جنبلاط وجلد الذات

مرتضى بدر

المواقف المتقلبة للزعيم الدرزي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط قد حيرّت الجميع في لبنان وخارجه، فللرجل صولات وجولات على مسرح السياسة اللبنانية، فهو يتمتّع بكاريزما قلّما نجد له نظيراً في الشرق الأوسط.

وقد وصفه الكثيرون بأوصاف عديدة، منها: الحرباء، والمشاكس، والمستبد، والبراغماتي، والانتهازي، وفي نفس الوقت وصفه آخرون بالزعيم الشجاع والجريء.

 هذه الأوصاف لم تأتِ بالطبع من فراغ، فمن تتبّع مجريات الأحداث اللبنانية ابتداءً من الحرب الأهلية، ومروراً بمؤتمر الطائف، وتشكيل الحكومة برئاسة الرفيق الحريري، ومن ثمّ اغتياله، وخروج القوات السورية إلى العدوان الإسرائيلي، يجد أن لجنبلاط في كل هذه المحطات مواقف وآراء وبصمات، فقد كان أحد أمراء الحرب الأهلية.

يتمتّع جنبلاط بقدرة فائقة على تغيير المواقف، وقدرة على التأقلم مع المستجدات، فيكيّف نفسه مع المتغيرات منتقلاً من أقصى اليسار الذي تربّى عليه إلى أقصى اليمين.

 كان من أكثر الشخصيات التي فتحت حربًا شعواء على سوريا، فقد هاجم مرات عديدة شخص الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أنّه وبعد فوز قوى الرابع عشر في الانتخابات الأخيرة توقّف كلياً عن تصريحاته النارية، وقد اعترف في حوار تلفزيوني مع قناة (فرانس 24)  بأخطائه بحقّ الرئيس السوري بشّار الأسد، وقال بوضوح: “أسأت كثيراً للأسد وجرح اللسان لا يعوّض”.

 وفي الاجتماع الاستثنائي للجمعية العمومية للحزب التقدّمي الاشتراكي الذي عُقِد الأحد الماضي ألقى كلمة افتتاحية مثيرة وصريحة، قيل أنّها بداية للعودة إلى الذات، واستخدم وسيلة جلد الذات كفّارة لذنوبه. فقد كشف في كلمته عن الكثير من الأخطاء، وحاول من خلال تحليل سياسي جريء وشفّاف رفع القناع عن نفسه، ودعا للعودة إلى مبادئ الحزب المنبثقة من الفكر اليساري والقومي. وفي اعتراف واضح قال: “إنّ تحالفه مع قوى الرابع عشر من آذار الموالية للغرب كان للضرورة ولا يمكن أن يستمر”، ودعا إلى ضرورة العودة إلى جذور الحزب اليسارية. وفيما يخص العلاقة مع سوريا قال جنبلاط: “إنّ الجيش السوري انسحب من لبنان، ويكفي بكاءً على الأطلال مشدّدًا على الحاجة لوجود علاقات مميّزة مع دمشق”.

وأضاف: “ذهبنا بعيداً في معاداة سورية والشيعة”.

وانتقد جنبلاط طريقة تشكيل الحكومة في لبنان، وقال إنّها أصبحت مشابهة لمجالس القبائل أو (اللويا جرغا) في أفغانستان. واعتبر جنبلاط أنّ زيارته للولايات المتحدة في عهد المحافظين الجدد كانت نقطة سوداء في تاريخ الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعّمه. يصف البعض “جلد الذات” بالمبالغة المفرطة في نقد الذات. قد نجد شخصيات سياسية قليلة في عالمنا العربي والإسلامي من يحاسب نفسه، وينتقد مواقفه وأداءه إما مع نفسه أو مع زملائه في الحزب، وعدم المحاسبة هذه تعتبر في حد ذاته نوعًا من المكابرة، وهي في الواقع آفة من آفات السياسة التي ابتُلِي بها الكثير من الساسة.

التواضع السياسي والاعتراف بالخطأ تعتبران فضيلة أخلاقية وسياسية. وبالعودة إلى إقرار جنبلاط بأخطائه فإنّه قال بصريح العبارة: “أنا أقول هذا الكلام، ليس من أجل التهرّب من المسؤولية التي أتحمّلها بالكامل كما يتوجب على غيري أن يتحمّلها”.

في هذا المقام لا نريد القول بأنّ وليد كمال جنبلاط من خلال اعترافاته هذه قد اقترب من الكمال السياسي، فعليه أن يبرهن ذلك بأفعال ولا يكتفي بأقوال، فالرجال لا يُقاسون بالكلمات بل بالمواقف.

 ومن حقّ الكثيرين في لبنان أن يشكّكوا في تصريحاته واعترافاته، ويسيئوا الظنّ به؛ وذلك بسبب تاريخه الطويل في التخبّط والتمرّد والانقلاب في المواقف، لكن المبادرة التي بادر بها تعتبر جريئة، وربما تفتح الباب لبقية شيوخ الطوائف اللبنانية لينزلوا من أبراجهم العاجية ويعترفوا بأخطائهم. باعتقادي، يجب على جميع زعماء الطوائف اللبنانية ممارسة جلد الذات كما فعل وليد جنبلاط، فنقد الذات قد  تكون ضرورة سياسية بالنسبة لهم، وربما تكون هي الوسيلة للخروج من الأزمات والتوترات السياسية التي يعاني منها لبنان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/آب/2009 - 25/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م