العرب بين الرعية والمواطنة

Citizenship & Subject

علاء الخطيب

لم يتمكن العقل السياسي العربي رغم نشوء شكل الدولة الحديثة من تجاوز عقدة البداوة والإقطاع وعقلية الاحتلال العثماني في ماهية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد بقي مفهوم الرعية ساكنا ومتجذرا في العقل الباطن للسياسيين العرب وانعكس ذلك على شكل العلاقة بين الشعب والحكومة, رغم تمشدق بعض السياسيين بمصطلحات الوطن والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة المؤسسات.

 إلا ان بنية التفكير لم تتغير بعد,فليست عملية إطلاق المصطلحات يعني ان هناك واقعا ً قد تغير، ولكن نحتاج الى بناء ثقافي تحتي من أجل النهوض بواقع الإنسان العربي، وردم الهوة الحاصلة جراء التناقض بين الواقع وبين الشعارات، أو لنقل أن هناك حاجة للحداثة في التفكير, وثورة على المفاهيم القديمة التي تخص العلاقة بين الحاكم والمحكوم,وهذه الثورة تستتبع تغير ثقافة الشارع السياسية، اي تغيير ثنائية السيد والعبد الى ثنائية الوطن والمواطن, اي من الرعية (العبودية) الى المواطنة وهناك فرق كبير بين الرعية والمواطنة.

 فالرعية تدل على ان هناك راعي وقطيع فلا يحق لأفراد هذا القطيع بمقتضى العلاقة بينه وبين الراعي أن تكون له إرادة الرفض أو الإعتراض وبمقتضى هذه العلاقة أيضا أن الراعي يحق له أن يقود قطيعه بما يلائم مصلحته وأحيانا ً مزاجيته، لأن القطيع ضمن هذه النظرية هو ملك الراعي فللراعي الحق المنع او العطاء كما أنه يمتلك حق الحياة أوالموت, وقد نرى ذلك جليا الشارع العربي من خلال مصطلحات الشارع أو من خلال التطبيل والتزمير للحاكم وتسخير كل امكانات البلد لخدمته فهو المواطن الأول وهو المواطن الأخير.

 وعلى سبيل المثال ولنأخذ الشارع العراقي نموذجا ً، تستوقفك في الشارع العراقي مفردات توضح ثقافة الرعية لا المواطنة، فمثلا ً عند الدخول الى مركز الشرطة أو اللقاء بأي عسكري تتردد كلمة (سيدي) باستمرار, مع العلم إن استعمال هذه الكلمة في المجال العسكري وبين العسكريين شيء طبيعي بل ضروري للتراتبية العسكرية ولكن من غير الطبيعي استعمالها من قبل عموم الناس في الشارع،فهذه الكلمة تدل على أن هناك خلل في مفهوم المواطنة, فالمواطن له الحق في هذا الوطن فهو شريك وسيد، ولا ينبغي له أن يكون عبدا ً خاضعا ً, فما المسؤول إلا موظف يؤدي وظيفته كما للآخرين وظائفهم, وهو محكوم بقانون لا يحق له تجاوزه، وهناك مفردة أخرى هي كلمة (عمِّي) هذه المفردة يستعملها أغلب العمال حينما ينادون أرباب العمل وتجدها منتشرة على السن عمال المطاعم وأفراد الطبقة الفقيرة وعند سماعك هذه الكلمة ينتقل بك التاريخ الى عصور الإقطاع والفلاحين أو الى زمن العبيد والسادة.

 والحال هذا ليس مقتصر على انتشار هذه الثقافة بين الناس بل يتعداها الى المسؤولين الكبار الذين يفتخرون بممارساتهم الديمقراطية، ففي مقابلة تلفزيونية مع أحد المسؤولين العراقيين الكبار وهو يرد اعتراض مفاده (لماذا يخصص للمسؤلين الكبار مخصصات مالية ضخمة وليس داخلة في رواتبهم الوظيفية، وذلك من أجل الهبات والعطايا والدعوات والولائم) فيقول وبامتعاض شديد أن هؤلاء المسئولين مقصودون من قبل الناس والناس تطلب منهم باستمرار ولا يمكن رد الناس او التغاضي عن طلباتهم، متناسيا هذا المسؤول أن في دولة المؤسسات وفي النظام الديمقراطي مؤسسات ترعى شؤون المواطنين ولا دخل للمسؤول في ذلك فالمسؤول هو مواطن كبقية المواطنين لا يحق له ان يتلاعب بالمال العام ومن أعطاه هذا الحق بأن يوزع الأموال بما يشاء وبما يحقق له مجد شخصي، ولكن لضعف الوعي الجماهيري بمفهوم المواطنة وعادة الجماهير على أخذ دور الرعية قد أعطى الحق لهذا المسؤول وغيره أن يسلك هذا السلوك.

 ففي المجتمعات السلطانية والقبلية يتكرس مفهوم الرعية،ويكون واضحا في سلوكياتهم، فقد أعتاد الناس في البلدان العربية بأغلبها وفي العراق بشكل خاص أن يتوجهوا في إحتياجياتهم ومشاكلهم الحياتية الى المسؤول (الحاكم) لحلها فالمواطن يتصور أن الحاكم هو المتفضل والواهب، ويستخدم لغة الخضوع والذل أحيانا ً من أجل حق مشروع، لذا نرى ومن على وسائل الإعلام مناشدات الى الرئيس أو الملك أو رئيس الوزراء أو اي مسؤول بإصدار أمراً بتعيين موظف أو عزل آخر أو علاج مريض مرضه مستعصي, أو إطلاق سراح سجين وأنواع أخرى من التوسلات والالتماسات التي تؤكد على رسوخ مفهوم الرعية في المجتمع العربي وتهميش دور المواطنة مع صخب الحديث عن الديمقراطية والدولة الحديثة وحقوق الانسان.

ويتناسى هؤلاء السياسيين أن الديمقراطية لا يمكن أن تتأسس بدون مفهوم المواطنة، فما قيمة الديمقراطية دون معرفة مرتكزاتها ومقوماتها وأهمها المواطنة، فالفرد العربي الذي لا يعرف ذاته حتى الآن كمواطن لا يجد ضرورة في الديمقراطية، فهي في أفضل الحالات بالنسبة اليه مرادف للحرية فقط، وفي أسوأها ترف لا ضرورة حقيقية له.

فاذا لم يكف الفرد العربي عن وعي ذاته ككائن غير سياسي (وهذا هو في الحقيقة المعنى المقابل للمواطن)، ووعي السياسة كوظيفة للسلطة فقط (المرادفة للسلطان) فأية ديمقراطية ترتجى؟ ونحن هنا لا نطلب المستحيل من الإنسان العربي ولا نطلب أن يلغي موروثاته الثقافية بين يوم وليلة ولكن عليه البدء بعملية الوعي وهذا يوجه للنخب السياسية والثقافية في البلدان العربية، فمن المعلوم أن مفهوم المواطنة كمصطلح غير موجود في القاموس السياسي العربي، فكلمة المواطنة ليس لها ذكر في المعاجم اللغوية العربية وإن وجدت كلمة وطن او توطين أوطان أو موطن أو غيرها، فهي تختلف عن المصطلح المتداول الآن, وهي بالتالي ليست رديفة للرعية وتختلف عنها بالكامل.

 فالرعية كما جاء تعريفها في دائرة المعارف البريطانية مفهوم يشير الى وجود مملكة وفيها أعضاء ليس لهم ذات حقوقية مستقلة، ويديرها راعي يمتلك الذات الحقوقية وله كل الامتيازات وعلاقته بالاعضاء علاقة الراعي بالقطيع ويستمد قوته بالاستبداد والغلبة، فلايحق لأفراد القطيع الأعتراض أو الاقتراح في موضوع ما يدل على المشاركة في أحسن الأحوال، وتتلخص وظيفة الرعية في الثناء على الراعي وكيل المديح والدعاء له بطول العمر لأنه هو ولي النعمة، لذا نرى في بعض البلدان العربية مفردة متداولة هي (يا طويل العمر) التي تكرس ثقافة الرعية في المجتمع، بينما نرى في بلدان عربية أخرى أن الرعية تقبل يد الحاكم وتقبل الارض بين يديه خضوعا وفي ليبيا التي تصطبغ باللون الأخضر لأنه اللون المحبب لدى الحاكم تتعالى صرخات الديمقراطية والمشاركة الجماهرية وتُنتقد الديمقراطية الغربية، بينما تقطع العلاقات الدبلوماسية مع دول اروربية ارضاء ً للراعي وتعتبر قضية الفرد قضية شعب وتخرج المظاهرات المنددة بتلك الدولة التي تعتدي على الرمز والراعي وابن الراعي.

 وفي دولة أخرى يغير الدستور من أجل الراعي، فلا يحق لأحد الإعتراض أو ينبت ببنت شفه إطلاقا ً، والامثلة كثيرة, ولا اريد الاسهاب بالموضوع، ولا يكاد بلد عربي يخلو من هذه الثقافة عدا لبنان وجزء من مصر ونأمل أن يحذو العراق حذو شقيقه لبنان في ترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية، والسؤال المطروح متى تنتشر ثقافة المواطنة وتُكرس قيم الديمقراطية ونتخلى عن ثقافة الرعية في بلداننا، سؤال موجه الى النخب السياسية المثقفة والى المثقفين في بلداننا،علما ً انني لا أقصد في هذا المقال معنى الرعية في الفكر السياسي الإسلامي بل ماهو مطروح في الشارع العربي، لأن ما هو مطروح في الفكر السياسي الإسلامي قيم راقية في المواطنة وما عسانا إلا أن نلقي نظرة الى وثيقة العهد او ما تسمى بوثيقة المدينة المنورة في التاريخ بين النبي الأكرم محمد (ص) ويهود المدينة لنكتشف نظرة الإسلام لمفهوم المواطنة المبنية على مبدأ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وعلى قول النبي (ص) كلكم لآدم وآدم من تراب.

 فهذه وثيقة راقية المعاني الإنسانية وذات قيم عظيمة فيما يخص المواطنة بالتحديد،فأذا كانت إيطاليا صاحبة الدور الأهم في عصر النهضة قد حازت قصب السبق في القرن السادس عشر في فتح الباب أمام العقل السياسي الأوربي، وانكلترا التي رسخت قيم المواطنة الحديثة بثورتها نهاية القرن السابع عشر الميلادي، لتسلم الراية الى الفرنسيين الذين أحدثوا نقلة نوعية في مفهوم المواطنة الحديثة من خلال مجموعة فلاسفتها الكبار أمثال جان جاك روسو صاحب نظرية العقد الإجتماعي وفولتير وروبسبير ومنتسيكيو صاحب كتاب روح القوانين الشهير هؤلاء الذين نبذوا الاستبداد وحاربوه كما حاربوا الملكية المطلقة وقانون الحق الالهي وغيره من انواع الاستعباد، فهل نشهد دولة عربية في القرن الواحد والعشرين تكون السباقة لتكريس قيم المواطنة في المجتمع العربي؟

 نأمل أن يكون العراق سباقا ً الى ذلك, يبقى هذا مجرد طموح،لأننا نعلم أن تغير المنظومات الثقافية تحتاج الى المزيد من العمل والتضحية ومزيد من الشجاعة والجرأة وتحمل الكثير من الضغوط لأن هناك منظومات لا يمكنها التنازل وإن كانت على خطأ.

* كاتب واكاديمي / لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 17/حزيران/2009 - 19/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م