الحاكمون والأكثريات المحكومة

ياسر محمد

دائماً ما يدور الحديث حول حقوق الأقليات في العالم وما يلزم إتاحته لها من الحريات والمشاركة السياسية والإدارية في قطاعات الدول التي تعيش في كنفها.

ولكن ماذا لو كان الحديث عن أقل الأقليات وهي الحكومات التي تحكم الشعوب باعتبارها مجموعة تمثل نسبة قد لا تساوي الواحد بالمائة من مجموع السكان العام؟ فهي أقلية في تبنيها للقرار الذي قلما يتفق مع رأي الأكثرية التي يمثلها الشعب فيما يتعلق بوجهات النظر في طريقة إدارة البلدان وتوزيع الثروات التي تقضم من مسئول لآخر فلا يصل منها للأكثرية سوى الفتات لمشاريع البنية التحتية والتنموية التي يتنافس على مخصصاتها حتى عمال النظافة في مكاتب كبار المسئولين، وليس انتهاءً بتفاقم نسب البطالة والفقر وجمود الحالة المعيشية وتقسيم الشعب على أسس عرقية أو دينية.

لعل التجربة الأفريقية في طريقة حكم دولة جنوب أفريقيا مثال فيه العديد من الدروس التي استطاعت نقل البلاد من حالة الفرز العرقي القائم على العنصرية والتفرقة على أساس اللون والمنطقة حيث كان يمنع مرور ابن البلد ذو السحنة السوداء في المناطق التي يقطنها البيض القادمين من أوروبا بواسطة مخططات الاستعمار البريطاني الذي أصل نظام الفصل العنصري والكراهية بين البيض والسود.

استطاع الأفارقة التحرر من إرث ثلاثة قرون خلفها المستعمر البريطاني من خلال نضال متواصل نجح فيه مانديلا ورفاقه الذين يمثلون رغبة قرابة 29 مليون نسمة مقابل 4 مليون من البيض الذين يتمتعون بكامل الحقوق بالوقوف الجاد والمتواصل لأخذ حقوقهم.

الدرس الأهم في ذلك هو اضطرار الأقلية البيضاء ما تفرزه الانتخابات وقبولها بعد ذلك بفوز الأغلبية السوداء وإشراكها في الحكم والإفراج عن السجناء السياسيين بعد أن عاشت الأقلية الحاكمة مقاطعة دول العالم لها لما قدمته من صورة سوداء للتعامل مع الإنسانية واستعبادها.

وبالانتقال للدول النامية، فليست الحالة مختلفة عن الوضع الذي عاشته جنوب أفريقيا من وجود التمييز بين الشعوب وقمعهم باسم الدين والقانون، فتلك الدول تعيش الاستعمار الفكري وتدهس فيها كرامة الإنسان ويقسم داخلها الشعب إلى فئات تنعم  بعضها بالرفاهية وبعضها الآخر يفتقد لأبسط الحقوق.

إذ أن المشكلة التي تعيشها هذه الدول هو ما يعيشه أصحاب القرار من أعلى المستويات السياسية إلى أدنى القاع التشريعي والتنفيذي من الشعور بالانتفاخ والعظمة الذي هو في الواقع طريق التسلط والتفرد وإشاعة التمييز والعداء بين أبناء الشعب على أساس ما يراه سيادته ومعاليه وما يغدق به على مقربيه وأصحاب الجاه، بينما الجوع والفقر والظلم الاجتماعي ووأد الكفاءات الواعدة ينخر في صلب من لم يحضوا بالحسب والنسب داخل بعض البلدان.

أليس هذا شيئاً من العنصرية والتفرقة في إعطاء كافة الشعب حصصاً متساوية أو متقاربة من حقوقه الاقتصادية والدينية والوظيفية وكل حق من شأنه تنمية واستقرار البلاد؟

وبالرجوع لما آلت إليه التجربة الإفريقية من رضوخ الأقلية الحاكمة إلى إشراك الأكثرية بتقاسم السلطة، فإن العبرة تكمن في هذا الجانب من ضرورة وضع الحكومات حداً لما تعيشه من أحادية في اتخاذ القرار والتعامل على أساس أن من يحق له التقرير هم أصحاب الفخامة فقط. فما ينبغي الوقوف عنده هو فتح باب المجال للمشاركة السياسية والإدارية للشعوب وإعطائهم الفرصة للدخول في العملية السياسية لتجاوز هذه الحالة من الواقع الذي كانوا في خضمه.

فلم تعد سياسة «العصا والجزرة» نافعة في ظل زيادة الوعي وارتفاع سقف المطالبات الدولية بأهمية التغيير وإشاعة الديمقراطية في دول العالم الثالث، ما يتطلب إعادة هيكلة مواقع اتخاذ القرار داخل الحكومات باختيار من يختاره الشعب من خلال عملية انتخابية توصله بجداره إلى مقعد المسؤولية.

كما يلزم تأهيل القيادات والشخصيات ودعمها من أجل تمكينها من إدارة الأزمات وحالات التحول التي تشهدها الساحة السياسية والقبول بمشاركة كل ذي حق يعيش على أرض ذاك الوطن لتحقيق العدل والمساواة.

فمن الأولى أن تشعر الدول بالحاجة إلى الإصلاح من الداخل والتسريع من وتيرته لا أن يأتي معلباً ومفروضاً ممن يعتبرون أنفسهم دعاة الحريات والتغيير في العالم.

فهل يأتي يوما تكرر فيه التجربة الأفريقية في بقية البلاد النامية لتحقيق شيئ من العدالة بين أطياف الشعب الواحد؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 29/تموز/2009 - 6/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م