مَبْعَثُ النُبُوَّةِ ... اسْتِنْهَاضٌ لِهِمَمِ التَغْيير

محمّد جواد سنبه

يشكّل المبعث النبويّ الشّريف حدثاً إلهياً، له غاية ونتيجة. ولم يكنْ حدثاً منقطعاً عن مجريات التاريخ الإنساني أوغريباً عنها، بلّ يعتبر المبعث النبوي الشّريف، اتّصالاً لدورات المواجهة بيّن الحقّ والباطل. هذه الدّورات الرساليّة ليست عبثيّة الحدوث، وإنّما كائنة تحت سيطرة الإرادة الربّانيّة. فعندما تستنزف رسالة سماويّة ما ، كلّ طاقاتها التغييريّة، وتستفرغ جميع معطياتها في الواقع الذي أرسلت له، تتجدّد الدّورة ببعث رسالة جديدة، تلبي احتياجات الإنسان الروحيّة والماديّة. ويكون لها كذلك، زخم من إمكانات التقنيّن التّشريعي، يتماشى مع العصر الذي جاءت فيه، ليتمّ إعادة التّوازن للبشريّة، التي ابتعدت عن الخطّ الرسالي، وسبرت أغوار التيّه والضلال والعمى.

في السابع والعشرين من شهر رجب، لأربعين سنة خلت بعد المولد النبوي الشّريف،  كان للإنسانيّة موعداً مع رسالة إلهيّة جديدة، رسالة الإسلام الحنيف. لكن هذه الرسالة تختلف عن الرسالات السّابقة، بأنّها رسالة السّماء الخاتمة، لكلّ الرسالات السماويّة المقدّسة. ومعلوم أنّ لأي رسالة سماويّة، لابدّ أنْ يكون لها دستور إلهيّ تسير على هديه، وكان القرآن الكريم دستور رسالة الإسلام المجيد. وبدأ الرسول بعد بعثته المباركة، يبشّر سراً برسالة الإسلام، وكانت البداية الشهادة بوجود إله واحد، ونبي واحد، وقرآن واحد. فهذه العناصر هي المرتكز الأساس، للبنيّة العقائديّة لرسالة الإسلام. لكن هذا الطرح لم تكن تقبله الكثير من عقول تلك المرحلة.

انطلقت البداية في مواجهة الباطل بالحق، وكان مبتدأ الإنطلاقة مجابهة المستكبرين بالمستضعفين، وكان خطّ الشروع يبدأ في مواجهة الجهل بالعلم، وكان الهدف مواجهة التخلّف بالتّقدم، والعبوديّة بالحريّة. إنّ كلّ تلك البدايات ستبقى مفتوحة، وكلّ تلك المواجهات ستبقى قائمة، وحالة الصّراع بين مفاهيم الضّلاله وقيم الإيمان، ستبقى في احتدام أزليّ، حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، عند ذاك فقط ستكون النهاية. ربّما سائل يسأل: لماذا هذا التصوّر ببقاء الكفاح مستمراً عبر التّاريخ بيّن تلك النقائض؟.

الإجابة: أنّ الإسلام رسالة سماويّة عالميّة خاتمة، وبناءاً على استمرارية عمل قوانينها في الوجود إلى الأبد، فلا مناص من المجابهة بيّن الخيّر والشّر، بين الحقّ والباطل، بيّن النور والظلام .

وللإسلام منهج رساليّ حدده الله تعالى، ولفهم هذا المنهج لابدّ أنْ نستنطق القرآن الكريم، لنضع أيدينا على الخطّة الموضوعيّة لهذا المنهج، الذي يقصد تغيير البنيّة الإجتماعيّة، لأمّة غارقة في الظلم والظلام. فآيات القرآن الكريم تحدّد لنا ملامح المشروع التغييري؛ يقول تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)(سورة البقرة/129). هذه الآية الكريمة وضّحت منهج الدعوة إلى الله تعالى:(رسول إلى المجتمع، من نفس المجتمع ـ يعرف جميع خفاياه جرّاء معايشته عملياً له ـ، مهمته مزدوجة تتضمن: التّعليم والتّطهير). لكن الرسول(ص) والرسالة لم يكنْ أمامهما الطريق سهلاً، فاصطدما بمجموعة متخلّفة من معطيات المجتمع الجاهلي منها: (عصبيّة قبليّة)ـ(أميّة علميّة وفكريّة وثقافيّة)ـ(شيوع قانون البقاء للأقوى والهلاك للأضعف)ـ(انعزال عن العالم الخارجي، وكان للبيئة والجغرافية أثر في ذلك)ـ(تقديس أعمى لمعتقدات الآباء وتاريخهم)ـ(مجتمع قائم على التفاوت الطبقي، أسياد لهم الغُنْم وعبيد لهم الغُرْم)ـ(مجتمع مستقتل في التمسّك بأعرافة الإجتماعيّة، كالعبوديّة، والوأد، والثأر...الخ)ـ(مجتمع منحلّ أخلاقياً، يتعاطى الخمور والزنا والربا واضطهاد المستضعفين...الخ)ـ(مجتمع لا يحترم المرأة ويتعسّف في هضم حقوقها، حتى وصل به الأمر بأن يوّرثها للأعقاب، كسائر ممتلكات المتوفى)ـ(مجتمع يتاجر بالقيمة المقدسة للكعبة المشرفة، فحرّف شرعة الله في حجّ البيّت، وجعله مرتعاً لأصنام القبائل).

فأصبح منهج عمليّة التغيير، يتطلب التركيز على المحاور التاليّة:

1. إجراء تغيير عقائدي (النطق بالشهادتين) ورفض مبدأ الآلهة المتعددة، إضافة لرفض فكرة التّجسيم والتّجسيد(صنميّة العبادة). هذه عقبة كبيرة واجهها الرسول(ص) في دعوته، فالمجتمع الجاهلي مجتمع غارق في نوعين من الإنحرافات، الأوّل: الغرق في الماديات. والثاني: الإيمان بالخرافات والسحر والكهانة، فأنى له فهم الغيّبيات الروحانيّة، التي تتماشى طروحاتها، وتنسجم مع العقل المتدبّر السليم؟.

2. المجتمع بحاجة إلى صياغة جديدة لمفاهيمه وعلاقاته ونظامه الإجتماعي والسياسي والاقتصادي.

3. القضاء على الطبقيّة الإجتماعيّة، والعمل بمفهوم: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

4. العرب مقتنعون تماماً بأنّ الأمر العظيم، يجب أنْ يضطلع به رجل عظيم منهم (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، والرسول(ص) رجل يرعى الغنم في البادية.

لذا واجه الرسول(ص) هجمة من الإعلام الجاهلي، لغرض النيّل من دعوته ومن شخصيته. لقد مورست ضدّه حملة تسقيطيّة عنيفة، فكان سادة قريش يشيعون بيّن العامّة، أنّ محمداً (ص) ساحر، كاذب، شاعر، مجنون. وكانوا يثيرون على الدّوام سؤالاً استنكارياً، يعكس تخلّفهم العقائديّ الغارق، في التمسك بالأصنام: (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)؟. لقد عاش الرسول(ص) ثلاثة عشر سنة مع دعوته في مكة، عانى فيها ومن أيّد دعوته أنواع الإضطهاد، وقاسى فيها المتسضعفون من اصحابه، أشدّ انواع العذاب والقهر، حتى اضطروا للهجرة خارج مكة. لقد تعامل المجتمع الجاهلي بكلّ قسوة وعنف مع الإسلام ومعتنقيه، حيث قال المصطفى(ص): (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت).

وعندما نستذكر تاريخ عقيدتنا بوعي وبعمق، فإننا مطالبون للعمل من أجل إعادة صورتها الناصعة، من خلال العمل بقيمها النّبيلة، ومفاهيمها الإنسانيّة الراقية، وأنْ نقدم للعالم النموذج الرائع في التسامي الأخلاقي والترفع عن المحقّرات. وعندما نستذكر كفاح الرسول(ص) وصحبه المخلصين الأبرار، الذين كافحوا من أجل إحقاق كلمة العدّل والكرامة والانصاف. نكون قد وضعنا أنّفسنا في دائرة نوعين من المسؤوليّة. المسؤوليّة أمام الله تعالى. والمسؤوليّة أمام الإنسانيّة، فحريّ بنا أنْ ننهض بأعباء المسؤوليتيّن، وفاءً منّا لرسالتنا وتاريخنا وقيمنا. ولا سبيل إلى ذلك سوى العمل بمبادئ القرآن الكريم، وسنّة الرسول(ص)الصحيحة، وسنّة المعصومين(ع). فهذه هي الطرق المنجية التي سنحارب بها جاهليّة العصر الحديث، جاهليّة التّكفير والقتل لمجرد الإختلاف في وجهات النظر. هذه الجاهليّة وأفكارها الظلاميّة، يجب أنْ تقاوم بمنهج فكريّ، يستند إلى الحقائق الإسلاميّة الأصيلة، التي نادت بها رسالة الإسلام، بعيداً عن الإفراط والتفريط. لنؤكد من جديد قيم الحقّ والعدل والحريّة والمساواة، وبذلك نقدّم الإسلام العزيز إلى العالم، بحلّة الأصالة والحداثة معاً، فنسهم ببناء مستقبل رائع لأنفسنا ولأجيالنا وللعالم أجمع، مجسّدين تماماً عالميّة وخاتميّة رسالتنا الإسلاميّة المجيدة. وكل عام وانتم بخير.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 23/تموز/2009 - 30/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م