الطعن بالنوايا..ارهاب

نزار حيدر

افكلما فكر احد بصوت عال، او دخل مناطق اللامفكر فيه، او ادلى احد بدلوه في قضية من القضايا، او حاول ان يبدي رايا في مادة دستورية، طعن آخرون بنواياه، وشككوا باهدافه، واتهموه بارتباطاته ومصادره؟.

ان الطعن بالنوايا ارهاب فكري بامتياز، لانه يسبب انتشار، وتاليا، سيطرة حالة من الخوف والهلع بين الناس لا يدعهم يعبرون عن انفسهم بشكل سليم وصحيح.

انها محاكم تفتيش جديدة، وسيطرات (امنية) ينصبها في وسط الطريق وعند المنعطفات الحادة، من يمارس الارهاب الفكري في المجتمع، او من عين نفسه وليا او وكيلا على من يعتبرهم قاصرين (الشعب) طبعا من دون تفويض من احد.

ان الارهاب الفكري لا يقل خطورة عن ارهاب المفخخات، بل انه اشد فتكا، فاذا كان التفجير الارهابي يقتل انسانا ويسد طريقا، فان الارهاب الفكري يقتل امة بكاملها ويسد كل النوافذ التي تطل على المستقبل.

ان من ابرز مصاديق الديمقراطية هو تالق مبدا حرية التعبير، والذي لا يمكن ايجاده في جو الرعب والارهاب والتخويف الذي يصنعه الطعن بالنوايا.

يجب ان نطلق العنان للحراك الفكري والثقافي، ليسير بشكل متوازي مع الحراك السياسي، لان الاخير ليس كل شئ، وان الاول هو الذي ينتج، كلما اشتد، حريات جديدة، ولولا هذا الحراك الفكري والثقافي، ولولا وجود مفكرين نقديين احرار، لاستحالت عملية انتاج الديمقراطية، خاصة في بلد كالعراق الذي يتميز بالتنوع والتعددية على مختلف المستويات، وان وجود مثل هؤلاء المفكرين في اوربا عصر النهضة، من امثال سبينوزا ولايبنتز وهوبنز وجون لوك وفولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم، هو الذي انتج هذه الديمقراطية في العالم، خاصة في الغرب، والتي ظلت تؤثر على كل العالم باشعاعاتها الفكرية لحد الان.

ان العراق الجديد يمر اليوم بفرصة تاريخية وذهبية يمكن ان تحوله الى بلد مستقر ونموذج في آن، اذا ما ادى المفكرون والمثقفون دورهم بشكل صحيح وسليم، ومن اجل ان يؤدوا هذا الدور عليهم اولا ان يجتهدوا ويبذلوا كل ما بوسعهم من اجل تشكيل رؤية سياسية  ثقافية لما يجري ويجب ان يجري في العراق، على صعيد السياسة والاجتماع والفكر والثقافة والقانون، كما ان عليهم، ثانيا، ان لا يتخلوا عن وظيفتهم النقدية ويلتحقوا بخدمة السلطة، والا فقدوا اهميتهم كمثقفين ينتجون الفكر، ان عليهم ان لا يستسلموا لاغراءات المناصب البيروقراطية، فيلتحقوا بركب جيش (المثقفين) واصحاب الاقلام في العالم العربي، الذين اداروا ظهورهم الى وظيفتهم الحقيقية، ليسوقوا مفاهيم ويدافعوا عن ممارسات هي ابعد ما تكون عن الثقافة والفكر، كمفاهيم الانظمة الوراثية والشمولية والاستبداد والديكتاتورية، فلا تراهم الا على موائد الحكام، ولا يكتبون الا ما يرضيهم، فترى الكثير منهم قد انتقل من (النضال من اجل الطبقة العاملة ضد مصاصي دماء الشعوب) الى مطبل ومزمر في صحيفة السلطان (مصاص دماء الشعوب).

ان الدول والحضارات والانظمة السياسية الراقية، يبنيها المثقفون والمفكرون المتنورون النقديون الاحرار، وليس اصحاب الاقلام الذين يعتاشون على ما يكتبون، او السياسيون الذين يركظون وراء المناصب، من دون ان يفكروا او ينجحوا في بناء مؤسسة واحدة.

وان مثل هؤلاء المفكرين لا يمكن ان نجدهم في البلد الذي يحكمه الاضطهاد الفكري، سواءا أكان رسميا او (شعبيا) من خلال سيطرة وعاظ السلاطين وانصاف المثقفين وذوي الافكار الضلامية او الضحلة على الساحة.

لندع الانسان في العراق الجديد يعبر عن الافكار الصادقة بكل حرية، فبالراي الحر غير الخاضع لرقابة السلطة، نعيد بناء البلد من جديد على اسس صحيحة ومقاييس حضارية دولية جديدة.

يجب ان لا يخضع الراي الا الى سلطة الضمير والراي العام المتنور، والى القانون العام الذي يحكم الشعب، وليس الى قانون الحاكم وسلطة الحكومة.

لماذا لا زال الواحد منا يقفز مازوما لراي مخالف يقراه هنا او هناك؟ ولماذا ينتفض الواحد منا اذا ما خالفه محاور في راي او فكرة؟ لماذا لا نتعلم الى الان كيف نستوعب الاخر ونتفهم الخلاف؟ لماذا ترتعش فرائصنا اذا ما ذكرنا متحدث بتاريخ مضى؟ لماذا لم نتعلم الى الان كيف نقرا وكيف نصغي الى الاخر وهو يتحدث الينا محاولا التعبير عن نفسه؟ ولماذا لم نتعلم الى الان كيف نتحكم بردود افعالنا عندما نواجه رايا مخالفا لتصوراتنا، فنضبط اعصابنا ولا ندع الراي الاخر يستفزنا فيخرجنا عن اطوارنا الانسانية الهادئة؟.

علينا ان نرفض جميعا، طريقة الطعن بالنوايا التي يلجا اليها بعض السياسيين، كلما ناقش احدهم موضوعا او قدم مشروعا او فكر بصوت عال في المشاكل التي تعرقل تقدم العملية السياسية الجديدة الجارية في العراق منذ سقوط الصنم.

لا يجوز لاحد كائنا من كان، ان يطعن بنوايا الاخرين او يتهمهم بالديكتاتورية والاستبداد، كلما هموا بمناقشة قضية من القضايا العامة، خاصة السياسية منها، واذا كان القادة والزعماء لا يحق لهم ان يثيروا مثل هذا النقاش او ان يبدوا رايهم فيه، فما بالك بالمواطن العادي؟.

ان من غير المنطقي والمعقول ان نطعن بنوايا كل من يناقش فكرة او يبدي رايا او يؤشر على خلل او خطا، حتى اذا كان ذلك الخطا الذي يعتقده مادة دستورية او نصا قانونيا، لان مثل هذا الطعن هو نوع من انواع الارهاب الفكري الذي يخيم بسببه الرعب والخوف على الساحة، ما يحول دون ان يفكر القادة والزعماء بطريقة واضحة وشفافة، فما بالك بالمواطن العادي؟.

هذا من جانب.

من جانب آخر، فان من القضايا الهامة مدار الحوار والنقاش اليوم في العراق، هي موضوعة نوع النظام السياسي الانسب، فبين من يرى ان الرئاسي هو الاصلح للعراق، يرى آخرون ان البرلماني هو الانسب.

في البدء، يجب ان ننتبه الى انه من الخطا المقارنة بين (النظام الرئاسي) و (النظام البرلماني) وكأن النظامان متقابلان، في الوقت الذي يمثل الاول القوة التنفيذية والثاني القوة التشريعية، فكيف يصح المقارنة بين قوتين متكاملتين؟.

ان الصحيح هو المقارنة بين (النظام الرئاسي) و (النظام الوزاري) فهما نظامان متقابلان يمكن استبدال احدهما بالاخر اذا ما وجد الشعب العراقي ان احدهما افضل من الثاني، شريطة ان يكون كلا النظامين (برلمانيان) اي ان يعود امر تشكيل الحكومة للبرلمان، كما يعود امر مساءلة الحكومة ورقابتها واستجوابها الى البرلمان كذلك، على اعتباره السلطة التشريعة المسؤولة عن كل ذلك.

ولتوضيح الفكرية نسوق مثالين عليهما:

الاول، هو النظام الرئاسي في الولايات المتحدة الاميركية، اذ ينتخب الشعب الاميركي رئيسه مباشرة، فيما يحتاج الرئيس، لتشكيل ادارته (حكومته) الى ان يوافق الكونغرس على تسمية وزرائه واحدا واحدا، وان من لم يحصل منهم على الثقة المطلوبة لا يمكن ان يصبح وزيرا في ادارة الرئيس.

وتستمر مهام الكونغرس، الى جانب التشريع، في الرقابة والمحاسبة لاداء الرئيس وطاقم ادارته، فتراه، مثلا، يعقد جلسات الاستماع الى الوزراء بين الفينة والاخرى، لمحاسبة او تقييم اداء او الاطلاع على طريقة وسير عمل الوزارة.

اذن، فالشعب ينتخب الرئيس، الا ان الرئيس يعود بتشكيلته الحكومية الى نواب الشعب تحت قبة البرلمان.

الثاني، هو النظام الوزاري في بريطانيا، فان الشعب هناك ينتخب نوابه للبرلمان (مجلس العموم البريطاني) وهم بدورهم يمنحون الثقة لرئيس الوزراء المخول بتشكيل الحكومة، وهو في هذه الحالة ممثل الاغلبية البرلمانية، والذي عادة ما يكون زعيم احد الاحزاب الفائزة باغلبية المقاعد، كما انهم مسؤولون عن منح الثقة للوزراء كلا على انفراد، فرئيس الوزراء لا ينتخبه الشعب مباشرة، وانما يتم انتخابه بشكل غير مباشر من خلال ممثلي الشعب في مجلس العموم البريطاني، وبقول ادق، يتم انتخابه اوتوماتيكيا من تحت قبة البرلمان، باعتباره رئيس الحزب الذي يمتلك اغلبية المقاعد في البرلمان.

تاسيسا على هذين النوعين من الانظمة السياسية، يبدو لي ان الجدل القائم حاليا في العراق، هو بشان ما اذا كان يجب ان يكون النظام رئاسيا، اي ان الرئيس هو الذي يدير الحكومة، او وزاريا، اي ان رئيس الوزراء هو الذي يجب ان يديرها، وليس بين ان يكون رئاسيا او برلمانيا، بالاضافة الى ان البعض يذهب الى القول بان الشعب هو الذي يجب ان ينتخب الرئيس مباشرة، في حالة ان يكون النظام رئاسيا، وليس البرلمان، وهي، ربما، محاولة للالتفاف على الثلاثي المشؤوم، وهذا امر حسن.

المشكلة في العراق الجديد، باعتقادي، لا تكمن في نوعية نظام السلطة التنفيذية، اكان (رئاسيا) ام (وزاريا) انما المشكلة تكمن في ذلك الاتفاق المشؤوم الذي مرره الزعماء والقادة والسياسيون بعيد سقوط الصنم، والذي ظل معمول به في الحكومة وتحت قبة البرلمان، نزولا الى ابسط حلقة من حلقات الدولة العراقية الجديدة، الاتفاق الذي يعتمد الثلاثي المشؤوم (التوافق والمحاصصة والفيتو)  والذي طالما تحدثت عنه شخصيا وانتقدته وطعنت فيه في اكثر من مقال وحوار وحديث.

لقد لمست تذمرا من هذا الاتفاق عند كل الزعماء الدينيين والسياسيين عندما التقيت بالعديد منهم خلال زيارتي للعراق في العام الماضي، وان جميع من التقيت به يحمله مسؤولية شل عمل الحكومة وعرقلة تقدم العملية السياسية وتجميد تنفيذ الكثير الكثير من مشاريع التنمية واعادة البناء والاعمار وغير ذلك.

يجب اسقاط هذا الاتفاق اذن، اذا اردنا ان نطلق العملية السياسية، ونحررها من اسر الثلاثي المشروم، اما ان نغير نظام السلطة التنفيذية، من دون اجراء اي تغيير على الاتفاق، فان ذلك لا ينفع شيئا ولا يغير من المعادلة شيئا، ولا يحل اية مشكلة البتة.

ترى، هل يحق لنا ان نتحدث عن مثل هذا التغيير ونطالب به؟.

لقد قامت قيامة بعض السياسيين حال التلميح الى امكانية اعادة النظر ب (النظام البرلماني) على حد قول القائل، معتبرا ان ذلك نص دستوري لا يجوز المساس به ابدا، وان من يدعو الى اجراء مثل هذا التغيير انما يحمل في نواياه بذور الديكتاتورية، ساعيا الى اعادة الاستبداد الى المشهد السياسي، فهل صحيح هذا الكلام؟.

اولا: كلنا نعرف، فان النظام السياسي الديمقراطي، تجربة جديدة في العراق، لم يشهد مثله العراقيون، منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن الماضي، ولذلك لا يجرؤ احد على القول بان ما دون، بتشديد الواو، في الدستور او ما تم الاتفاق عليه والعمل به منذ سقوط الصنم ولحد الان، هو الكمال، وانه افضل ما يمكن، ابدا.

لذلك فان من حق العراقيين ان يناقشوا مسيرة السنوات الست الماضية، لتشخيص الخلل وتحديد المشاكل التي اعترضت التجربة من اجل اعادة النظر فيها وتحسينها من اجل تحسين الاداء.

قد يكون ما تم تدوينه، جيدا للفترة الماضية، الا ان ذلك لا يعني عدم امكانية اعادة النظر فيه من اجل تحسينه وتجديده واصلاحه.

ثانيا: الدستور ليس قرآنا، وان نصوصه ليست احاديث نبوية لا يجوز لاحد المساس بها، ابدا.

انها نصوص من صنع البشر، قابلة للتغيير والتبديل، ولذلك تحدث الدستور نفسه في اكثر من مادة عن آلية التغيير في مواده.

فاذا تقدم اي احد بمقترح للتغيير في اطار الالية الدستورية المنصوص عليها في الدستور ذاته، فيا اهلا وسهلا.

ثالثا: اما الاتهام بالديكتاتورية لمن يدعو الى التغيير والتبديل، فهذا عين الارهاب الفكري الذي يجب ان لا نتورط به ابدا.

ان الذي يحمل في نفسه بذور الديكتاتورية، هو ذلك الذي يدعو الى الغاء صندوق الاقتراع مثلا، او الغاء راي الناخب ومصادرة صوته والاجهاز على ارادته، وليس من يفكر في تحسين طريقة احترام ارادة الناخب من خلال البحث في افضل الطرق للادلاء بصوته.

ان كل ما نسمعه اليوم من دعوات للتغيير، لا تتعدى او تتجاوز على جوهر الديمقراطية، ابدا، وانما تحوم حولها، والغرض من كل ذلك، هو تحسين الاداء الديمقراطي وليس الغائه.

لا ادري لماذا يحاول البعض التستر على المعوقات التي كبلت ارادة الحكومة والبرلمان، فشلت اداءهما؟ لماذا لا يفكر امثال هؤلاء بصوت مرتفع للتوصل الى افضل الصيغ الممكنة بعد الاستفادة من تجربة السنوات الست او السبع الماضية؟ وخاصة ونحن اليوم مقبلون على انتخابات تشريعية مفصلية ستلعب نتائجها دورا مهما وخطيرا في آن واحد في اعادة صياغة خارطة الدولة العراقية الجديدة.

فمن اجل ان لا نسترسل مع المعوقات والمطبات اربع سنين اخرى، فنضيع على المواطن وعلى البلد فرصة التجديد والتحسين، علينا جميعا، خاصة القادة والسياسيين والزعماء، ان نتحرر من اسر الماضي وننعتق من اغلال الرؤية الضيقة التي تسببت بها الحزبية والمذهبية والاثنية والمناطقية، لننطلق في رحاب الجو العام من خلال رؤية بعيدة المدى، ولنتذكر دائما بان الرؤية المحصورة لا تبني دولة ابدا، وان الرؤية العامة والاستراتيجية فقط هي التي تبني الدولة، ولنا في دول العالم، قديمها وحديثها، اكبر تجربة وبرهان.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/أيلول/2009 - 21/رمضان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م