الأخلاق والسياسة والحرية

زهير الخويلدي

أفضل الدعة وان أفكاري في الطبيعة هي آراء نسبية لا أريد أن أثور بها على سلطات لها مقام في السيطرة على أفعالي

 

في مقال عن المنهج عاب ديكارت على الفلسفة كونها ليست سوى مدرسة للشك قبل أن تكون مدرسة علم ويقين وحمل على الرياضيات لأنها لا تطبق في جميع أوجه الحياة وانتقد أساتذته الذين يعتمدون على الجدل السخيف والنقاش العقيم ويجهلون المنهج الذي يعصم من الوقوع في الخطأ ويرى أن الكائن ميال بطبعه إلى التمييز بين الصدق والباطل ويرى بوضوح ويسير بثبات وينشد سعادته.

إن الفلسفة عند ديكارت هي قواعد يقترحها الذهن إلى الإرادة لكي تهتدي بها ولهذا اهتم في آخر محاولاته ورسائله الفلسفية بالأخلاق وينظر إليها على أنها تدرس اتجاه الإنسان نحو الفضيلة والسعادة وما تشترطه من إلمام شامل بكل المعارف بما في ذلك الميتافيزيقا والطب لاسيما وأن الإنسان نفس متحدة بجسم والسعادة تقوم على صحة الجسم.

النسق الفلسفي عند ديكارت يقوم على ثلاثة محاور هي النفس والعالم والله وترتبط الميكانيكا بالطبيعة ويدرس الطب الجسم الانساني وتهتم الميتافيزيقا بالله.

لما كان ديكارت يخوض تجربة الشك ويبحث عن الحقيقة كان لزاما عليه أن يفترض مجموعة من القواعد يهتدي بها في سيره وقد سماها الأخلاق المؤقتة وقد ذكر ذلك في الجزء الثالث من مقال عن المنهج سنة 1619ميلادي وقد صاغها على النحو التالي:

1- أن ينصاع الفيلسوف لقوانين وتقاليد بلاده وأن يحافظ على دينه ويتبع في العمل أعدل الآراء وأبعدها عن الغلو.

2- عدم الاشتراط يقين كامل في الآراء التي يتخذها في الميدان العملي مع الالتزام بالسير حسب الرأي الذي اختير دون تردد.

3- أن يعني الإنسان بما كان صادرا عن نفسه فحسب ولايتهم بما يأتيه من الأحداث الخارجية سواء كانت حسنة أو سيئة.

لم يكن هدف ديكارت من هذه القواعد إيجاد علم أخلاقي أو مذهب جديد وإنما توجيه حياته نحو الأنفع وتسديد أعماله نحو الأصلح وقد صاغه بعد بحث مطول في الطبيعة البشرية وبالإنصات إلى صوت العقل والاستفادة من ثقافته اليسوعية والتراث الرواقي عند أبيكتيت وسيناك.

ينبغي أن يستمر المرء في إتباع برنامج الحياة الذي سطره لنفسه وأن يبحث في مختلف الميادين ويتقيد بأحكام العقل ومثلما بإمكانه أن يصبح سيدا على الطبيعة بواسطة المنهج العلمي فإنه قادر على أن يسيطر على الانفعالات ويصل إلى السعادة ويصبح مستقلا. ويظهر التأثير الرواقي هنا عندما يصرح ما يلي:ليس بإشباع الرغبات يكون الإنسان حرا بل بتحطيم الرغبات ويضيف: أن نغير رغباتنا ولا نظام الكون ويقصد أن هناك أشياء أمرها بيدنا ويمكن تغييرها وهناك أشياء ليست بيدنا وينبغي أن نقبلها، ولا شيء يكون تحت قدرتنا أكثر من أفكارنا وكذلك الرغبات والانفعالات والأحاسيس أما الأشياء الخارجية مثل الحظ والقضاء والقدر فهي خارج سيطرة الإنسان ولا تتعلق بإرادته ولذلك ينصح بألا نرغب في أن تأتي الأشياء مثلما نرغب وإنما نرغب في أن تأتي مثلما تأتي ونكون سعداء.

 ينادي ديكارت هنا بتحقيق المصالحة مع الواقع وإتباع القدر وذلك بالجمع بين الحذر والصرامة الذهنية وضرورة الحياة لأن الكانسان مثلما بإمكانه أن يصبح قديسا يمكنه أيضا أن يخطئ ويتدحرج عن مكانته. هكذا يقوم الإنسان بما يقدر أن يقوم به والنتيجة التي تعقب الفعل ليست متعلقة به وليس له قدرة عليها وإنما يتحكم فيها نظام الكون وحركة التاريخ.

في رسالة إلى اليزبات يقر ديكارت آن الإنسان قادر أن يكون حليما عندما يحس في نفسه تصميما ثابتا وصارما في حسن الاستعمال بمعنى ألا ننقص أي شيء في إرادتنا من أجل مباشرة وتنفيذ كل الأشياء التي حكمنا أنها حسنة: انه الذي يهتدي بالفضيلة اهتداء تاما. أما في انفعالات النفس فانه يقر باتحاد النفس والجسم ويقر بفعل الجسم في النفس عند الإحساس والانفعال وفعل النفس في الجسم عند الفعل الحر بل إن الانفعالات تصبح ذات جدوى عندما تقوي وتثبت الأفكار. إن فضائل اللطف والغبطة يتوقفان على الاستعمال الحسن والسيطرة على الانفعالات.

إذا كان الإعجاب هو نوع من الانتباه الفطري فإن الإرادة تشعر بالفرح عندما تنجز فعلا فاضلا يقرره لها الذهن وتشعر بالحزن عندما ترتكب فعلا مذموما. إن النفس لا تقدر على تغيير كمية الحركة في العالم ولا تستطيع تغيير قوة الانفعال ولكن يمكنها أن تغير اتجاهه بالحد منه أو بالزيادة فيه لأنها نفسا حرة. والقيمة الحقيقة ترجع إلى قدرة الإرادة على التصميم وتنفيذ قرارات الذهن. حري بالإنسان إذن أن يقدر نفسه ويحترمها حتى يتمكن من ممارسة حريته ويسيطر على إرادته وتجعله شبيها بالآلهة.

إن الممارسة التامة للفضيلة تقتضي أن يتحلى المرء بالشهامة والمروءة وان يقدر نفسه ويحترمها ويتصرف بحرية ويحب غيره وربه ويريد الفعل الحسن. وإذا كانوا لا يحتقرون غيرهم فان هذه الفضيلة تمنع عدم احتقار الغير لهم لأنهم أكرم الناس والأكثر تواضعا يعترفون بهشاشة طبيعتهم ويعتبرون أخطائهم لا تقل فداحة عن أخطاء غيرهم. أما الكرم فيصلح لعلاج اضطراب الانفعالات لكونه يدفع الناس إلى إتيان جليل الأفعال ونكران الذات وخدمة الغير ويشعرون بالثقة في النفس ويطهرون من الغيرة والحسد والكراهية ويعتصمون بالفضيلة.

بقيت قضية الحرية التي يطرحها ديكارت في كتاب المبادئ ويرى أنها أعظم صفات الكمال التي تمنح إلى الإنسان لكونها هي التي تجعله موضح الذم أم القدح. ولما كانت الإرادة لامتناهية بطبيعتها فإن المرء حر في العويل عليها حتى يصبح سيد أفعاله وجدير بالمدح عندما يحسن قيادتها. وحرية الإرادة لا نعرفها بالدليل فقط بل بالتجربة الوجدانية إذ من البين والبديهي أن للإنسان إرادة حرة قادرة على القبول أو الرفض. أن الإنسان يدرك في نسه من الحرية ما يمكنه من الامتناع عن تصديق كل ما لا يعرفه معرفة تامة، أي أن الإنسان حر في ممارسة الشك وفي وضع معارفه السابقة بين قوسين. لكن ألا تتناقض حرية الإنسان مع أرادة الله المطلقة؟

تكمن الخطورة حسب ديكارت في محاولة التوفيق بين حرية الإرادة الإنسانية وأوامر الله لأن قدرته مطلقة بحيث لا يمكن أن نفعل شيئا إلا وقد قدره الله من قبل. علاوة على أن الإنسان يحوز من العقل ما يكفي لكي يعرف بوضوح وتميز أن قدرة الله كاملة ولامتناهية ويعرف أن هذه القدرة تسمح بأن تكون أفعاله حرة.

إن هذه الحرية الثابتة هي أمر ضروري من أجل أن يؤسس الإنسان الأخلاق لاسيما وأن المبادئ والقواعد والفضائل لا قيمة لها إذا لم يمتلك الإنسان وعيا ويكون غير حر وخاضع لجبرية معينة.

هذا ما يحسب لديكارت من مناهج ومعارف وأفكار ونظريات تبدو في الظاهر ثورية ولكن ماذا يعاب عند التقصي والاستنطاق على الديكارتية؟

خاتمة نقدية:

النفوس الكبيرة قادرة على فعل أعظم الفضائل وارتكاب أبشع الرذائل

صفوة القول أن فلسفة ديكارت هي خلاصة تجربة فكرية حديثة وقع التحضير لها لمدة طويلة وثمرة الجهد الذي بذله في مجال تجيد العلوم وتجويد الأساليب وتنمية المعارف ولذلك كانت للديكارتية تأثيرا كبيرا على الفكر والحضارة الغربية وألقت بظلالها في العلوم وخاصة علم النفس الفزيولوجي وعلم الاجتماع الوضعي وتبوأت مكانة بارزة في عصر التنوير بحيث صار اللقب ديكارتي يكفي لكي ينعت حامله بأن عقلاني ومتنور. مع ديكارت تخرج الميتافيزيقا من العصر القديم لتصبح ميتافيزيقا الذاتية بحيث يكون الموجود بمقتضاها وجودا يعطي لذات وتصبح الذاتية أساس الوجود وفي ذلك ذكر هيدجر في دروب متشعبة ما يلي: إن ماهية الإنسان نفسها ستتحول وسيصبح الإنسان مركزا ومرجعا للموجود بماهو كذلك ولكن هذا لم يكن ممكنا إلا شريطة تحول معنى الموجود رأسا على عقب...

بيد أن ثقة ديكارت المبالغ فيها في العقل وتخليه النسبي عن دور التجربة ورده الوجود إلى الفكر وجعل الموضوع مجال لتمثل الذات وإيمانه بالآلية في تصوره للطبيعة والجسم وإرجاعه كل شيء في العالم إلى الامتداد أدى إلى تبني آراء محافظة وموروثة عن الماضي الفلسفي والعلمي. هناك العديد من المسلمات الميتافيزيقية التي أقام عليها ديكارت نسقه الفسلفي والعلمي دون أن يراجعها وثمة نوع من التمركز على الذات بلغت حد الأنانة والتنظير لغزو العالم ضمن رؤية ارادوية أفضت إلى انتشار الحملات الاستعمارية.

 إن ديكارت ظل داخل التربة الأرسطية التي حاول جاهدا الفرار منها وبقي يتكلم لغة الجوهر والعرض والذات والكيفيات ويمارس الحدس والاستنباط تماما مثلما يفعل أي مفكر قروسطي. كما أن تجربة الشك كانت مصطنعة وتتضمن خلفية دينية واضحة للعيان ولم تكن شاملة بل استثنت المجالات العملية واحتاجت إلى نوع من الأخلاق المؤقتة من أجل تحقيق المصالحة مع الدين والسياسة. إن الكوجيتو الديكارتي بوصفه اليقين الأول ليس سوى نتيجة منطقية لمحاولة تطبيق المنهج العام الذي استمده من العلم في مجال الميتافيزيقا.ولكن بين الموقف الميتافيزيقي والموقف العلمي لا نجد تجانسا واتصالا منطقيا بل توجد فجوة هائلة وشرخا لا يمكن ردمه.

من بين الأفكار المحافظة التي تبناها ديكارت نجد مسألة الإنسان مدني بالطبع يرفض العزلة ويميل إلى التعاون مع الآخر ويقترح إتباع النور الفطري للعقل من أجل حل النزعات الطارئة على الناس تحت تأثير الانفعالات. زد على ذلك كان ديكارت مجرد أرستقراطي يؤمن بالمجتمع الفاضل الذي يحكمه الفلاسفة يرفض المعرفة المشتركة وينظر إلى الحقيقة على أنها فردية المنبت.

في مجال العلوم ارتكب ديكارت العديد من الأخطاء وكان متخلفا عن علوم عصره وخاصة رفضه فكرة الخلاء وسخريته من المنهج التجريبي الذي اعتبره فرانسيس بايكن الأورغانون الجديد وعدم اعتماده لكشوفات هارفي حول الدورة الدموية الكبري في نظرته الفزيولوجية إلى الجسم وحتى في مجال البصريات فهو لم يكن أكثر حداثة من ابن الهيثم وبقي داخل الفلك الأرسطي إذا استثنينا قوله بالانعكاس.

 السؤال الذي يطرح هنا ماذا لو تخلى ديكارت عن مبدأ الضمان الإلهي؟ هل كان قادرا بالفعل على الخروج من أناوحدية الكوجيتو واستعادة الثقة في الجسم والمادة والعالم والآخر؟ هل كانت اليقينيات ستتناسل من بعضها البعض وكانت كميات الحركات ستحفظ؟ أليس الكوجيتو نفسه في حاجة إلى إعادة تأسيس من منظور مختلف؟ كيف نعتبر الكوجيتو اكتشافا ديكارتيا أصيلا وهو نفسه يعتقد بوجود حقائق أبدية؟ ألا يوجد تناقض بين ديكارت الفيلسوف وديكارت رجل العلم وبين ميتافيزيقا الذاتية وفيزياء الاصطدام؟ وأليس برهنته الأنطولوجية على وجود الله هي الأخرى في حاجة إلى برهنة؟ لكن ماذا بقي من ديكارت في دنيا العقلانية اليوم؟ ألم يتحول هو نفسه إلى ميراث ينبغي التخلص منه وتراث يجب تحطيمه لكي نتوجه رأسا نحو الفكر؟

* كاتب فلسفي

.....................................

المراجع:

Œuvres et lettres de Descartes publiées par Birdoux. Paris La Pléiade 1937.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 7/تشرين الثاني/2009 - 8/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م