجب ان يعطى ذات الفصيلة المطلوبة، فلا ينفع ان يعطى اي نوع آخر من فصائل دم الدنيا كلها، وان كان يسمى دما، الا ان النوعية المحددة منه هي التي تفي بالغرض، ولذلك لا تجدي كل فصائل الدم الاخرى نفعا، لان الانفاق هنا يجب ان ينسجم والحاجة تحديدا.

يذكر التاريخ، انه حين اجتازت قافلة الامام الحسين بن علي عليهما السلام على قصر بني مقاتل، وهي في طريقها الى الكوفة في العراق، من مكة المكرمة، نزل فيه الامام وكان بالقرب منه بيت مضروب وامامه رمح قد غرس في الارض يدل على بسالة صاحبه وشجاعته، وقباله فرس، فسال الامام عن صاحب البيت، فقيل له انه لعبيد الله بن الحر، فاوفد للقياه الحجاج بن مسروق الجعفي فخف اليه، فبارده عبيد الله قائلا: ما وراؤك؟ فاجابه رسول الحسين عليه السلام: قد اهدى الله اليك كرامة، فقال: وما هي؟ اجابه الرسول: هذا الحسين بن علي يدعوك الى نصرته، فان قاتلت بين يديه اجرت، وان مت فقد استشهدت، فرد عليه عبيد الله قائلا: ما خرجت من الكوفة الا مخافة ان يدخلها الحسين وانا فيها فلا انصره، لانه ليس له فيها شيعة ولا انصار الا وقد مالوا الى الدنيا، الا من عصم الله.

وقفل الحجاج راجعا فادى مقالته الى الامام، وراى عليه السلام ان يقيم عليه الحجة ويجعله على بينة من امره، فانطلق مع الصفوة الطيبة من اهل بيته واصحابه، واستقبله عبيد الله استقبالا كريما، واحتفى به احتفاءا بالغا، وقد غمرته هيبة الامام، فراح يحدث عنها بعد ذلك ويقول: ما رايت قط احسن من الحسين، ولا املأ للعين، ولا رققت على احد قط رقتي عليه حين رايته يمشي والصبيان من حوله، ونظرت الى لحيته فرايتها كانها جناح غراب، فقلت له: اسواد ام خضاب؟ قال: يابن الحر عجل علي الشيب، فعرفت انه خضاب.

 وتعاطى معه الامام الحسين عليه السلام الشؤون السياسية العامة، والاوضاع الراهنة، ثم دعاه الى نصرته قائلا له:

يا ابن الحر، ان اهل مصركم كتبوا الي انهم مجتمعون على نصرتي وسالوني القدوم عليهم فقدمت، وليس راي القوم على ما زعموا، فانهم اعانوا على قتل ابن عمي مسلم وشيعته، واجمعوا على ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد، يا ابن الحر، اعلم ان الله عز وجل مؤاخذك بما كسبت من الذنوب في الايام الخالية، وانا ادعوك الى توبة تغسل بها ما عليك من ذنوب، ادعوك الى نصرتنا اهل البيت.

والقى ابن الحر معاذيره الواهية، فحرم نفسه السعادة والفوز بنصرة سبط الرسول، قائلا: والله اني لاعلم ان من شايعك كان السعيد في الاخرة، ولكن ما عسى ان اغني عنك؟ ولم اخلف لك بالكوفة ناصرا، فانشدك الله ان تحملني على هذه الخطة، فان نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرسي هذه (الملحقة) وكان اسمها، والله ما طلبت عليها شيئا الا لحقته، ولا طلبني احد وانا عليها، الا سبقته، فهي لك.

ولكن، ما قيمة فرسه عند الامام؟ فرد عليه قائلا:

ما جئناك لفرسك وسيفك، وانما اتيناك لنسالك النصرة، فان كنت قد بخلت علينا بنفسك، فلا حاجة لنا في شئ من مالك، ولم اكن بالذي اتخذ المضلين عضدا، واني انصحك ان استطعت ان لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا، فافعل، فوالله لا يسمع واعيتنا احد ولا ينصرنا الا اكبه الله في نار جهنم.

فاطرق ابن الحر براسه الى الارض وقال بصوت خافت حياءا من الامام: اما هذا فلا يكون ابدا، ان شاء الله تعالى، ولكن التاريخ يضيف، انه هرب بعيدا جدا عن كربلاء، حتى لا يسمع واعية الامام في يوم العاشر من المحرم، الا ان الله تعالى حمل واعية الامام مع الريح اليه لتصك اذنيه، رغما عنه، فكان ممن قال عنهم الحسين السبط عليه السلام {الا اكبه الله في نار جهنم}.

لقد اخطا هذا الانسان في حساباته مرتين، الاولى عندما ظن ان عدم الانفاق افضل من الانفاق القليل، بقوله للامام، بانه لا يمكنه ان ينصره بنفسه لوحده، اذ ليس معه احد، ناسيا او متناسيا، ان الانفاق عندما يجب على احد، لا يعتمد القلة والكثرة، بل عليه ان يقدم عليه بغض النظر عن قيمته وحجمه، والثانية، عندما قدم فرسه للامام واخر نفسه، ظنا منه ان مجرد الانفاق يسقط الواجب، ناسيا او متناسيا، كذلك، ان الانفاق يجب ان ينسجم والحاجة الزمكانية تحديدا.

اخيرا:

ان الانفاق هو سر تقدم الامم، ولذلك شرعه الله كضرورة من ضرورات الحياة، تارة سماه بالزكاة واخرى بالصدقة وثالثة بالقرضة وهكذا، فالزكاة مثلا والتي تعني التنمية بمعناها الاشمل، لا تختص بالمال فقط وانما بكل شئ يمكن ان يكون في ظرف ما عصب التقدم وتحقيق الاهداف، ولقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {لكل شئ زكاة، وزكاة العلم تعلمه}.

والزكاة، كما قالت الصديقة الكبرى سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، في خطبتها المعروفة {تزكية للنفس ونماء في الرزق} ولذلك فان مردود الانفاق يعود على الانسان نفسه، اولا وقبل اي احد آخر، فقال تعالى {وما تنفقوا من خير فلانفسكم} ولهذا السبب، ربما، اعتبر القرآن الكريم ان الاكتناز غير المشروع والبخل غير المبرر، عاقبته النار وبئس المصير، لانه سبب مباشر في تدمير المجتمعات من خلال ما يسببه من توسيع الفجوة بين طبقاته الاجتماعية، وهو دليل البخل والانانية، قال تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم* يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.

ان شدة العاقبة في الاخرة دليل على شدة خطورة هذا العمل في الدنيا، ولذلك توعد العزيز الجبار بهذه الطريقة القاسية، لينبه ويردع.

ولنتذكر ابدا بان {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} صدق الله العلي العظيم.

ومن اجل تشجيع ظاهرة الانفاق وتسهيلها في المجتمع، فان على الدولة العراقية الجديدة ان تلغي كل مظاهر الروتين الاداري، من جانب، وان تساهم بشكل او بآخر في تسهيل عمل منظمات المجتمع المدني، والتي هي الاقدر من غيرها على تحقيق ذلك، ليتسنى لمن يريد ان يساهم في هذا العمل الصالح ويساعد في تنمية المجتمع وعلى مختلف الاصعدة، ان لا يتعاجز لسبب من الاسباب الادارية والمعوقات الرسمية.

وكمثل اسوقه بهذا الصدد، فان الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة الاميركية، تحتسب التبرع الذي يقدمه المواطن لمنظمات المجتمع المدني، كدور العبادة او المؤسسات الانسانية، جزء من الضريبة السنوية التي يجب عليه دفعها لمصلحة الضرائب الوطنية، ما يشجع المواطنين على التبرع دائما، الامر الذي يساهم في انجاح عمل مثل هذه المؤسسات، من جانب، وما يقلل من الاعباء عن كاهل الحكومة، من جانب آخر.

ان الدولة، بكل مؤسساتها، عاجزة عن تلبية حاجات المجتمع بكل ما يصبو اليه، ولذلك لابد من تشجيع المجتمع ذاته على اداء ما يمكنه من مهام، تساهم في خلق التكافل الاجتماعي والنهوض بمبدا تكافؤ الفرص، ومن كل حسب قدراته وامكانياته ونياته، وصدق الله العظيم  الذي قال {قل كل يعمل على شاكلته}.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/تشرين الثاني/2009 - 18/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م