رهانات النجاح بعد الانسحاب الأمريكي من العراق

القوات الأمنية على المحك وملف السياسة الداخلية يتصدر التحليلات

إعداد: محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: غابت في انسحاب القوات الأمريكية الصورة النمطية المتمثلة بتراص الدبابات وهي تخرج من بغداد أو مشهد لآلاف الجنود وهم يسيرون لمغادرة البلدات والمدن العراقية، كما هي العادة في الصورة التقليدية لانسحاب الجيوش.

فالجيش الأمريكي كان قد سحب قواته تدريجيا من المراكز السكانية في العراق منذ أشهر، للوفاء بالموعد النهائي الذي وافقت عليه واشنطن وبغداد.

ومنذ يناير/كانون الثاني سلم الأميركيون أو أغلقوا أكثر من 150 قاعدة في أنحاء البلاد، على أن تسلم القوات الأمريكية نحو 300 موقعا في العراق تدريجيا إلى السيطرة العراقية.

وانسحبت آخر وحدات قتالية أمريكية من وسط بغداد الى قاعدتين كبيرتين قرب مطار بغداد وستتخلف بعض القوات المكلفة بتدريب وإرشاد القوات العراقية.

وصرح برايان ويتمان المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاجون) بأن الولايات المتحدة أغلقت او أعادت للسيطرة العراقية 120 قاعدة ومنشأة في العراق. بحسب BBC .

فيما يقول المسئولون الأمريكيون والعراقيون على السواء انه من المرجح ان يزيد المسلحون من هجماتهم في أعقاب انسحاب القوات القتالية الأمريكية من المدن العراقية.

وقد تسعى بعض الجماعات المتشددة الى إعطاء الانطباع بأن الفضل يرجع لها في طرد قوات الاحتلال.

ولا تعطي تلك الجماعات اي اعتبار لحقيقة ان الانسحاب الجزئي يجيء بموجب اتفاق امني أبرم العام الماضي بين الولايات المتحدة والعراق.

وقد يعتقد بعض المتمردين أيضا ان العراق وسكانه سيصبحون أكثر هشاشة فور انسحاب القوات الأمريكية الى قواعدها وان أمامهم فرصة أفضل لإشعال العنف الطائفي على نطاق واسع من خلال القيام بتفجيرات ضخمة.

لكن رغم ذلك هناك بعض المؤشرات بأن المقاتلين والجماعات المتشددة فقدوا القدرة على الاحتفاظ بالزخم.

وبالرغم من ان الشهر المنصرم شهد تفجيرين من أسوأ التفجيرات وأكثرها دموية خلال ما يزيد على عام إلا إن العدد الإجمالي للهجمات تراجع كما تمر أسابيع هادئة نسبيا بعد وقوع هجمات كبرى.

ويؤكد بعض المحللين إذا فشلت قوات الأمن العراقية في حماية الشعب العراقي من الهجمات المتصاعدة فمن المحتمل أن يتضرر نوري المالكي رئيس وزراء العراق من ذلك سياسيا.

وهو يعلق آماله على فترة رئاسة أخرى للحكومة بعد الانتخابات البرلمانية القادمة التي تجري في يناير كانون الثاني القادم استنادا الى قدرته على نسب الفضل لنفسه في تراجع العنف بدرجة كبيرة طوال 18 شهرا مضت.

من جانب آخر يرى محللون إن المالكي وضع نفسه في مأزق بتمجيد هذه المناسبة لأنه في حالة تصاعد العنف واضطراره الى طلب العون من الجيش الأمريكي فسيضره ذلك سياسيا.

كما ان موقف رئيس الوزراء العراقي قد يؤثر على سلوك القادة الميدانيين على الأرض وقد يكرهون طلب مساعدة القوات الأمريكية او توفير غطاء جوي مهما كان الأمر يتطلب ذلك خشية ان يعاقبهم رؤساؤهم ويتهمونهم بالضعف.

وتطلب الأمر إعادة بناء الجيش العراقي والشرطة الوطنية من الصفر بعد أن حل المسئولون الأمريكيون الذين أداروا العراق جهاز أمن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعد الغزو الأمريكي عام 2003 .

وخلفت هذه الخطوة آلاف المقاتلين بلا عمل وأغضبتهم ودفعت كثيرين الى الانضمام الى صفوف المسلحين.

ومنذ ذلك الحين انفق الجيش الأمريكي والحكومة العراقية مليارات الدولارات على إعادة بناء وتدريب وتسليح قوة أمنية عراقية قوامها 600 ألف فرد.

ويبدو الآن الجنود العراقيون عند نقاط التفتيش صورة شبيهة بالأمريكيين الذين دربوهم. ويقول قادة أمريكيون إن الشرطة تحتاج الى مزيد من العمل لكنها تحسنت كثيرا عن عامين مضيا.

هل سيرضخ أفراد القوات العراقية نظرا لهشاشتهم أمام تهديد أسرهم أو أمام الرشوة؟

فالفساد تفشى في العراق البلد المنتج للنفط وأدى ذلك الى شكوك كثيرة بين عامة الناس في نزاهة قوات الأمن المحلية.

وكان العراق دولة بوليسية قوية تحت حكم صدام. وكانت السلطات تتعامل بقسوة مع الجريمة والعنف باستثناء ما ترتكبه الدولة نفسها.

فيما تخشى الأقلية الكردية في الشمال من ان انسحاب القوات الأمريكية سيتركهم عرضة لغضب الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة في بغداد.

فالأكراد الذين يعيشون في منطقة تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي فهم في خلاف مع بغداد حول النفط والأراضي ويخشون ان تقيد حكومة المالكي التي يهيمن عليها عراقيون عرب من الاستقلال الذي تمتعوا به تحت الحماية الغربية منذ حرب الخليج الأولى عام 1991 .

وفور انسحاب القوات الأمريكية ستزداد مخاطر حدوث مواجهة بين مقاتلي البشمركة الأكراد والجيش العراقي كما ان رفض السنة لاستبعادهم سياسيا او شعورهم بالاضطهاد قد يذكي من جديد حركة التمرد.

ومن جانبها، تتجنب وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" إظهار أي صور لانسحاب القوات الأمريكية بشكل يحي ذكريات الانسحاب من سايجون في فيتنام عام 1975.

ومن المقرر ان ينهي الجيش الأمريكي عملياته الحربية في العراق نهائيا بنهاية شهر سبتمبر/ايلول 2010، وسينسحب من البلاد كليا بحلول نهاية عام 2011.

ولكن بالرغم من الانسحاب الأمريكي الذي تم، سيواصل الجيش الأمريكي الاحتفاظ بوجود ضمن القوات العراقية بصفة استشارية وتدريبية.

وسيعتمد نجاح عملية الانسحاب النهائي بشكل كبير على قدرة الزعماء السياسيين العراقيين على حل المشاكل الكثيرة والخطيرة التي تعاني منها البلاد.

يذكر ان أكثر من 131 ألف عسكري أمريكي ينتظمون في 12 فرقة سيبقون في العراق في المستقبل المنظور، ولا يتوقع ان ينخفض عددهم عن 128 الف قبل حلول موعد أجراء الانتخابات النيابية المقبلة في شهر يناير/كانون الثاني القادم.

وكانت وحدات من الجيش العراقي قد أجرت استعراضات في شوارع بغداد وآلياتها مزينة بالورود والأعلام العراقية بينما أذيعت الأغاني الوطنية عبر مكبرات صوت جرى تثبيتها في نقاط السيطرة التابعة لقوات الامن.

وكان قادة أمريكيون قد قالوا إن الوضع الأمني في العراق يسير باتجاه التحسن، وان القوات العراقية باتت مهيأة لاستلام المسؤولية الأمنية في البلاد.

ورغم حقيقة انه لن يجري أي خفض في عدد القوات الأمريكية العاملة في العراق قبل مرور سنة واحدة يرى السفير الأمريكي في العراق كريستوفر هيل إن الذي ما يجري يعتبر علامة فارقة على الطريق.

وقال السفير هيل: "أجل، نعتقد إن العراق مستعد، والعراق نفسه يعتقد انه مستعد." بحسب BBC .

وأضاف: "لقد أمضينا الكثير من الوقت في التعاون مع قوات الأمن العراقية، وهناك تفاهم بيننا ان الوقت المناسب قد حان."

مؤكدا في الوقت نفسه على ان الولايات المتحدة ستحتفظ بوجود عسكري كبير في العراق في الأشهر المقبلة.

حيث قال: "سنبقى في العراق بعد الثلاثين من يونيو/حزيران بلا شك."

ويأتي الانسحاب الأمريكي اليوم بعد مضي سنتين على قيام الولايات المتحدة بضخ أعداد إضافية من جنودها في العراق (بين شهري فبراير/شباط ويونيو/حزيران 2007) مما رفع عددهم في البلاد الى 168 ألف جندي.

هل اكتملت المهمة

من جانب آخر يرى بعض الخبراء الأمريكان أن إصرار أوباما على الخروج من العراق وتجاهله بناء الديمقراطية الراسخة والاستقرار فيه، سيعود بالضرر على العراق والمنطقة، ناصحا إياه بتخصيص وقت أكبر للعمل مع العراقيين لايجاد أفضل السبل للبقاء معهم.

حيث يقول جون ب. حنا، الزميل في معهد واشنطن للأبحاث، في مقال بعنوان “هل أنجز العمل؟” في صحيفة لوس انجلس تايمز Los Angeles Times إن القوات الأمريكية “ستغادر مدن عراقية بموجب اتفاقية تم التفاوض عليها في عهد الرئيس بوش”، مشيرا إلى أنه على الرغم من أن الرئيس اوباما “أيد بنحو كبير جدول بوش الزمني لخفض الوجود العسكري الأمريكي في العراق، إلا أن المدى الذي اعتمد فيه أيضا تقدير سلفه لأهمية إنجاز الأهداف الأمريكية الإستراتيجية في العراق، يبدو أقل وضوحا”.

فرأى الكاتب، الذي كان مستشارا للأمن الوطني لنائب الرئيس الأمريكي السابق دك تشيني للمدة 2005-2009، أنه على الرغم من أخطاء إدارته في العراق، إلا أن بوش كان “يفهم بوضوح حتمية النصر الذي تعهدت به القوات الأمريكية في ما مضى.. وكان يعرف أن إزالة القوات وهي تحت النار من شأنه أن يكون كارثيا إذ لتجاسرت القاعدة وإيران على الولايات المتحدة.. إذ ستنهار المصداقية الأمريكية في الشرق الأوسط وينحدر العراق إلى الفوضى، ويزداد الارتباك في منطقة حيوية لمصالح الولايات المتحدة”.

والأكثر ايجابية، كما يقول حنا، إن بوش “كان يفهم أيضا أن الإيفاء بالتزامنا في مساعدة العراق على بناء ديمقراطية مستقرة، يمكنه الدفع بالمصالح الأمريكية إلى الأمام في المدى الطويل وهذا من شأنه أن يقدم للشرق الأوسط العربي ـ المنطقة التي وفرت الايديولوجيا، والتمويل، والقيادة، ومواطئ القدم لهجمات 11/9/2001 ـ أنموذجا قويا عن ديمقراطية ناجحة وحديثة”، وتابع “كما أن الولايات المتحدة ستؤمن موطئ قدم إستراتيجي في أحد مراكز العالم المسلم التاريخية، التي تتمتع بالقوة السياسية والدينية والثقافية”.

ففي حين أن النخب الغربية ربما تسخر من بوش، كما ذكر الكاتب، إلا أن الكثير من الناس في الشرق الأوسط “يثمنون صحة نفاذ بصيرة بوش الإستراتيجية المركزية، إذ أن عراق ديمقراطي ـ مصطف إلى جانب الولايات المتحدة ويتمتع باحتياطيات نفطية واسعة، وموارد مائية وشعب مجدّ كبير ـ من الممكن أن يحول منطقتهم إلى الأفضل، من خلال مساندة قوى الإصلاح التقدمي على الضد من توجهات المتطرفين سنة وشيعة”.

وانتقل الكاتب إلى فحص تعامل الرئيس أوباما مع العراق قائلا “تحت إدارة أوباما، فان تعهد بوش بالفوز في العراق قد اختفى، لأنه مقتنع منذ البداية أن الحرب كانت خطأ، وهي قناعة رسخها العمل الأخرق لفريق بوش لما بعد الغزو”.

وأردف “فقد كان أوباما وعلى مدى سنوات المروج الرئيس لحكاية الفشل إذ ترى تلك الحكاية العراق بوصفه كارثة هائلة ـ والهاء لا معنى له استنزف موارد الولايات المتحدة في وقت يفرط فيه ببقية العالم”.

واستطرد “فيما يتحدث أوباما عن التزام مبهم في مساعدة العراقيين على صياغة مستقبل أفضل، فان استنتاج أوباما الجوهري يأتي مدويا وواضحا إذ يرى أن الحرب كانت خطأ إستراتيجيا فادحا، والأفضل أن تتمكن أميركا عاجلا من أن تغسل يديها منه وتعيد تركيزها على أولوياتنا الحقيقية في الشرق الأوسط”.

وبالنظر إلى أن اوباما تبنى إلى حد كبير جدول بوش الزمني لسحب القوات الأمريكية، فبإمكاننا أن نتساءل، كما واصل الكاتب، عما إذا “سيشكل فرقا مواصلته النظر إلى العراق بوصفه مسؤولية ينبغي الهرب منها أكثر منه شيئا ثمينا يجب تأمينه”. والإجابة القصيرة عن ذلك كما قال الكاتب “هي نعم إذ من الممكن أن يكون للسايكولوجيا في الشؤون الدولية تأثيرات إستراتيجية”.

وعندما أجاز بوش “زخم” القوات الأمريكية في العراق، كان للوقع السايكولوجي “أهمية مقنعة بمستوى أهمية الوقع العسكري”، حسب ما يلاحظ الكاتب. إذ في خضم مزاعم المتمردين بإحراز النصر ونزيف الدعم الأمريكي المحلي للحرب، بعث قرار بوش في مضاعفة حجم القوات بدلا عن التراجع “برسالة قوية إلى الصديق والعدو مفادها أنه ليس لدى الولايات المتحدة النية في التخلي عن العراق. وعندما إطمأن العراقيون إلى ذلك، استجمعوا قواهم لمواجهة القاعدة والميليشيات المدعومة من إيران، وكرسوا أنفسهم لبناء دولة ديمقراطية مستقلة وتعددية”.

وهنا رأى الكاتب أن اوباما “يخاطر في إذكاء دينامية معاكسة فالعراقيون ينصتون إلى خطبه ويسمعون أن الانسحاب، وليس النصر، هو أول أولوياته ويرون أن أميركا تبدو أكثر اهتماما بالدخول في صراع مع إيران أكثر من عنايتها بتعزيز عراق ديمقراطي”.

وفي زياراتهم إلى واشنطن “عرفوا أن ليس هناك مسئولا كبيرا واحدا مقربا إلى الرئيس مكلف بالإشراف على السياسة الأمريكية في العراق، ولم يعين شخص لهذا المنصب إلا في الاسبوع الماضي”، بحسب الكاتب.

وكشف الكاتب أن زعيما عراقيا كبيرا سأله بين المزاح والجد في أثناء زيارة له إلى العراق مؤخرا “أنتم الأمريكيون، هل ستبقون هنا؟”.

وعلق الكاتب أن “الفراغ الذي يحدثه تصور تزايد عدم اهتمام الأمريكيين أمر ملموس فعلى الأقل قبل الاضطراب الذي شهدته إيران في الشهر الحالي، كانت الجمهورية الإسلامية تملأ الفراغ بنحو متزايد فعمليات التأثير الإيراني قد تصاعدت بنحو كبير منذ أن تولت إدارة أوباما مهامها، وهذا ما تجلي بوضوح في أكثر من طفرة في مستوى زيارات مسئولين إيرانيين من مستوى رفيع إلى العراق”.

ومرة أخرى “شعر العراقيون بشك عميق في التزام أميركا في المدى الطويل بمستقبلهم، فشرعوا يؤمنون مصالحهم بطرق غير نافعة”، حسب ما قال الكاتب.

إذ أن تكييف أنفسهم مع أجندة الصراع الإيراني المقبل بدلا عن تكييف أنفسهم مع المحررين الأمريكيين المغادرين “يصبح بنحو متزايد جدول أعمالهم اليومي”.

وعلى الرغم من أن إدارة بوش “ارتكبت العديد من الأخطاء المكلفة في العراق”، كما أقر حنا، إلا أن الزخم، زيادة حجم القوات الأمريكية “مثّل نجاحا باهرا أعاد وضع هدف بناء عراق مستقل وديمقراطي في متناول اليد كما يتضح من نجاح انتخابات كانون الثاني يناير المحلية”.

واختتم الخبير الأمني جون ب. حنا مقاله قائلا إن أوباما في “وضع يمكنه من تحقيق هذا الهدف، لكن فقط إذا قابل الانسحاب العسكري الأمريكي التزام دبلوماسي واقتصادي ملائم وعميق وفي مستوى عال”.

واستطرد أن هذا، على أية حال، “سوف يتطلب من الرئيس ترك مجال قليل لإشاراته إلى حرصه على الخروج من العراق، ومنح وقت أكبر للعمل مع العراقيين لمعرفة أفضل سبل بقائنا”.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 2/تموز/2009 - 9/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م