الكبت والصراع النفسي

د. اسعد الامارة

يقول "سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي أن القلق هو الذي يحدث الكبت وان الصراع هو حجر الزاوية في هذه العملية اذا ما عرفنا بشئ من التبسيط ان الكبت هو الاستبعاد اللاشعوري للمشاعر او الافكار او الصدمات الانفعالية او حتى الحوادث المؤلمة، استبعادها من حيز الشعور الى حيز اللاشعور لذا يمكننا القول ان كبت الدوافع يعني انكار هذه الدوافع ويعني ذلك تجنب اي منا للواقع المؤلم او المسبب للقلق ايا كان نوعه او اساسه. تقول "د. نيفين زيور" ان الصراع الفعلي لايعدو أن يكون عاملا مثيرا وأن الاستعداد للعصاب"الاضطراب النفسي" كان موجوداً في المستوى التحتي في حياة الفرد منذ طفولته.

يعرف الكبت Repression على انه حيلة تلجأ اليها النفس البشرية ويقوم بها الانا في الشخصية.

وترى موسوعة التحليل النفسي ان الكبت هو الذي يقوم بالدور الرئيس في نسياننا لافكارنا وذكرياتنا ومعلوماتنا ورغباتنا ومشاعرنا فلا نعود نحس بها او نتذكرها حتى لا تسبب لنا ضيقا او قلقا او ضررا. وعليه كان فرويد محقا الى حد بعيد حينما قال ان الكبت هو اول وأهم وسائل الانا في الدفاع عن نفسه ضد الصراع والقلق، ولكن لما كانت المادة المكبوتة تطل بمثابة خطر كامن يهدد التوازن المتمثل في الانا وهو ما سماه فرويد عودة المكبوت فإن الجزء اللاشعوري لا يكتفي بالكبت فحسب بل يستخدم وسائل اخرى للتخفيف عن الالام وهي ميكانيزمات الدفاع الاخرى.

يلعب الكبت الدور الاساس في نشوب الصراع اذا لم ينجح الفرد بان يجعله كبتا ناجحا، فالكبت الناجح يقي النفس الانسانية من التدهور ويوقف الضيق اذا ما تعارضت مع الواقع كما انه يمنع الدوافع الثائرة المحظورة من ان تفلت من زمام الفرد فتعرضه لما لا يرضى عنه ولا يقبله لانه يتعارض مع قيم المجتمع والدين فينشأ عنه الشعور بالذنب ولذا فإن للكبت الناجح منافع عديدة وكما الحال للكبت غير المسيطر عليه مضار أقلها أنه خداع للنفس.

ومن خصائص دوافعنا المكبوتة انها مجموعة قوى جامحة تعبر عن نفسها في ثورات غير مسيطر عليها وتظهر اثارها في حالات الفوبيا التي تنتاب البعض منا وبعض حالات الافعال الاندفاعية والافكار الوسواسية وتبدو اكثر وضوحا في ما يصدر منا من زلات لسان غير مسيطر عليها او فلتات في افعالنا او حتى مجموعة الكوابيس والاحلام التي تقحم نومنا ولا ندري لماذا هذه المزعجات التي لا نعرف دوافعها ونرى انها دوافع مجهولة يصعب على الكثير منا التحكم فيها او حتى ارجاءها او ابدالها او اعلائها او ارضائها.

ان للكبت في النفس الانسانية تأثير ووقع قوي جدا، فهو يستفز النفس ويستثيرها ويوغل في ضراوة ما يوجهه لها "النفس" من عنف وشدة حتى يجعل الفرد لاحيلة له ولا قدرة ويصبح عاجزا عن ضبط سلوكه او ما يصدر عنه من افعال او تصرفات شاذة وغريبة سمتها الاساسية القسر.

اننا نتعرض لمواقف حياتية متنوعة ومختلفة في الشدة لا تجعلنا نلجأ الى الكبت إلا اذا اشتد هذا الموقف بحيث لا نستطيع تحييده على الاقل في الوقت الذي وقع الحدث فيه فيكون الصراع محتم واكيد، لاينتهي الا اما بقبوله او كبته، ولكن حينما يكبت تبدأ المشكلة بالتفاقم. ويقول"د. عباس محمود عوض" يتصل الكبت بالعقد النفسية وهذه عبارة عن زمرة من الاحداث والذكريات المكبوتة المشحونة بشحنة شديدة من الخوف والغضب والاشمئزاز ويتميز السلوك الناتج عنها بعدم تناسبه مع المثير لانه يتميز بالقسر والاندفاع، ان العقد النفسية استعدادات مكبوتة "لاشعورية" لايفطن اي فرد لوجودها ولايعرف اصلها ومنشأها وهي عادة تنشأ بسبب صدمة انفعالية او تجارب مؤلمة متكررة مرت بالفرد او ربما تكون رد فعل لتربية قاسية او اسرة مضطربة بين الابوين مثل كثرة الخلافات وما شابه ذلك فنشأ الابناء على تربية تسرف في الكبح والتخويف او التأثيم اي تجعل الطفل أسير الشعور بالذنب في كل ما يقوله وكل ما يقوم به او يفعله.

فهنا يكون الصراع الناجم عنه متأصل في الشخصية تماما وهو في الكبر لذا نشاهد صورة الشخص من خلال مرآة سلوكه واسلوب تعامله وطريقة حله لمواقف الحياة وهو كبير، فصراعات المرحلة العمرية في الرشد هي في الاصل الصراعات المثبتة في الطفولة وما رافقها من كبت، ذاك الصراع الذي لم يفضي الى الحل او تصفيته الى تكيف موفق مع النفس اولا ومع العالم المحيط به ثانيا فأثر على التناسق بالشخصية واصبحت النفس في صراع دائم أثر على بنية النفس فنرى الشخصية الانفعالية- المتهورة التي تعتقد بان استخدام اليد والضرب هو الحل في كل المنازعات بدون نضج وصاحبها كبير ربما بلغ الاربعين من العمر او تلك الشخصية التي تلوذ بالكذب كسلوك يومي صار جزءا من الشخصية وابنيتها ولا يستطيع ان يترك هذا التصرف حتى بنيت النفس معه او ذاك الذي يرى في النميمة سلوكا مميزا لشخصيته، هذا النمط من الشخصية عجز فيه صاحبها عن السيطرة على موقف شاق واجهه مغلوبا على امره فهنا يؤدي التثبيت دوراً قويا على شدة الكبت ومن ثم الصراع داخل النفس والذي لم يحسم فنراه راح يوزع ويطشر هذه الانفعالات بسلوك غير مسيطر عليه على الجميع مرة يتناول الناس باعراضها او الافتراء عليها او اتهامها بشتى الانواع من الاتهامات، وهناك الكثير من الانماط السلوكية التي ينتج عنها الكبت وشدته والصراع الناجم عنه ويقول "مصطفى زيور" اذا كان الصراع محدودا لا يصحبه شذوذ في بنية الانا ولا انعدام نضوج غريزي يفضي الى طبع السلوك بذلك الطابع المدمر.

* استاذ في الاكاديمية الاسكندنافية

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 14/تشرين الثاني/2009 - 24/شوال/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م