التُّراث المُعطَّل

أحمد شهاب

يحتل موضوع التراث مكانة بارزة من جملة القضايا الكبرى التي شغلت، ولاتزال تشغل، مجالا حيويا في ساحات الفكر الإسلامي، إذ تُعتبر الأمة الإسلامية أحد أكثر الأمم تعلقا وتواصلا مع تراثها، وذلك بسبب صبغته الدينية، حتى تعاطت معه بعض الفرق الإسلامية بوصفه «تراثا مقدسا» لا يجوز الاقتراب منه، أو مسه بالنقد والتقييم، ولا يحق لأحد الانتقاص من قيمة رجاله وأبطاله، بل ينبغي من وجهة نظرهم أن يضع المسلم نفسه أمام التراث موضع الطالب من المعلم، والظامئ من الجدول.

ويوسم هؤلاء «بالتيار التقليدي»، وهم أصحاب الفهم التقليدي للإسلام، في مقابل «التيار التجديدي»، وهم أصحاب الفهم المتجدد للإسلام.

يتعامل التيار التجديدي مع التراث بوصفه مخزونا معرفيا هائلا لتميزه بالقرب من زمن النزول، ويعتقد أصحابه بأن التراث الإسلامي يحتوي على حجم كبير من التجارب والخبرات والمعارف والعلوم، وهي نتاج التقدم العلمي والحضاري للأمة الإسلامية في بعض الفترات التاريخية السالفة، ويتمايز أصحاب الطرح الحضاري للإسلام عن نظرائهم التقليديين، بأنهم يفرقون بين النص المقدس الثابت، والتجارب والمعارف الإنسانية المتبدلة، فيما يدمج بينهما التقليديون.

لكن هذا التراث الزاخر بالمعارف والتجارب لم يلحقه استغلال يلائم حجمه الواسع، وغناه المعرفي، وعمقه الروحي، ولم تسعفه حركة المسلمين الفكرية وقوتهم المادية، على النهضة والتقدم، بل ظلوا في حالة أقرب إلى الاستغراق في معالجة قضايا جزئية لا صلة لها بالواقع القائم، والانشغال في صراعات كلامية وفقهية مكررة، في حالة أقرب إلى تضييع سُلم الأولويات المعرفية، فمن الواضح أن المسلمين عجزوا عن تحديد القضايا محل العناية والاهتمام، وأصروا على البقاء في قالب تراثي واحد لا يكاد ينفتح على القوالب والمعاني الأخرى.

هذه الانشغالات والقوالب، لا تمثل أولوية عند أصحاب الطرح الحضاري للإسلام، بقدر ما تمثل جزءا من التراث الذي يمكن أن يكون مهما ومتقدما في زمن ما، لكنه يتراجع من حيث الأهمية في زمن آخر. إن تغير الزمان يفرض تغيرا في الأولويات الفكرية والمعرفية والفقهية. أما الإصرار على البقاء في الدائرة عينها، والاهتمامات عينها، فهو يُعد من قبيل الإساءة إلى النصوص ذاتها، التي أكدت أن على الإنسان أن يجني تبعات ما صنعت يداه، لا ما صنع الآخرون، فهو معني باستثمار ما لديه من ملكات وفرص وإمكانات، لأن الإنسان ببساطة شديدة يحاسب على ما فعل وأنجز، لا على ما فعله أقرانه، أو السابقون من رجال قومه.

هذا لا يعني أن هذه القضايا أو تلك ليست مهمة، أو ليست ذات شأن، وإنما يعني أنها لم تعد ذات أولوية حضارية، ولا ينبغي رفعها في سُلم الاهتمامات إلى درجة أن تُسخَّر لها الجهود الفكرية والأدوات الإعلامية، لإعادة طرحها وتسويقها، بل ثمة قضايا جديدة لها أولوية بالطرح، ويمكن أيضا أن نجد لها جذورا في التراث الإسلامي، لكنها أهملت لأسباب سياسية أو فكرية.

العديد من القضايا والمسائل كانت تعد من الأوليات في تفكير الإنسان المسلم، ولا يستطيع أن يضمن الجنة من دون أن يحسم موقفه منها. وكان الخلاف حولها سببا في اشتعال معارك عنيفة بين المسلمين، لكنها اليوم تُناقش كحدث تاريخي عام، ويتم تداولها بصدر رحب، وبسعة علمية تتجاوز حالات التشنج السابقة، بل وبعضها اختفى من مسرح الاهتمام، ولم يعد مطروحا نهائيا على ساحات الحوار، أو المناقشة، من قبيل الجدل حول مسألة الصفات والأسماء، أو الخلاف حول فهم نظريات القضاء والقدر.

هذه المسائل وغيرها كانت محلا للنزاع والجدل الساخن بين المسلمين، وافترقت على إثرها الأمة إلى مدارس وجماعات، وصلت حد إشهار سلاح التكفير بينها، وطرد المخالفين من الملة، لكنها اليوم لم تعد أولوية إلا في نطاق ضيق ومحدود، وعلى هامش الحياة الفكرية للمسلمين. ومن المؤكد أن أغلب المدارس الدينية لم يعد يعنيها إثبات مثل هذه القضايا أو إنكارها، وإنما تكتفي بما وصلت إليه من أدلة واستنتاجات.

ربما يندهش المسلم المعاصر من الحدة التي تعامل بها السابقون مع القضايا الفرعية، ويرى في قرارة نفسه أن «المسائل الخلافية» لا تستحق هدر كل هذه الدماء والأموال في سبيل إثباتها أو نفيها، وهو لا ينتبه إلى أنه يُعيد تكرار الحكاية من جديد بصور ومرئيات حديثة، ويبدو لي أن المسؤولية تقع في الدرجة الأولى على عاتق العلماء والمفكرين، الذين عجزوا عن تحديد أولويات البحث في قضايا وملفات التراث، وغرقوا في خلافات حول تفسير مفاهيم وأحداث محددة، وعطلوا الاهتمام بقضايا أكثر خطورة مثل: قضية الحرية والعدالة، والمشاركة السياسية، وتقويم أداء الحاكم، وغيرها من قضايا لها جذور في تراث المسلمين، ولها قيمة معاصرة.

وقيمتها المعاصرة ناتجة من كونها محل ابتلاء الإنسان المسلم، الذي لايزال يعيش حيرة تجاه الأطروحات الحديثة، وعجزا عن التواصل مع المستجدات الفكرية والسياسية، ويدور في حلقة مفرغة بين ما يريده من حياة مدنية، وتكافؤ فرص، ودولة عصرية تدار وفق منطق العمل المؤسسي، وبين توجيه ديني يُعيده إلى بدايات الصراع، ويشغله في تتبع الجدل المذهبي، وينفي إمكانية نجاح مشاريع التعايش المشترك بين المختلفين.

هو في اختصار، صراع بين رؤيتين للتراث، واحدة تريد تعطيل التراث على قضايا خلافية محدودة الآفاق والأبعاد، تدفع المسلم المعاصر ليكون حاضرا في جسده، وماضيا في فكره وسلوكه ومتبنياته.. وأخرى حضارية، تريد للمسلم أن يتعاطى مع التراث بعقلية منفتحة تعينه على كشف قانون الفعل الإنساني، وتحويل التراث إلى قالب معرفي يستلهم منه المسلمون القيم والمعاني الرفيعة، على قاعدة الاستفادة من تجارب الماضين، من دون الانغماس في أولوياتهم واهتماماتهم التي مضى زمانها وانتهت.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/آب/2009 - 25/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م