حقوق الإنسان في شريعة حمورابي

هادي الربيعي

مقدمة

يعتبر اصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م الصادر بموجب قرار الأمم المتحدة تحت رقم 217 الف (د-3) في كانون الأول تتويجا ً لجهود الإنسان عبر العصور وهو يسعى من اجل الحصول على حقوقه في الحرية والعدل والمساواة بما يليق بانسانيته وكرامته وحقه في حياة حرة كريمة على على ارض الله الواسعة.

 وقد أوضح هذا الإعلان في مقدمته ضرورة الإعتراف بكرامة البشر المتأصلة في جميع اعضاء الأسرة البشرية واكد ايضا على الحقوق المتساوية لجميع البشر في الحرية والعدل والمساواة والسلام بغض النظر عن الجنس والمعتقد والإعتبارات الأخرى. (1)

 ويحاول هذا البحث المتواضع ان يؤكد على ان حقوق الإنسان التي نالت اهتمام عدد كبير من الباحثين والفلاسفة الأوربيين لها امتدادات وجذور أصيلة في الفكر العراقي القديم عبر العصور المتلاحقة وفي الوقت الذي يشير فيه هذا البحث الى محطات مهمة اهتمت بحقوق الإنسان عبر تعاقب العصور فانه يركز على شريعة حمورابي باعتبارها من اقدم الشرائع التي تناولت حقوق الإنسان ووضعت التشريعات اللازمة لها ضمن تلك المرحلة الزمنية وهدف هذا البحث هو الإشارة الى جهود جبارة على طريق تحقيق حياة لائقة بالبشر على الأرض في الفكر العراقي القديم وهي جهود سبقت جهود الباحثين الأوربيين بفترات زمنية طويلة.

أول سابقة قضائية في التاريخ:

يؤكد كريمر في كتابه – هنا بدأ التاريخ – ان أول سابقة قضائية في تاريخ البشر وردت مسجلة ً في احدى الوثائق السومرية تعود الى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد وتتحدث هذه الوثيقة عن ثلاثة رجال اشتركوا في جريمة قتل ولسبب مجهول اخبروا زوجة القتيل بجريمتهم وكانت يد القانون قوية فتم القاء القبض على المجرمين وتم عرض قضيتهم أمام الملك أور- نينورتا في العاصمة وقام الملك بدوره فحول القضية الى جمعية الشعب في مدينة نُفَّر وموقعها الآن قريب من مدينة عفك، لكي تنظر الجمعية في هذه الجريمة وتتخذ القرارات المناسبة لمعاقبة المجرمين، وتشير الوثيقة الى ان سبعة رجال من الجمعية قاموا بمهمة الإدعاء العام وأعلنوا ان طائلة العقاب يجب ان لا تطال المجرمين الثلاثة فقط وانما تشمل زوجة القتيل التي تسترت على الجريمة وقد انبرى من هذه الجمعية رجلان قاما بمهمة الدفاع عن الزوجة واثبتا ان الزوجة بريئة من الجرمية وبالفعل صدر قرار الحكم بادانة المجرمين الثلاثة وتبرئة ساحة الزوجة. (2)

 هذه الواقعة تؤكد بما لا يقبل الجدل ان تطبيق العدالة التي تعتبر واحدة من اهم حقوق الإنسان الأساسية قد تم تطبيقها بالفعل وبشكل متطور يكاد يقترب مما يحصل في هذا العصر حيث ان تقاليد هذه المحاكمة لا تكاد تختلف عن تقاليد المحاكمات التي تحدث الآن رغم انها حدثت في زمن موغل في القدم وهذه الواقعة نموذج واحد من نماذج تأريخية عديدة.

 يؤكد الدكتور يوسف حبي في كتابه ( الإنسان في ادب وادي الرافدين ) ان الشرائع العراقية القديمة تسبق اقدم ما هو معروف من شرائع وقوانين في سائر المجتمعات والحضارات الأخرى بعشرات القرون، فلم تصلنا شريعة متكاملة من وادي الرافدين تسبق القرن الخامس قبل الميلاد أما القانون اليوناني فلا يتعدى تدوينه القرن السادس قبل الميلاد ويعود القانون الروماني بتاريخه ايضا ليقف عند حدود القرن الخامس قبل الميلاد، وتعتبر اصلاحات أور كاجينا التي تعود الى عام 2355 قبل الميلاد من أهم واقدم الإصلاحات الإجتماعية والاقتصادية المعروفة في تاريخ البشر. (3)

 تعتبر وثيقة اصلاحات اور كاجينا من أهم الوثائق في التاريخ لأنها نادت ولأول مرة باهمية حقوق الإنسان وتأكيدها على حريته ورفضها لكل ما يضطهد هذه الحرية كما ان مفردة – الحرية – التي هي امل شعوب العالم اجمع، وردت لأول مرة في التاريخ في هذه الوثيقة.(4)

شرائع سبقت شريعة حمورابي:

سبقت شريعة حمورابي التي تعتبر من أهم واقدم الشرائع في التاريخ، شرائع اخرى بالغة الأهمية فهي الممهدات الأولى التي ساعدت وسارعت بالوصول الى شريعة بالغة الأهمية في التاريخ ونعني بها شريعة حمورابي، وحقيقة الأمر ان حمورابي بذكائه وفطنته استفاد من جميع الشرائع التي سبقته فأخذ اهم ما فيها من تشريعات اضافة الى تشريعاته واهم الشرائع التي سبقت شريعة حمورابي هي:

1- وثيقة اصلاحات اوركاجينا التي أشرنا اليها وقد تم العثور على جميع نسخ هذه الوثيقة في تنقيبات البعثات الفرنسية في مدينة ( لكش) عام 1878م وترجمها لأول مرة العلاّمة الفرنسي فرانسوا تورو دانجان ويشير الباحثون الى ان الملك السومري اوركاجينا ترك كتابات مهمة وسن قوانين وفرت للشعب السومري الحرية والعدالة الإجتمعية الا ان هذه الكتابات لم تصل الينا، وقد يعثر المنقبون في المستقبل على هذه الكتابات التي يمكن ان تضاف الى وثيقة الإصلاح المعروفة لدينا

2- شريعة أور نمو:

تعتبر هذه الشريعة من اقدم الشرائع المعروفة وأورنمو مؤسس سلالة أور الثالثة (2111-2003) قبل الميلاد ة ويعتقد الباحثون ان هناك شرائع اخرى سبقت شريعة أور نمو قد يكشف المستقبل عنها بجهود الباحثين في هذا الميدان وقد احتوت شريعة اور نمو على 31 مادة قانونية كما ضمت هذه الشريعة ما يشبه اصول القوانين الحديثة عن مبررات اصدار هذا التشريع. (5)

3- شريعة لبت عشتار:

تتألف شريعة لبت عشتار من أربع كسر ٍٍ تم العثور عليها من قبل باحثين من جامعة بنسلفانيا حيث عثروا على هذه الكسر في السنوات الأولى من بداية القرن العشرين وقام بدراستها وترجمتها الباحث الأمريكي فرنسيس ستيل ونشرها لأول مرة عام 1947 م وبعد سنتين نشر فرنسيس اضافة لهذه الشريعة وجدها في كسرة اثناء التنقيبات تعرف عليها كريمر وفيها تكملة لبعض القوانين في هذه الشريعة.

ولبت عشتار هو خامس ملوك سلالة آيسن (2012 – 1794 ) قبل الميلاد ويعتقد الباحثون ان قانون لبت عشتار كان مدونا ً على مسلة كبيرة كانت مقامة في مكان يتجمع فيه اكبر عدد من الناس وهذه الحقيقة يمكن استنتاجها من مقدمة القانون وخاتمته.

4 – قانون اشنونا:

 تم العثور على ألواح من قانون اشنونا من خلال التنقيبات التي قامت بها المؤسسة العامة للآثار في العراق في موقع تل حرمل الواقع في بغداد وذلك سنة 1945 م وفي نفس العام اعلن الباحث العراقي المعروف طه باقر عن اكتشاف لوحين خلال التنقيبات المذكورة مُدَّونين بشؤيعة كانت تعرف بقوانين أشنونا وتاريخ هذه القوانين غير معروف على وجه الدقة والتحديد الا انه وكما يؤكد الباحثون يسبق شريعة حمورابي بنصف قرن أو أكثر.

5 – شريعة حمورابي

 بعد جولة سريعة تعرفنا من خلالها على أشهر القوانين والشرائع العرقية القديمة نصل الى أهم هذه الشرائع وهي شريعة حمورابي التي تمثل خلاصة وافية لكل ما جاء في الشرائع القديمة اضافة ً الى الشرائع الجديدة التي سنَّها حمورابي في مسلته الشهيرة.

 في السنة الثلاثين من حكمه وبعد ان استطاع ان يوحد البلاد بعد ان كانت مجزأة ً على شكل دويلات صغيرة , أصدر حمورابي شريعته الشهيرة التي تعتبر من أهم الشرائع التي اهتمت بحقوق الإنسان في العدل والحرية والمساواة ويرى الباحثون ان أهم عمل قام به حمورابي هو تشريعه للقوانين وتثبيتها على الحجر وتوزيعها على المدن البابلية لكي يطلع عليها الناس ويسير القضاة والحكام على هدي بنودها في تطبيق العدل واقرار حقوق الناس.

سجل حمورابي قوانينه على مسلة كبيرة من حجر الدايوريت الأسود وهي على شكل مسلة اسطوانية الشكل يبلغ طولها 225 سنتمترا وقطرها 60 سنتمترا وهي مسلة اسطوانية ولكنها ليست دائرية تماما وقد تم العثور على المسلة في سوسا عاصمة عيلام اثناء حفريات البعثة التنقيبية الفرنسية ما بين عامي 1901 -1902 م وقد رتب حمورابي مواد شريعته في اربعة وعشرين حقلا وكتبت بالخط المسماري وباللغة البابلية على غرار شريعة لبت عشتار وتحتوي المسلة على 282 مادة تناولت جوانب الحياة البابلية المختلفة ويرجح الباحثون ان مواد المسلة تزيد على 300 مادة والتخريب الحاصل في احد اجزاء المسلة لم يمكن الباحثين من معرفة عدد المواد المخربة على وجه الدقة والتحديد.

 نقل هذه المسلة الى مدينة سوس الملك العيلامي شتروك ناخوتني بعد ان غزا بابل سنة 1171 قبل الميلاد وقد محا ناخوتني من المسلة بعض الأسطر ليسجل هذا الملك عليها بطولاته وانتصاراته غير ان اللعنات التي تحتويها خاتمة الشريعة على من يعبث او يغير في نصوصها منعت الملك شتروك ناخوتني من تدوين اسمه على هذه المسلة.

 نلاحظ في القسم الأعلى من المسلة نحتا بارزا ً يمثل الإله شمش وهو اله الشمس جالسا ً على عرشه وهو يسلم بيده اليمنى للملك حمورابي الواقف أمامه بهيبة وخشوع، أدوات القياس ليتسنى له بواسطة الحسابات الدقيقة إعمار البلاد لخدمة ابناء شعبه. تناولت شريعة حمورابي جميع ما يتعلق بتنظيم الحياة في ذلك الوقت فالمواد من 1 ال 5 تتعلق بالقضاء والشهود والمواد من 6 الى 25 تتعلق بالسرقة والنهب وجزاء السارق والناهب والمواد من 26 ال 41 تتعلق بتنظيم الجيش وهناك مواد عديدة اخرى تناولت الحقول والبساتين والبيوت والقروض ونسبة الفائدة والتعامل مع التجار الصغار والتجار الكبار والديون والإئتمان. ويتضمن القسم الثامن من المادة 127 الى المادة 194 كل ما يتعلق بالشؤون العائلية كالزواج والطلاق والإرث والتبني والتربية والروابط العائلية وانجاب الأطفال وفيما يتعلق بتطبيق العدالة وعقوبات القصاص تتناول المواد من 195 الى 214 كل ما يتعلق بالخصومات بين الأشخاص والأضرار التي يحدثها البعض للبعض الآخر اضافة الى جوانب عديدة أخرى تناولتها بنود هذه المسلة وحاولت من خلالها اقرار العدالة والمساواة والحرية الشخصية التي تحترم الأعراف والتقاليد السائدة في ذلك الوقت.

وجدير بالذكر ان النسخة الأصلية من مسلة حمورابي معروضة الآن في متحف اللوفر الفرنسي ولا يملك العراق وهو صاحب هذه المسلة الا نسخة جبسية معروضة في القاعة البابلية في المتحف العراقي الذي تم نهبه عند سقوط النظام السابق.

 يشير حمورابي في مقدمة مسلته الى ان الإلهين آنو وأنليل نادياه باسمه حمورابي الأمير التقي الذي يخشى الآلهة ليوطد العدل في البلاد وويقضي على على الخبيث والشرير لكي لا يستعبد القوي الضعيف ولكي يعلو العدل كالشمس ويتير البلاد من اجل خير البشر وتتواصل المقدمة لتوضح أمجاد حمورابي الذي اتقن بناء المعابد الكبيرة ووضع المصائد لأعداء الآلهة , حامي مدينة لارسا والذي أعاد تأسيس مساكن كيش وبعد مقدمة طويلة تعدد أمجاد حمورابي وعمق علاقته بالآلهة وتأكيده على السير على هدي ما تريده هذه الآلهة من خير على الأرض تبدأ تفاصيل بنود شريعة حمورابي التي تقع كما اسلفنا في 282 مادة وقد وردت مواد هذه الشريعة كاملة في كتاب – الشرائع العراقية القديمة - للدكتور فوزي رشيد الذي يعتبر واحدا من أهم المصادر التي تناولت الشرائع العراقية القديمة ويمكن الرجوع لهذا الكتاب لمعرفة تفاصيل بنود شريعة حمورابي.

 خاتمة

من المؤكد ان بنود القوانين والشرائع القديمة عموما ً ومسلة حمورابي على وجه التحديد لم يعد لها من اثر وفاعلية في حياتنا المعاصرة فقد وضعت هذه الشرائع والقوانين لأزمنة قديمة وكانت تمتلك كامل فاعليتها في تلك العصور وكانت ذات تأثير كبير في حياة البشر وكانت بنود شريعة حمورابي حاسمة وقاسية على من يعتدي على الأخرين ليسلب حقوقهم حيث نجد مثلا في المادة الأولى من هذه الشريعة ان الرجل اذا اتهم رجلا ً آخر بتهمة القتل ولكنه لم يستطع اثبات هذه التهمة فان الإعدام يكون نصيب من لفق تهمة القتل بدون وجه حق وقد عملت بنود هذه الشريعة على احقاق الحق والعدل والمساواة بين الجميع دون استثناء وهذا لا يعني ان هذه القوانين والشرائع لا تمتلك أهميتها بعد ان أجتازتها العصور فهي تؤكد بما لايقبل الجدل والمناقشة على ان العراقيين القدماء هم أول من أشار الى مفردة الحرية وهم اول من اكد على اهمية حقوق الانسان في العدل والحرية والمساوة بما يوفر الحياة الحرة الكريمة للبشر وقد سبقوا بهذه الشرائع والقوانين الحضارة الغربية بعشرات القرون.

 بل ان هذه الحضارة الغربية هي اول من استفاد من بنود هذه الشرائع والقوانين رغم محاولة تهميش دورها التأريخي لأسباب عديدة لا مجال لذكرها في هذا البحث يقف في مقدمتها المستشرقون الأجانب.

.........................................

المصادر

1 – موسوعة ويكيبيديا / الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

2 – هنا بدأ التاريخ / س. ن كريمر

3 -الانسان في ادب وادي الرافدين / د يوسف حبي

4- الشرائع العراقية القديمة / الدكتور فوزي رشيد

 5- فؤاد قزانجي / صحيفة المدى / 4/ تموز /2009

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 3/تشرين الثاني/2009 - 13/شوال/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م