الإمامُ عليّ (عليه السلام)... مدرسةٌ صَنَعَتْ حَضَارَة

محمّد جواد سنبه

مقدمة:

أيا جدّي، ما قدري وشأني حتى أكتب عنك، لكن عذري في ذلك، عشقي لشخصيّتك المباركة، أولاً. ولأقدم للآخرين شيئاً مما أعرفه عنك، ثانياً، في زمن تصحّرت فيه روح الإنسان، وجدب الفكر فيه أو يكاد، حتى أصبحنا قاب قوسين أو أدنى، من جاهليّة ظلماء، كالّتي جابهتها يا مولاي، فمزقت دياجيرها بنور إيمانك، وبدّدت سفه أفكارها بإشعاع علمك، فتلك هي ذرائعي، لأكتب عن حضرتك، فأستميحك عذراً يا مولاي، لتجاوزي على مقامك الشريف سيدي.

عندما نستذكر الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فإننا نستحضر بذكراه، شخصيّة الرسول الأكرم نبينا محمد(ص)، لأنّه صنوه ونفسه، فقد صرح القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى: ((فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ))(آل عمران/61)، أنفسنا يعني نفس الرسول(ص) ونفس علي(ع). كما صرح رسول الله(ص) بمنزلة الإمام علي(ع) في حديث المنزلة(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

في البداية لابدّ أنْ نشير بأنّه(ع) مدرسة إسلاميّة، ومدرسة إنسانيّة، ومدرسة حضاريّة. وعندما نقول بأنّه(ع) مدرسة، فذلك يعني أنّه أسّس نظاماً معرفياً متكاملاً، وأصبح مصدر فيّض فكري وثقافي، ليس مقصوراً على زمانه فحسب، وإنّما امتّد عطاؤها إلى الحاضر، وسيصل إلى المستقبل أيضا. فهذه المدرسة لا ينضب نميرها، ما دامت الإنسانيّة مستمرّة في الوجود. فالإمام بعد رسول الله(ص)، غيّر وجه التاريخ، وصنع حضارة لأمّة متخلّفة وجاهلة، لا تدرك أبسط العلوم والمعارف، ولا تعرف ما يجري حولها في العالم، وحتى لم يثرْ انتباهها، نشاطات الأمم الأخرى، في تلك المرحلة التاريخيّة، وما تنتجه من علوم وفنون.

أمّة تعيش حالة الجهل العقائدي والمعرفي، لا تفقه من الحياة، غير السلب والنهب والحروب. العصبيّة القبليّة، هي القانون الذي يحمي الأفراد والجماعة من الآخرين، ومن بعضها البعض. ونوط شجاعتها، التفاخر في إراقة الدّماء. وهويّة فتوّتها، الانغماس في شهوات الجنس، (حيث دور ذوات الرايات الحمراء، كما يذكرها المؤرخون). وديّدن كبرائها التلذّذ بالشهرة ونوادي الخمور. جاهليّة تقدّس الأنا، وتغيّب جميع الاعتبارات الأخرى. جاهليّة لا ترضي بأنْ تمتدح ذات رئيس القبيلة وقومه، في منتديات الأثرياء والأسواق العامّة، بل كانت تصرّ بأن تعلّق قصائد مديح سراة القوم والقبيلة، على أستار الكعبة، وتبقى هكذا معلقة عاماً كاملاً، فتحولت الكعبة، إلى قناة أووسيّلة إعلاميّة، تنشر ثقافة الإستعلاء وجبروت الأسياد. وأصبح بيّت الله مرتعاً، لمختلف أنواع وإشكال الأصنام والأوثان.

مجتمع قيمة الإنسان فيه، لا تساوي قيمة كبش أوعنّزة. وغضب الرجل قد ينتهي، إلى قتل من أغضبه، فسار مثلهم (سبق السيف العذل). فساد في العقيدة، وخشونة في الطّباع، وانحراف في الأخلاق. في هذه الأجواء المنحلّة والمتخلّفة، ولد أمير المؤمنين(ع)، وكان لابدّ للمشيئة الإلهيّة، أنْ تلفت أنظار القوم، بأنّ هذه الولادة حدث خاصّ، لم تألفه الإنسانيّة قطّ، ولنْ يتكرر مرة أخرى مطلقاً، لذا احتفظت، بسرّ عظمة المولود، ودوره التاريخي، في تصحيح مسيّرة الإنسانيّة في الوجود. لقد ولد(ع) كما هومتّفق عليه تاريخياً، في جوف الكعبة المشرفّة، داخل فناء البيّت العتيق، بعدما انشقّ جدار البيت، أمام فاطمة بنت أسد(رض)،عندما لاذت بالبيت الحرام، طالبة مساعدة ربّ البيّت، ليسهّل أمر ولادتها، وسمي جدار الكعبة الذي انشق بـ(المستجار)، ولا زال إلى اليوم، يحمل هذا الإسم. لقد عجز أبوطالب(رض)، ومن معه من نساء بني هاشم، من الوصول إلى زوجته، لتقديم المساعدة لها، فلم يستطعْ فتح باب البيّت، للوصول إليها.

وبعد هذه المقدّمة يأتي السؤال: لماذا الإمام (ع) مدرسة صنعت حضارة ؟.

وللإجابة يجب معرفة ما المقصود من مصطلح (حضارة)، فلابدّ من تعريفه، فقد جاء في المعجم الفلسفي، للدكتور جميل صليبا: ((الحضارة... تطلق على مرحلة ساميّة من مراحل التطوّر الإنساني، المقابلة لمرحلة الهمجيّة والتوحّش))(ص/476). ولغرض إنتاج الحضارة، يجب أنْ تتوفر نهضة اجتماعيّة، ولكل نهضة لابدّ لها من مقومات أوعناصر، هي:-

 1. (إنسان) مؤهّل للقيام بالدّور الحضاري المطلوب، معدّ نفسيّاً وأخلاقيّاً، لتحمّل المسؤوليّة، ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)).

2. (عقيدة) تقود خطوات الإنسان، وتلهمه وتدفعه إلى التّضحية والإيثار(البعض يطلق عليها فكر أو ثقافة أو آيديولوجيا).

3. (مجتمع وأشياء ماديّة) وهي الأدوات التي تبرز من خلالها العقيدة. (المصدر/مجلة البحوث الإسلاميّة العدد 19ص33)(بتصرف)(وللمزيد يراجع كتاب شروط النهضة /مالك بن نبي).

وأوّل خطوّة خطاها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، كانت في تحصين نفسه عقائدياً، فانغمس وجوده كلاً، في أجواء الرسالة الإسلاميّة ومبادئها، فكانت روحه الشريفة، هائمة في ملكوت الخالق تعالى، لا ترى شيئاً في هذه الدّنيا، أحقّ من العبادة والاتصال بالله سبحانه، وإقامة العدّل والحقّ. ((إن فكرة الحقّ شغلته- كلية- عن سواها. وقد اختلف عن سواه من المفكرين والمصلحين، بأنه كان فيلسوف الحقّ بلا منازع، والذي أعطى لفكرة الحقّ زخمها النضالي، الواقعي، سلاحاً بيد الناس، وليس أملاً مجرداً. كان يُريد أنْ تكون فكرة الحقّ الغاية والوسيلة، لإنشاء عالم أرضي......، هو مدخلهم إلى الفردوس الإلهي. بهذا التوجه كان علي فيلسوف الحقّ الذي نبذ - منذ البدء- الطرح النظري الصرف عن(الحقّ)، والذي ليس له سنده المادي والواقعي. وتقوم مدرسة علي بن أبي طالب التربويّة، على وحدة مفاهيمه عن (الحقّ والعدل والحريّة)، وتطبيق تلك الوحدة في نشاطه الغني والمتنوع على خطوط السياسة، والثقافة، والحرب، والقضاء كافةً،الخ.

لقد كان الحقّ قضيّته الجوهريّة، فنال الخلود من قبل البشرية الواعية، لأنّها ترى في الحقّ قضيتها الأساسيّة، التأريخيّة، وأملها الموعود الذي تناضل من أجل أنْ يتحقق.))(علي سلطة الحق/عزيز السيد جاسم/ص 514).

أمّا الله تعالى فكان في عقيدة أمير المؤمنين(ع) محور الكوّن، فيقول (ع): ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حالاً، فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً، وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً))(نهج البلاغة الخطبة/64). والإمام عليّ (ع) صاحب الفهم العميق لهذه الحقائق، فقد قال له الرسول(ص): ((يا عليّ لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا)).

 وأمّا الرسول(ص) عند الإمام عليّ (ع)، فهو الهادي والمبلغ والمرشد والمعلّم. فيقول(ع):((ولقد كان يجاور بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام، غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة. ولقد سمعت رنّة الشيّطان حين نزول الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم )، فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنّة ؟. فقال: إنّه الشيّطان آيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي، ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير))(انتهى). وقال(ع)، وهو يلي غسل رسول الله(ص) وتجهيزه: ((بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالاِْنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّماءِ،... بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ(((نهج البلاغة الخطبة/234).

وأمّا الإسلام عند الإمام (ع)، فهو رسالة وعقيدة ومنهج ودستور، لتطبيق الحقّ. فيقول(ع): ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي شَرَعَ الاِْسْلاَمَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ، وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لَمِنْ تَدَبَّرَ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ، وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ))(نهج البلاغة الخطبة/ 105).

إنّ أبا الحسن(ع) قدّ خبر فلسفة الحياة بكلّ تفاصيلها، فقال يخاطبها: ((....يا دنيا أ بي تعرضت ؟، أمّ إليّ تشوقت؟، هيهات هيهات، غرّي غيري، قد باينتك ثلاثاً لا رجعة لى فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق)).

إذن الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، استجمع كل عناصر النهوض الحضاريّ، فهو الإنسان الذي يحترم الإنسانية، والمؤمن المخلص لعقيدته ومنهجها الفكري، وأخيرا استطاع أنْ يؤثر في المجتمع، فصدق الخليل بن احمد الفراهيدي (رحمه الله تعالى)، عندما سئل عن حال أمير المؤمنين(ع)، وقيل له: ما تقول في على بن أبى طالب (ع)؟. قال: ((ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً، وأخفاها محبوه خوفاً، وظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين)). فحري بشخصية الإمام علي بن أبي طالب(ع)، أن تتربّع على عروش النفوس والعقول، وتسكن أعماق الضمائر والأرواح،لأنّها مدرسة صنعت لنا حضارة الإسلام المجيد. فطوبى لأبي الحسن إخلاصه لله سبحانه، ولرسوله(ص)، ولعقيدته، وسلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/تموز/2009 - 14/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م