دور الثقافة في تطوير البنى السياسية والاقتصادية للمجتمع

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: يحيلنا عنوان هذا المقال الى الجدل القائم بين أفضلية الشكل والجوهر، فلقد دأب الانسان في علومه الانسانية والعلمية وغيرها على المقارنة بين أهمية الجوهر وأولويته وبين ضرورة الشكل كونه المكمل الذي لا مناص منه للجوهر، وهكذا يمكننا اعتبار الاقتصاد والسياسة هما شكل الدولة او المجتمع وأن الثقافة هي جوهره.

بمعنى لو توصلنا من خلال جهودنا الى بناء اقتصادي جيد ونظام سياسي مقبول، هل يمكن لنا أن نتخيل تراجع الثقافة او غيابها في هذا المجال، وإذا اردنا أن نصوغ السؤال بطريقة أخرى نقول، هل يمكن ان نبني اقتصادا قويا ونظاما سياسيا ناجحا من دون الاعتماد على ثقافة فاعلة تدعم تحقيق هذا الهدف؟.

إن الإجابة تبدو بديهية تماما، فمن دون ثقافة رصينة لا يمكن أن نبني بنى تحتية رصينة للسياسة والاقتصاد معا، ولعل التجارب الانسانية المنظورة أظهرت لنا بالدلائل القاطعة أن المال وحده لا يصنع أمة، وأن الساسة الاقوياء لا يصنعون شيئا ملحوظا في مجتمعات وشعوب متخلفة، لذا فإن الثقافة هي التي تشكل جوهر القوة الاقتصادية والسياسية وأساسها، أما المال والساسة الاقوياء فهم الشكل الذي لا يستطيع بمفرده أن يقدم نموذجا جيدا لمجتمع ناجح.

ويؤكد سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي على الدور الهام للثقافة في صناعة الساسة والاقتصاديين الناجحين كما يرد ذلك في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع) إذ يقول: (إنّ مسألة الثقافة من أهمّ المسائل في كلّ أُمّة وحضارة. وقد يصحّ ما يقال بأنّ العالَم يدور على عجلة الاقتصاد والسياسة، ولكن الأصحّ من ذلك هو القول بأنّ الثقافة هي التي توجّه الاقتصاد والسياسة. فبقدر ما يحمل الفرد من ثقافة وعلم في كلا المجالين، فإنّه لا يَخسر ولا يُغلَب).

بمعنى أن التسلح بالثقافة هو تسلح بجوهر راسخ يتقدم الشكل بل ويقوده ويوجه خطواته نحو الطريق السليم، فالثقافة الايجابية هنا تصنع لنا سياسي (جوهري) لا يتمتع بروح أحادية المسار والتوجه كأن يكون (عسكريا قويا وحازما وذا شخصية عسكرية متميزة) بل الثقافة تعمّق الجوهر الانساني للقائد العسكري فتخلق ( القائد المثقف) الذي سينتهي بشعبه او امته الى الرفعة والسمو والنمط الحياتي القويم، كما انتهى عظماء الانسانية بشعوبهم كرسولنا الاكرم (ص) الذي قفز بالعرب والمسلمين والانسانية جمعاء من حقول الظلام الى فضاءات النور اللامحدودة، والشيء نفسه ينطبق على دور الثقافة في بناء الاقتصادي الناجح.

لذا يُفترض بنا أن نعي القيمة العليا للثقافة ودورها في تحويل المال الى منتج حضاري إذا كان مصدره ايجابيا، او الحد من خطورة المال اذا كان مصدره سلبيا وهنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على هذا الدور الحيوي للثقافة فيقول في كتابه نفسه:

(إنّ الثقافة الصائبة وحدها القادرة على مواجهة وتصحيح ما نراه من ثقافة ضحلة في عالم اليوم، لأنّ القوّة أو المال أو غير ذلك يعجز عن مواجهة الثقافات وتغييرها، إذ لا يقارع الثقافة إلاّ الثقافة).

وهنا يتضح لنا تماما أن الثقافة بعمقها ومساراتها وآلياتها المتنوعة يمكنها أن تتحكم بتوجيه المال وتحويله الى المسارات الخادمة للانسان وتطلعاته نحو بناء امة انسانية النوازع والسلوك معا، كما أشار سماحة المرجع الشيرازي الى استحالة مقارعة الثقافة المضادة بالمال او غيره، بمعنى أن التخلف والجهل لا يُقارع بالمال وحده مهما كثر (ولنا بالعراق الثري/ الفقير خير دليل) بل لا بد أن نستثمر الثقافة كجوهر يتقدم الركب لمقارعة اشكال التخلف المتمثلة بالفوضى السياسية والاقتصادية.

وهنا يبرز دور المثقف في بناء المجتمع الناجح سواء كان سياسيا او اقتصاديا او غيرهما، بمعنى ان من الشروط التي لا يجوز التغاضي عن توافرها في السياسي والاقتصادي هو شرط التحصيل الثقافي، ليس الاكاديمي فحسب بل ما يتعلق بالموهبة والرؤية والذكاء والحكمة وعمق التجربة وما شاكل ذلك، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه الثمين (العلم النافع): (لابدّ لمن أراد خوض الميدان الثقافي الهادف إلى التغيير أن يكون متسلّحاً بسلاح الفكر والثقافة).

ثم يؤكد سماحة المرجع على دور الثقافة كجوهر داعم للشكل الذي يمثل وعاء يحتوي أنشطة المجتمع المختلفة ومنها الاقتصاد والسياسة كأهم دعامتين يرتكز إليهما بناء الدولة المعاصرة، ولذلك يقول سماحته: (من هنا كان العمل الثقافي من أهمّ الأعمال في المجتمع، فهو يمثّل البناء التحتيّ لغيره من الأعمال ). وهذا يؤكد بل ويثمّن دور الثقافة الكبير في ترصين الأسس التي تنبني عليها مقومات المجتمع والدولة الناجحة في آن واحد.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 31/تشرين الثاني/2009 - 11/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م